حشود بشرية بانتظار الجولة المقبلة
مازن عبد الله
لقد حاربت إسرائيل العرب وتحدت المسلمين طوال الفترة الماضية وبقلة
بشرية قليلة، كانت تعتمد فيها على تفوقها الاستراتيجي الذي استطاعت به أن
تعوض عن نقطة ضعفها بشرياً وجغرافياً في محيط بشري وجغرافي عربي كبير،
فكانت كلما خاضت حرباً ربحتها، وكانت معنويات العرب حينذاك مرتفعة.. أما
الآن؛ فإن الأجواء قاتمة، وإذا سارت الأمور على ما هي عليه، وبقي العرب
يتخبطون في حالتهم الراهنة، فإن ذلك نذير خطر ماحق ومخيف، وستجري
الرياح بما لا تشتهي سفن العرب والمسلمين، فحالة العرب اليوم مؤسفة، وضعهم
مُخْزٍ، والتآمر عليهم من كل جانب، بينما تتزاحم الدول على خطوبة ود إسرائيل،
فتُغلق الأبواب بوجههم وتُفتح بوجه إسرائيل، تُنزع الأسلحة من أيديهم، وتُعقد صفقات الأسلحة المتطورة مع إسرائيل، تجهض كل حركة للخروج بالعرب مما هم فيه، ويضرب الإسلام في بلاده، ويقدم الدعم وتعطي الحرية لإسرائيل، وتتدفق موجات الهجرة عليها …
في عام 1835: كانت الطائفة اليهودية في فلسطين تقدر بحوالي عشرة آلاف
شخص (وفقاً لتقديرات نيفل) [1] . وكانت هجرة اليهود إلى فلسطين وقتئذ ضئيلة
جداً، ولم تزد بل ولم تبدأ بشكلها المنظم والمدروس إلا بعد قيام الصهيونية على يد
تيودور هرتزل، الذي أخذ على نفسه العهد بأن يكافح ضد الاندماج اليهودي في
المجتمعات التي يعيشون فيها، ويدافع بحماس عن هذه الفكرة، وطالب بفصلهم
ليكونوا دولة خاصة بهم، لقد بذل هرتزل كل ما بوسعه لتحقيق هدفه هذا، فاتصل
بكل المسؤولين الفاعلين في لندن عاصمة الدولة العظمى وقتئذ، وأقنعهم بضرورة
المساعدة على تحقيق هذا الهدف الذي يريح اليهود ويريحهم. ولقد تحدث لنفس
الغرض مع وزير خارجية ألمانيا (فون بولوف) ومع (غليوم الثاني) ، واتصل
بالقيصر الروسي نيقولا الثاني، وبوزير داخليته (بلهف) الذي كتب له رسالة جاء ...
فيها: (إن الصهيونية التي تشجع اليهود على الهجرة في روسيا ستلقى الترحيب،
ولكن شريطة ألا يشجع ذلك على قيام قومية أجنبية في روسيا..) .
لقد كان للاضطهادات التي حلت باليهود في أوربا في روسيا ورومانيا
وبولندة، ومن ثم في ألمانيا فائدتها وأثرها الطيب عند تيودور هرتزل، كما أن
حركة (معاداة السامية) كما يسمونها وموجات العداء التي انتشرت في تلك المجتمعات ضد اليهود، ومن ثم الدعوة، للانتقال للقتال لإنقاذ الإيمان اليهودي
والثقافة اليهودية ورسالتها. كان لكل تلك العوامل مردودها الطيب عند هرتزل،
حيث أنها ساعدته كثيراً في تشجيع وإقناع اليهود بضرورة بناء وطن قومي ومستقل
لهم، وبضرورة الهجرة إلى فلسطين.
وفي سنة 1897: استطاع هرتزل أن يجمع غالبية القوى والحركات اليهودية
في مؤتمر (بال) بسويسرا، وتم على أثر هذا المؤتمر وضع مخطط عملي،
وحددت الخطوط العريضة التي يتعين على كل المشاركين في هذا المؤتمر العمل
على تنفيذها وبدقة، من أجل الوصول إلى إقامة الدولة اليهودية. وقد كان هدف
الوكالة اليهودية الأساسي حينذاك: العمل على إنشاء (الوطن القومي اليهودي) في
فلسطين، وتنظيم الهجرة إليها. وأخذت على عاتقها مهمة تحقيق هذا الحلم، وبدأت
فعلاً بتجنيد كل ما تملك من طاقات من أجلها، فكانت حلقة الوصل بين يهود
فلسطين وحكومة الانتداب، وبينهم والعرب، وبينهم ويهود العالم..
في أواخر القرن التاسع عشر كان هناك أقل من (50000) يهودي في
فلسطين، وفي الفترة ما بين عامي: 1920و1932 وفِد إلى فلسطين حوالي
118300 يهودياً، جاءوا بمحض إرادتهم، ولكن طبعاً بفضل الدعاية الصهيونية
وتشجيع الحاخامات المستمر، وفي عام 1910: بعثت الوكالة اليهودية إلى اليمن
واعظاً صهيونياً ادعى الاشتراكية، اسمه (وارشفسكي) ، ولقد أطلقوا عليه لقب
الحاخام.. لقد بذل هذا الواعظ جهوداً كبيرة في اليمن؛ أسفرت في النهاية عن إتمام
عملية استيراد لليهود اليمنيين في عام 1948، العملية التي أطلق عليها اسم (بساط
الريح) ، والتي نفذت على مرحلتين: الأولى في ديسمبر 1948 إلى مارس 1949، والثانية: في يوليو 1949 إلى سبتمبر 1950، تكلفت 5ر5 مليون دولار.
فلقد أنشأت المخابرات الإسرائيلية أول جسر جوي بين عدن وتل أبيب، تم
بواسطته نقل حوالي 000,600 يهودي يمنيّ إلى إسرائيل، ولقد استغلت
إسرائيل وقتئذ فترة انشغال العالم الذي كان خارجاً من الحرب العالمية الثانية لتمرر
هذه الصفقة وبصمت وسرية تامة لم يفطن إليها أحد.
لقد تم الجزء الأول من عملية (بساط الريح) بنجاح تام، ولكن بالرغم من
هذا، فإن حركة الهجرة إلى إسرائيل كانت مازالت ضعيفة نسبياً، الأمر الذي
أزعج زعماء الصهيونية، فجاء خطاب (بن غوريون) في 31/8/1948، وفي
حفل استقباله لمجموعة من اليهود الأمريكيين، حيث قال: (رغم أننا حققنا حلمنا
بإقامة دولة يهودية، فإننا مازلنا في بدء العملية، وليس في إسرائيل اليوم سوى 900.000 يهودي، في حين تتواجد أغلبية الشعب اليهودي خارج إسرائيل،
يجب أن نجلب جميع اليهود إلى إسرائيل) .
لقد بدأت وعلى أثر كلمة (بن غوريون) هذه عمليات تنشيط مفتعلة في كل
المناطق التي يوجد فيها اليهود، سواء كانت شرقية أم غربية. وبدأت الدعاوي
والنداءات من قِبل كبار الصهاينة والحاخامات المسؤولين عن تلك المناطق،
لتشجيع اليهود على الهجرة إلى إسرائيل، مستعملين كل الأساليب الترغيبية
والترهيبية؛ من أجل الإسراع بتلك العملية. وهكذا كان، فلم تمض عدة أشهر حتى
استطاعت الوكالة اليهودية من استكمال عمليتها التي بدأتها في ديسمبر 1948،
حيث نقلت حوالي 20.000 يهودي يمني من عدن إلى تل أبيب، وكان ذلك في
عام 1950.
في عام 1948: كان عدد الطائفة اليهودية في العراق حوالى 110.000
شخص. وكانت جذور هؤلاء في العراق مغرقة في القدم، وكانوا يتمتعون بنفس
الحقوق التي يتمتع بها العرب. ففي عام1950، ولما رفض حاخام العراق وقتئذ
(خدوري ساسون) الانصياع لمطالب بن غوريون ودعاوى الصهاينة، بدأت أعمال
الإرهاب ضد يهود العراق؛ فنظمت المخابرات الإسرائيلية خلايا سرية كلفتها
بمهاجمة اليهود هناك، وإلقاء القنابل عليهم، واغتيالهم؛ مما أدى إلى نشوء حالة
من الذعر والخوف بين صفوف اليهود، الذين ظنوا بأن العرب هم وراء أعمال
العنف هذه، فاندفعوا تحت تأثير هذا الرعب ليهاجروا إلى إسرائيل، لقد تولت
الوكالة اليهودية عملية نقل يهود العراق إلى إسرائيل، العملية التي أطلق عليها اسم
عملية (علي بابا) ، والتي تم فيها نقل حوالى 100.000 يهودي عراقي عبر
جسر جوي تم فتحه خصيصاً بين بغداد وتل أبيب.
في عام1956: وبناء على موافقة ملك المغرب على هجرة يهود بلاده، تم
نقل 67.000 يهودي مغربي إلى إسرائيل. وتجدر الإشارة هنا بأن أكثر
التجمعات اليهودية في البلاد العربية كان موجوداً في المغرب، ولقد استطاع العديد
منهم الوصول إلى مناصب حكومية بارزة، وكانت تربط بينهم وبين حاكم البلاد
علاقات طيبة، فهم يكنون احتراماً كبيراً للملك محمد الخامس، والد الحسن الثاني،
بسبب رفضه تسليم اليهود المغاربة للنازيين أثناء الحرب العالمية الثانية..
وبالإضافة إلى موجات الهجرة الرئيسية هذه، كانت هناك عدة هجرات أخرى
لليهود من البلاد العربية، ولكنها كانت تتم بأساليب أقرب إلى الشكل الفردي منها
إلى الشكل المنظم والجماعي ... أما على صعيد دول أوربا، فلقد تمت عدة هجرات
مماثلة، ولكنها كانت ضعيفة نسبياً ولم تكن بالشكل المطلوب. فإنه وبالرغم من
الجهود التي بذلتها الحركة الصهيونية في تلك المناطق لتشجيع الهجرة، لم تستطع
هذه الجهود أن تحقق سوى القليل مما خططت وتعمل عليه. وتجدر الإشارة هنا إلى
أن أكثر التجمعات اليهودية في أوربا موجودة في فرنسا وبريطانيا، فيوجد حوالي
450.000 يهودي في بريطانيا، وحوالي 550.000 يهودي في فرنسا، ثلثهم ...
من يهود شمال أفريقيا الذين هاجروا إليها من الجزائر والمغرب وتونس وليبيا منذ
عدة سنوات.
لقد انتبه زعماء الصهيونية لتلك المشكلة، فراحوا يطلقون الصيحات
والتصريحات، مطالبين إخوانهم المشتتين بالعودة إلى وطنهم (أرض الميعاد) ؛
لمؤازرة إخوانهم هناك، والعمل معهم من أجل الوصول إلى ما (وعدوا به) .. ففي
تصريح لبن غوريون، نشرته مجلة نيويورك تايمز في 2 شباط 1959، قال:
(وإن انتصار إسرائيل النهائي سيتحقق عن طريق الهجرة المكثفة، وإن بقاء
إسرائيل يعتمد فقط على توافر عامل هام هو: الهجرة الواسعة إلى إسرائيل) .
لقد ساهم بن غوريون كثيراً في دفع حركة الهجرة إلى إسرائيل، وخاصة بعد
الإعلان عن قيام الدولة اليهودية، ومع المجهود الكبير الذي قام به رفاقه من
الصهاينة وكبار الحاخامات الذين انتشروا في كل بقعة علموا أن فيها بعضاً من يهود
الشتات، تدفق اليهود وبكميات هائلة إلى إسرائيل، وفي خلال ثلاث سنوات فقط
ارتفع عدد السكان اليهود في فلسطين إلى الضعف. فعند قيام دولة إسرائيل كان
عدد سكانها اليهود حوالي 650 ألف فقط، أضافت إليهم الهجرات الكبرى هذه
حوالي 750 ألف يهودي، هاجر معظمهم من أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية
وفي آسيا والدول العربية، ولقد ساعد في دفع عمليات الهجرة هذه أيضاً قانون
العودة الذي صدر في 15 يوليو 1950، والذي أضفى على عمليات الهجرة الصفة
الدينية، وذلك عندما سمى الهجرة إلى إسرائيل (العودة إلى بلادهم) ، وعندما أطلق
في مادته الثانية على موجة الهجرة لفظ (عليا) ؛ أي: الحج والصعود إلى أرض
الميعاد، ويعطي هذا القانون الحق لكل يهودي في أن يهاجر إلى إسرائيل،
ولأغراض هذا القانون اعتُبر يهودياً كل شخص أمه يهودية أو اعتنقت الدين
اليهودي، أو حتى لو تحول هو إلى اليهودية، بشرط أن يكون تحوله هذا بموافقة
حاخام من الأصوليين.
لقد لعبت الصهيونية إذن بكل الأوراق المتاحة لديها، فكانت تغري اليهود
بالمال وبالمستقبل المشرق الذي ينتظرهم في إسرائيل تارة، وتثير المشاعر الدينية
والقومية لديهم تارة أخرى. وكانت تنظم الخلايا السرية لضرب اليهود الذي
يجتمعون في بلاد تسمح لهم بالهجرة ويرفضون مغادرتها، وينظمون الحملات
الإعلامية عن (محاسن أرض الميعاد) لجذب اليهود. وعن تعذيب اليهود لكسب
تأييد الشعوب وتعاطفهم وموافقتهم على هجرة اليهود الذين يتجمعون في تلك البلاد
التي لا توافق على الهجرات الواسعة أو تضيِّق عليها.. وفي جميع الأحوال،
عرف هؤلاء كيف يستغلون كل التطورات والتغييرات المحلية والإقليمية والدولية،
من أجل تنشيط عمليات الهجرة وتحقيق أهدافهم؛ فبعد انتصار إسرائيل في حرب
1967 لعبت الدعاية الصهيونية دوراً كبيراً في إبراز إسرائيل كقوة جبارة لا تقهر،
الأمر الذي جذب آلاف الشباب المتحمسين الذين هاجروا إلى إسرائيل وبأعداد
ضخمة بعد فترة الحرب ولقد قال (أبا إيبان) وقتئذ: (لو كنا أربعة ملايين يهودي في إسرائيل اليوم لكان لمطالبنا في الصراع القائم وزن كبير، وإن تنشيط الهجرة اليهودية من شأنه أن يعزز مكاسبنا في الحرب، فاحتلال الأراضي وحده ليس كافياً، فنحن بحاجة إلى استيطان هذه الأراضي) .
في 6/11/1970: نشرت صحيفة (دافار) الإسرائيلية تصريحاً لغولدا مائير
تقول فيه: (ما نحتاج إليه في الوقت الحاضر أكثر من أي شيء آخر، هو:
الهجرة. توجد أمور كثيرة نحلم بشأنها، ولكن لقلة الرجال وبسبب الحروب
المفروضة علينا لا نستطيع أن ننجزها إلا إذا أتى المزيد من الرجال) . لقد كان
لندائنا هذا الأثر الكبير في دفع عملية الهجرة إلى الأمام؛ فلقد هاجر إلى إسرائيل
في الفترة ما بين عامي 1970 و1973، أي: خلال ثلاث سنوات فقط، ما يقارب
189.000 يهودي.
في9/11/1977: أعلن أنور السادات وفي مجلس الشعب المصري عن
رغبته زيارة القدس المحتلة (وغزو العدو في عقر داره) ؛ في 21/11/1977:
غزا السادات القدس، والتقى بمناحيم بيغن رئيس الوزراء آنذاك، وفي17/9/
1978: تم توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل..
لقد استغلت الدعاية الصهيونية هذا الحدث (التاريخي) وبذكاء، لتلعب دوراً
آخر بإعلانها عن انتهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وذهاب شبح الحرب، وتبشر
بازدهار اقتصادي وتجاري لإسرائيل بعد تحقيق الأمن والاستقرار. ولقد كان لهذه
الدعاية أثر كبير في جذب الكثيرين من اليهود، وخاصة أصحاب رؤوس الأموال
من الأوربيين، فبلغ عدد المهاجرين من اليهود في الفترة ما بين1977و1979
حوالي 000ر80 هاجروا إلى إسرائيل، وكانوا عوناً لها وسنداً في كثير من
المجالات، فساعدوا في إنمائها وإعمارها، وساهموا في تقدمها اقتصادياً وسياحياً
وحضارياً.
* يتبع *
في الحلقة القادمة
هجرة اليهود السوفييت الفلاشا..