خواطر في الدعوة
محمد العبدة
عندما يبرز علم أو داعية أو زعيم، ويشتهر أمره، تحوطه عادة جموع كثيرة
من الناس: منهم المخلصون وهمهم طلب العلم أو المشورة أو المساعدة في أمر
الدعوة، ومنهم المتملقون بالتقرب منه والذين يتظاهرون بالسؤال وحب الدعوة،
ومنهم الفضوليون الذين يحبون الشهرة بالسير في ركاب هذا أو ذاك، وأخلاط من
الناس تستمع ولكن الفائدة المرجوة قليلة، وفي غمرة حرص الداعية أو القائد على
نشر هذا الخير وتكثير سواد المسلمين قد يبتعد عن المقربين المخلصين من غير
تعمد منه لذلك، وهذا مما يكسر خواطرهم، ويضعف الفائدة المرجوة من التجمع
والتناصر، وفي العادة فإن المخلصين يبتعدون عن التزلف ويتحاشون القرب الدائم، فإذا غلبهم العامة أو المتملقون فقد وقعت المصيبة، وقد كان الصحابي الجليل عبد
الرحمن بن عوف مدركاً لهذه الناحية عارفاً بأمور الناس والزعامة، عندما نصح
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بألا يتكلم في (منى) أثناء الحج عن أمور تخص الخلافة والاستخلاف، وكان عمر -رضي الله عنه- قد سمع قولة قائل:
(لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً) ، يظن أن البيعة بهذه السهولة، يبايع من شاء دون مشورة لأهل الحل والعقد، وكأنه ظن أن خلافة أبي بكر -رضي الله عنه- كانت هكذا، فغضب عمر ثم قال: (إني -إن شاء الله- لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، قال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين؛ لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً) ، واستجاب عمر - رضي الله عنه- لنصيحة عبد الرحمن بن عوف وقام هذا المقام في المدينة.
ونقول للدعاة الذين يشار إليهم بالبنان: لا يجوز أن يغلب المتملقون
والمتطفلون على أوقاتكم، ويجب أن يقرب المخلصون من تلامذتكم، وهذا من
آداب القيادة وسنن الاجتماع كما قال تعالى على لسان نوح- عليه السلام-: [ومَا
أَنَا بِطَارِدِ الَذِينَ آمَنُوا] ، يقول الشيخ رشيد رضا في تفسير هذه الآية: هذا مبني
على سنن الاجتماع في الزعامة والعصبية وتأليف الجماعات، وكون ثباتها وظفرها
رهناً بإيمان الجماعة التي تألفت لأجله، وولاية بعضهم لبعض بصفة يكون فيها
الزعيم خير قدوة للأفراد بتفضيله أدنى المؤمنين فيهم على أعظم الكبراء من
خصومهم [1] ؛ فهل يعي هذه النصيحة الذين يتصدون للناس ولا ينسون الدعاة
الصادقين الذين لا يتزلفون للزعيم.