منهج أهل السُّنة في النقد
والحكم على الآخرين
هشام بن إسماعيل
العدل في وصف الآخرين
وهي جزء من القاعدة السابقة، ولكن لأهميتها أفردت لوحدها. والأصل في
هذه القاعدة قوله تعالى: [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ] [هود: 85] . ...
والمقصود بالعدل في وصف الآخرين هو: العدل في ذكر المساوئ
والمحاسن، والموازنة بينهما.
وثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل ابن آدم خطَّاءٌ، وخير
الخطاءين التوابون» [1] .
فلا أحد يسلم من الخطأ، فلا ينبغي أن تدفن محاسن المرء لخطأ، كما أن
الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث. [2]
ولذلك ينبغي للمسلم إذا وصف غيره ألا يغفل المحاسن لوجود بعض المساوئ، كما لا ينبغي أن يدفن المحاسن ويذكر المساوئ لوجود عداوة أو بغضاء بينه وبين
من يصفه، فالله عز وجل قد أدبنا بأحسن أدب وأكمله، فقال سبحانه: [وَلاَ
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ] [هود: 85] . وإنك لتجد كثيراً ممن يذم غيره بذكر
مساوئه، ويغض الطرف عن محاسنه، بسبب الحسد والبغضاء، أو لتنافس مذموم
بينهما.
ولكن المنصفون هم الذين يذكرون المرء بما فيه من خير أو شر ولا يبخسونه
حقه، ولو كان الموصوف مخالفاً لهم في الدين والاعتقاد، أو في المذهب والانتماء.
ومن العلماء الذين برز إنصافهم لغيرهم: الحافظ الذهبي -رحمه الله- فمن
خلال كتابه القيم: (سير أعلام النبلاء) ، والذي ترجم فيه لعدد من العلماء الأجلاء، وكذلك لعدد ممن اشتهر بين الناس وكان من أهل البدع أو الفسق أو الإلحاد، تجده
لم يبخسهم ما لهم من صفات جيدة، بل أنصفهم بذكر ما لهم وما عليهم.
وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، منها:
1- قال عن عبد الوارث بن سعيد: (وكان عالماً مجوداً، ومن أهل الدين
والورع، إلا أنه قدري مبتدع) السير (8/301) .
2- وقال عن الحكم بن هشام: (وكان من جبابرة الملوك وفساقهم،
ومتمرديهم، وكان فارساً، شجاعاً، وكان ذا دهاء وعتوٍّ وظلم، تملك سبعاً
وعشرين سنة) السير (8/254) .
3- وقال عن الواقدي: (والواقدي وإن كان لا نزاع في ضعفه فهو صادق
اللسان، كبير القدر) ، السير (7/142) .
4- وقال عن المأمون الذي تبنى فتنة القول بخلق القرآن وامتحن علماء أهل
السنة بذلك: (وكان من رجال بني العباس حزماً، وعزماً، ورأياً، وعقلاً، وهيبة، وحلماً، ومحاسنه كثيرة في الجملة) السير (10/273) .
5- وقال في ترجمة الجاحظ الأديب المعتزلي: (العلامة، المتبحر، ذو
الفنون.. وكان أحد الأذكياء.. وكان ماجناً، قليل الدين، له نوادر) السير (11/
256) .
6- وقال عن قرة بن ثابت: (الصابئ، الشقي، الحراني، فيلسوف عصره.. وكان يتوقد ذكاء) السير (13/ 285) .
7- وقال في ترجمة الخياط المعتزلي: (شيخ المعتزلة البغداديين، له ذكاء
مفرط، والتصانيف المهذبة.. وكان من بحور العلم، له جلالة عجيبة عند
المعتزلة) [السير 14/220] .
وهناك أمثلة كثيرة غير هذه، ومن أراد الاستزادة فعليه بمراجعة سير أعلام
النبلاء، يجد بغيته -إن شاء الله-.
ومنهج الذهبي في العدل في وصف الآخرين، منهج علمي دقيق، وهو منهج
أهل السنة والجماعة في أحكامهم على غيرهم، وهو نابع من قوله تعالى: [وَلاَ
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ] [هود: 85] والآيات المشابهة لها.
ولذلك ينبغي لكل من رام الإنصاف أن لا يحيد عن هذا المنهج السوي، وأن
يتقي الله-عز وجل- في وصف غيره، ويتكلم بعدل وإنصاف.
العبرة بكثرة الفضائل:
فإن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، فمن غلبت فضائله هفواته، اغتفر
له ذلك.
يقول ابن رجب الحنبلي: (والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير
صوابه)
وكلمة ابن رجب بمثابة منهج صحيح في الحكم على الشخص الواحد، لأن
كل إنسان لا يسلم من الخطأ، ومن قل خطأه وكثر صوابه، فهو على خير كثير.
ومنهج السلف هو: اعتبار الغالب على المرء من الصواب أو الخطأ،
والنظر إليه بعين الإنصاف.
يقول الحافظ الذهبي: (ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من
الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة
المحاسن) [3] .
وقال الذهبي في ترجمة ابن حزم: (وصنف في ذلك - نفْي القياس -كتباً
كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل
فجج العبارة، وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن
تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى
بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة، وأخذاً ومؤاخذة، ورأوا فيها
الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين، فتارة يطربون، ومرة يعجبون،
ومن تفرده يهزؤون، وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل،
ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصد جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد
زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد
أثنى عليه قبلنا الكبار) [4] .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلمة لطيفة: ولكن كثير من الناس من يرى المثالب، ويعمى عن المناقب، وفي ذلك يقول الشعبي -رحمه الله-: (والله لو أصبت تسعاً
وتسعين مرة، وأخطأت مرة، لأعدوا على تلك الواحدة [5] .
وقد قيل: كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه.
يمكن أن تعتبر قاعدة مهمة في هذا الباب، يقول فيها: (العبرة بكمال النهاية
لا بنقص البداية) [6] .
ومن نفيس كلامه في هذا الباب قوله: (وإنه كثيراً ما يجتمع في الفعل الواحد، أو في الشخص الواحد الأمران: فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه
أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى
ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد يمدح الرجل بترك
بعض السيئات البدعية الفجورية، لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل
بعض الحسنات السنية البرية، فهذه طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائماً
بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان) [7] .
(ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم من وجه، ويعذب ويبغض
من وجه آخر) [8] .
(ومن سلك طريق الاعتدال، عظم من يستحق التعظيم، وأحبه وولاه،
وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له
حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج، والمعتزلة، ومن
وافقهم) [9] .