الافتتاحية
قالوا: إن الأوطان تبنى بالمشاركة وتعاون جميع فئات المجتمع، ولا يتصور
قيام مجتمع إلا بمساهمة كل أفراده -كل حسب طاقته وتخصصه - في عملية البناء
والتنمية.
قلنا: نعم، وهذا هو عين ما نفتقده في مجتمعاتنا الإسلامية التي لا يصنف
الإنسان فيها على حسب جدارته ومواهبه الفردية، بل على حسب أمور أخرى:
كالنسب، والجاه، والمال، ومدى قربه من أصحاب السلطان ... ولذلك فإن الوقت
قد حان للخروج من أسر هذه المعوقات والمثبطات التي أصبحت غير صالحة في
هذا الزمن الذي اقتنع فيه جل سكان الأرض أن هذه المقاييس لا تبني بل تهدم،
وهذا المعنى هو الذي يلح عليه العاملون في الحقل الإسلامي في كل مكان، مع
اختلاف بينهم وبين غيرهم في أنهم يريدون تحكيم الإسلام واستلهام مبادئه وآدابه.
قالوا: ولكن من يفسر الإسلام؟ ، ولماذا تنصبون أنفسكم متحدثين باسم ...
الإسلام؟
قلنا: إن الإسلام - بحمد الله - دين محفوظ الأصول، ويفسره علماؤه الذين
ترتضيهم الأمة. وليس لأحد أن يحتكر حق التحدث باسم الإسلام، بل كل مسلم
أنس من نفسه القدرة على التوجيه والنصح فله ذلك - إذا كان منضبطاً بالأصول
المتعارف عليها - فإن أخطأ رد الناس عليه، وبينوا خطأه.
لكننا نرى أن هذه العبارة: (احتكار التحدث باسم الإسلام والوصاية عليه) قد
أصبحت قالباً جامداً من القوالب الجاهزة التي ترمى في وجه كل من يدعو إلى
الإصلاح ومحاربة الفساد مستنداً إلى تعاليم الإسلام، فكلما أمر بمعروف أو نهى عن
منكر قوبل من يستند إلى هذا الأمر المشروع بهذه التهمة = تهمة الاحتكار
والوصاية، وهذا أسلوب معروف في المداورة والمناورة، فعندما لا تستطيع نكران
الحق إلى تجريد من ينطق به من الشرعية التي يستند إليها، وعندما تفعل ذلك
سوف لن تظل وحدك في مواجهة هذا الحق؛ بل سينضم إليك جموع وأفراد من
دعاة الحق أنفسهم، وهذا هو ما يفعله العلمانيون في حربهم للإسلام ودعاته في
بلادنا، وهكذا فإن هؤلاء العلمانيين لا يحبون ألا يظهروا وحدهم في جبهة، ودعاة
الإسلام في جبهة أخرى، بل يفضلون أن تكون المعركة في صورتها الظاهرة بين
فرقين أو أكثر من المسلمين، وفي الوقت الذي يورِّثون نار العداوة بين طوائف
المسلمين ويذكونها بشتى الحيل، يظهرون بمظهر الآسف أحياناً لما يجري،
وبمظهر الحكم الذي (تدارك عبساً وذبيان بعدم تبزل بين العشيرة بالدم) [1] .
قالوا: إن ما ترونه معروفاً أو منكراً قد تخالفكم طبقات من الناس في اعتباره
ذاك، وعندما تلجأون إلى إقرار ما ترونه حقاً ومعروفاً وإنكار ما ترونه منكراً
وباطلاً فإنكم تتدخلون في حرية الآخرين، وهذا هو الإرهاب الفكري.
قلنا: إذن هو اختلاف على تحديد معاني الألفاظ، ونحن نرضى أن يكون
للألفاظ التي نستخدمها معانٍ محددة لا رجراجة، ونكره التلاعب بالألفاظ والرضا
بمعانيها في حال أخرى، والنكوص عن الاعتراف بها في حال أخرى، وهذا ما
ننقمه على أصحاب الشعارات التي ترفع ثم تفرغ من محتواها، وما نكرهه في لغة
السياسيين تلامذة (ميكافيلى) والشيطان، فنحن لا نبتكر معروفاً من عند أنفسنا ولا
نختلق منكراً، كما لا نحوِّل محرماً إلى معروف، ولا حقاً إلى منكر. بل المعروف
والمنكر معنيان لهما في حس المسلم وشعوره معانٍ وجذور لا تزيلها السفسطة، ولا
تمحوها الأجهزة الإعلامية على اختلافها وجبروتها، فهي من الحق القديم الذي لا
يمحوه الباطل بهيله وهيلمانه، فالمعروف ما عرفه الشرع، والمنكر ما أنكره الشرع. وهذه حقيقة بسيطة وسهلة، وكلما حاول المحاولون الدوران حول هذه الحقيقة،
أو استبدالها بتعريف لا تعرفه الأمة، ولا يلامس شعورها؛ فإن عاقبة ذلك مزيد من
عدم الثقة، ومزيد من المعاناة لأكبر عدد من أفراد المجتمع، وباختصار؛ كل
محاولة لاستيراد مفاهيم جديدة لا عهد للأمة بها، ولا تمثل شيئاً لما سوف ينعكس
أثرها آلاماً وفقدان أمن، وركوداً في جميع المجالات.
قالوا: أنتم لا تريدون الديمقراطية، وإنما تستغلونها من أجل الوصول إلى
الحكم، فأنتم قوم متعطشون ضد السلطة، وتتخذون من الديمقراطية سُلَّماً لذلك،
وإذا وصلتم إلى ما تريدون سوف تحكمون حكماً استبدادياً، وسوف تتسلطون على
غيركم، وتنتهكون حقوق الإنسان، ولهذا فمن الطبيعي والمشروع لمؤسسات
المجتمع والدولة أن تقف في وجهكم.
قلنا: هذا هو أسلوب فرعون في الجدل، الذي قصه الله-عز وجل- علينا
بقوله: [وقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ
عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إلَى إلَهِ مُوسَى وإنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ *
واسْتَكْبَرَ هُوَ وجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وظَنُّوا أَنَّهُمْ إلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ
وجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ] [القصص: 38- 40] .
إن في قولكم هذا من المغالطة قدراً كبيراً، وكأنكم حينما تلقون بهذا الكلام
تصفون أنفسكم بغيركم، وتنتزعون صفات المظنون من المحقق.
أما المظنون: فهو أن يكون من يلحون بتحكيم الإسلام لهم شأن مؤثر
بمؤسسات الحكم في هذا القرن الأخير على الأقل، فقد أبعدوا وأهملوا قسراً وعمداً، وعملت القوى التي ترى في الإسلام عدوها الأول على تشويه صورتهم بكل ما
أوتيت من قوة وحنكة ووسائل.
وأما المحقق: فعلى العكس من ذلك، إذ ولِّيت الأمور إما إلى من ليس يعنيه
شأن الشريعة الإسلامية بقليل أو كثير، وإما من اعتبر أن مهمته الأساسية كبت هذه
الشريعة ومحاربتها، واعتقدَ أن الأمة لن تنهض إلا بتخليصها من كل أثقال
الماضي ورواسبه المتخلفة بزعمه. ولا يمكن لأحد أن يزعم أن الشعوب العربية
والإسلامية كانت بعيدة عما يرمي به العلمانيون المسلمين من نزوع إلى التسلط
والاستبداد، فإن هذه الشعوب قد جربت أبشع أنواع الاستبداد والقهر في ظل هذه
الحكومات التي تسلمت حكم البلاد بعد الرحيل الصوري للمستعمر الغربي، وعانت
من فقدان الحرية بعد فترة الاستعمار ما جعل كثيراً من أفراد هذه الشعوب - ممن
جرب العهدين -يتحسر على عهود الاستعمار، ويتمنى لو رجع هذا الغربي الغريب
ينقذهم من ظلم ذوي القربى، فقد شاهدوا كيف تنحر الحرية باسم الحرية، وكيف
يسود الظلم بدعوى محاربة الظلم، وكيف تمزق الأوطان بدعوى الحفاظ على
الوحدة الوطنية، وكيف تتعطل أحكام الإسلام باسم الإسلام، وكيف تتحول أغلبية
الناس إلى عبيد في عصر حرمت فيه تجارة الرقيق.
فكيف يُرمى الداعون إلى الإسلام بالتسلط والاستبداد وهم لم يحكموا؟ ! !
وكيف يحرمون من حق الاختيار وهم بشر؟ ! وكيف تفرض عليهم وجهات النظر
الأحادية في العصر الذي يدعي (المتحضرون والمتنورون) فيه أن حرية العقيدة
وحرية التفكير مكفولة؟ وأي حصانة لمن ينتهك كل المحرمات ثم يرمي البرآء
بانتهاك حقوق الإنسان؟ وأي شرعية هذه التي يستند عليها من يداه ملطختان بالدماء
فيتهم الناس جزافاً أنهم ظلمة فجرة، ويسخر مؤسسات المجتمع والدولة للوقوف في
وجههم؟ والمؤسسات والدولة ما احتاج الناس إليها إلا إقراراً للعدل لا تثبيتاً للظلم،
وحرباً للباطل، لا تمرداً على الحق، وللأخذ على يد الظالم المستهتر، لا لتقييد
الداعين إلى ضمان الحقوق وسيادة التشريع الذي يتساوى جميع الناس أمامه! :
[إنَّ الَذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ويَقْتُلُونَ الَذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ
مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] [آل عمران: 21] .
إن أجهزة الدول ومؤسساتها ليست حكراً على مجموعة تستخدمها لمصالحها
الشخصية وضمان استمرار تسلطها، بل هي مرفق عام لدفع الضرر عن المجموع
وجلب المصالح لهم. وما دمتم قد ارتضيتم الديمقراطية سبيلاً لإدارة الشؤون العامة؛ فلماذا لا تدعونها تجري مجراها، وعندما تتكرمون بمنحها للشعب؛ فلماذا لا
تصحبونها بتعريف محدد يزيل عنها الغبش والإبهام، فتقولون مثلاً: نريدها
ديمقراطية بطول كذا، وعرض كذا، وارتفاع كذا! وكل مجاوزة لهذه الأبعاد سوف
تجعلنا نسحب هذه (العطية) من أيدي الذين أعطيت لهم، ونعيدها إلى مخازنها
للحفاظ عليها من الجروح والخدوش؟ !
لكن مهلاً، إن (العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) [2] . هذا إذا سلمنا
أنكم تملكون ما وهبتم، فكيف بمن يَمُنُّ بما لا يملك؟ ! لقد آن لمن يتعسفون في
استخدام ما بأيديهم من وسائل الإذلال أن يدركوا أن الناس قد شبت عن الطوق،
وأنه لا سبيل للخروج من المآزق التي يجدون أنفسهم فيها إلا بأن يعاملوا المسلمين
كبشر، فيريحوا ويستريحوا.