مجله البيان (صفحة 879)

من أدب الأخوة

عبد الرحمن العقل

للأخوة أدب جمّ وخلق رفيع ارتقاه سعيد بن العاص، فقال: «إني لأكره أن

يمر الذباب بجليسي مخافة أن يؤذيه» [1] .

وللأخوة آداب تمنح الأخوة رونقاً وبهاءً وجمالاً..

فمن هذه الآداب:

1- الابتعاد عن الإطراء وترك المدح:

حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإطراء والمدح، صيانة للأفراد

من الغرور والإعجاب بالنفس، وصيانة للعلاقات الأخوية، وحفاظاً على المجتمع

الإسلامي، عن أبي موسى قال: سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يثني

على رجل ويطريه في المدح فقال: «أهلكتم - أو قطعتم - ظهر الرجل» [2] .

بل إن من لوازم الأخوة ترك الثناء والمدح. قال عبد الرحمن بن مهدي:

«إذا تأكد الإخاء سقط الثناء» [3] . وقال الحجيي لرجل: «حبي لك يمنع من الثناء عليك» [4] .

2- الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية:

فاحتلافك مع أخيك في الرأي لا يؤثر على مودته في قلبك، ولك في الإمام

أحمد قدوة، يقول الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - عن الإمام اسحاق بن راهويه:

«لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في

أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً» [5] .

«إنه التمازج الروحي والأخوة الحقة بين المؤمنين التي يلتمس فيها المؤمن

الحقيقة عند أخيه وإن كان له مخالفاً» [6] .

3- فن الاستماع:

تظهر لأخيك تلذذك بحديثه، ولا تصرف بصرك عنه، ولا تقاطعه في حديثه، حتى ولو كنت تعلمه. يقول الإمام سفيان الثوري - رحمه الله تعالى -: (إن

الرجل ليحدثني بالحديث قد سمعته قبل أن تلده أمه، فيحملني حسن الأدب أن

أسمعه) [7] .

4- لا انتقام ولا تشفٍ:

موقف رائع بين القاضي سعيد بن سليمان المساحقي المالكي والقاضي ابن

عمران الطلحي.. يصوره ابن الماجشون بقوله: «شهد سعيد بن سليمان عند ابن

عمران الطلحي وهو قاض، فرد شهادته، فلما ولي سعيد شهد عنده ابن عمران،

فنظر سعيد في شهادته ففكر قليلاً ثم قال لكاتبه: أَجِزْ شهادته يا ابن دينار، فإن

المؤمن لا يشفي غيظه» [8] .

5- ترك التكلف:

«حتى لا يشعر الأخ أنه غريب عن أخيه، ولا يلجئه إلى الاعتذار دائماً،

بسبب هفوة صغيرة، وكلمة عابرة، ويحاسبه على النقير والقطمير، وليتذكر قول

الشاعر:

ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث، أي الرجال المهذب؟ [9]

وكان جعفر بن محمد الصادق يقول:» أثقل إخواني علي: من يتكلف لي

وأتحفظ منه، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي « [10]

6 - الهدية:

الهدية.. سهم صائب يقع في القلوب مباشرة..

كم منقبض أثرت فيه الهدية، وكم من تائه قربته الهدية، وكم من حاقد ألفته

الهدية، لها تأثير عجيب وعجيب. وكما قيل: الهدية هي السحر الظاهر.

* تأثير الهدية:

» قال سفيان: لما قعد أبو حنيفة، قال للناس مُساور الوراق:

كنا من الدين قبل اليوم في ... سعة حتى بلينا بأصحاب المقاييس

قوم إذا اجتمعوا صاحوا كأنهم ... ثعالب ضبحت بين النواويس

قال: فبلغ ذلك أبا حنيفة، فبعث إليه بمال، فقال مساور - حين قبض المال -: ...

إذا ما الناس يوماً قايسونا ... بآبدة من الفتيا طريفة

أتيناهم بمقياس صحيح ... مصيب من طراز أبي حنيفة

إذا سمع الفقيه بها وعاها ... وأثبتها بحبر في صحيفة [11]

وللهدية أثر واضح في تصفية القلوب من الأدغال والأحقاد، يقول الرسول -

صلى الله عليه وسلم - «تهادوا تحابوا تذهب الشحناء» [12] .

7- الدعاء بظهر الغيب:

لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب

مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا له بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك

بمثل» [13]

* أبا حمدون لِمَ لم تسرج مصابيحك الليلة؟

عن عبد الله بن الخطيب: «أن الطيب بن إسماعيل أبا حمدون وهو أحد

القراء المشهورين كانت له صحيفة فيها مكتوب ثلاثمائة من أصدقائه، وكان يدعو

لهم كل ليلة فتركهم فنام، فقيل له في نومه: يا أبا حمدون لِمَ لم تسرج مصابيحك

الليلة؟ ، قال: فقعد فأسرج، وأخذ الصحيفة فدعا لواحد واحد حتى فرغ» [14] .

وقال أحد الصالحين: «أين مثل الأخ الصالح؟ إن أهل الرجل إذا مات

يقسمون ميراثه ويتمتعون بما خلف، والأخ الصالح ينفرد بالحزن، مهتماً بما قدم

أخوه عليه، وما صار إليه يدعو له في ظلمة الليل، ويستغفر له وهو تحت أطباق

الثرى» [15] .

8- لا تزيد الصلة ولا تنقص بالانقطاع:

والأخوة الصادقة ثابتة لا تتغير مع مضي الوقت فلا تزيد بالبر والصلة، ولا

تضعف أو تتلاشى بالانقطاع والجفاء.

يقول يحيى بن معاذ الرازي: «حقيقة المحبة أنها لا تزيد بالبر ولا تنقص

بالجفاء» [16] . وعدم رؤية الإخوان لبعضهم، وانقطاعهم عن بعض لا يسوغ

الهجر ولا اختلاف القلوب. عن اسحاق قال: «كان بين عبد الرحمن بن مهدي

ويحيى بن سعيد القطان مودة وإخاء فكانت تمر السنة عليهما لا يلتقيان، فقيل

لأحدهما في ذلك فقال: إذا تقاربت القلوب لم يضر تباعد الأجسام» [17] .

وكذلك ما روي أن يونس بن عبيد «أصيب بمصيبة فقيل له: ابن عوف لم

يأتك؟ فقال: إنا إذا وثقنا بمودة أخينا لم يضره أن لا يأتينا» [18] .

* مودة مدخولة:

فكل أخوة تزداد بالالتقاء وكثرة المجالسة فهي تحتاج إلى إعادة نظر، يقول

الحسن بن صالح: «كل مودة لا تزداد إلا بالالتقاء مدخولة» [19] .

9- لا ترفع أخاك فوق منزلته:

ومن أدب الأخوة أن تضع أخاك في مكانه المناسب، حتى تصفو الأخوة

وتدوم، قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ما رفعت أحداً فوق منزلته إلا وضع مني

بقدر ما رفعت منه» [20] .

*ابن حزم يحذرك:

يقول ابن حزم - رحمه الله تعالى -: «أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس

فيك، لأنه نبه على نقصك، وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك، لأنه نبه على

فضلك، ولقد انتصر لك من نفسه بذلك، وباستهدافه إلى الإنكار واللائمة» [21] .

10- بين الانقباض والانبساط:

فكن مع الناس بين المنقبض والمنبسط، فلا تخض مع الخائضين ولا تنعزل

مع المنعزلين، كما قال الشافعي: «الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة،

والانبساط إليهم مجلبه لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط» [22] ،

وكذلك الأخ مع إخوانه لا ينبسط معهم انبساطاً يذهب فيه الاحترام ويقل فيه الأدب،

ولا ينقبض عنهم انقباضاً يشعرون معه بالجفوة، ويحسون بحاجز يمنعهم من

الاقتراب منه وتحقيق معاني الأخوة معه فهو بين بين..

11- الصبر واحتمال الأذى:

إن خلق الضجر، وعدم الصبر والتحمل بين الإخوان هو طريق للتفرق

والاختلاف، وطريق لزوال الإخاء والود.. ولهذا كان احتمال الأذى من أدب

الأخوة.

* بضاعة الصديقين وشعار الصالحين:

«وأما احتمال الأذى فهو الصبر ولكنه أشق، وهو بضاعة الصديقين،

وشعار الصالحين، وحقيقة أن يؤذى المسلم في ذات الله سبحانه وتعالى فيصبر

ويتحمل، فلا يرد السيئة بغير الحسنة، ولا ينتقم لذاته، ولا يتأثر لشخصيته؛ ما

دام ذلك في سبيل الله، ومؤدياً إلى مرضات الله، ولم يبتل في طريقه إلى الوصول

إلى الله..» [23]

12- مراعاة النفسيات:

النفس البشربة كالبحر، تارة يكون هادئاً راكداً، وتارة يكون هائجاً متلاطماً،

فوجب مراعاة هذه النفس ومعرفة تقلباتها وتحولاتها.. والنفوس تختلف باختلاف

أصحابها فما يصلح لهذه لا يصلح للأخرى، ولله در شبيب بن شيبة حينما قال:

«لا تجالس أحداً بغير طريقه، فإنك إذا أردت لقاء الجاهل بالعلم، واللاهي بالفقه، والغي بالبيان آذيت جليسك» [24] .

13- لا تكن جافاً:

فلا تكن جافاً في تعاملك الأخوي ولا بليداً لا يتحرك لك وجدان، فإذا ما أخطأ

عليك أخوك، وجاء يستسمحك فلا تشمخ بأنفك؛ لكي لا ينطبق عليك وصف الإمام

الشافعي.. يقول الربيع: سمعت الشافعي يقول: «من استغضب فلم يغضب فهو

حمار، ومن استرضي ولم يرض فهو حمار» [25] .

14 - لا تكن ثقيلاً:

وهذا أدب ظرفي يضفي على الأخوة طابعاً جميلاً..

وحقيقته: خفة في النفس ولباقة في التعامل ومراعاة لظروف الإخوان

ومشاعرهم، فلا يكون ثقيلاً في زياراته وفي أفعاله وكلماته.

* المؤمن قد يكون ثقيلاً:

الثقل صفة لا علاقة لها بالإيمان وعدمه. «سئل جعفر بن محمد عن المؤمن، هل يكون بغيضاً؟ قال: لا يكون بغيضاً، ولكن يكون ثقيلاً» [26] .

* الثقلاء عند العلماء:

«قال الحسن البصري في قوله تعالى: [فَإذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا] [الأحزاب

53] قال:» نزلت في الثقلاء « [27] . وكان حماد بن سلمة إذا رأى من يستثقله، قال: [رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إنَّا مُؤْمِنُونَ] [28] [الدخان 12] .

وقال ثقيل لمريض: ما تشتهي؟ قال: أشتهي ألا أراك. وإن كنت تصرّ

على مخالفة هذا الأدب.. فاصبر على مخاطبة الشاعر:

... أنت يا هذا ثقيل ... وثقيل

أنت في النظرة إنسان ... وفي الميدان فيل [29]

15- عدم مواجهة الأخ بالعتاب:

وقد عقد الإمام البخاري في صحيحه باباً بعنوان: من لم يواجه الناس بالعتاب. وعن عاثشة -رضي الله عنها- قالت: صنع الرسول -صلى الله عليه وسلم-

شيئاً فرخص فيه فتنزّه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فخطب، فحمد الله ثم قال:» ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني

لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية « [30] .

ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- هو ألطف الناس وأحسنهم خلقاً، لم يفضحهم

على رؤوس الخلائق، بل عاتبهم وأنبهم من غير جرح لمشاعرهم وأحاسيسهم.

ولا يفهم من فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ترك العتاب، بل يفهم:

عدم المواجهة، يقول ابن حجر - رحمه الله -:» أما المعاتبة فقد حصلت منه بلا

ريب، وإنما لم يميز الذي صدر منه، ستراً عليه، فحصل منه الرفق من هذه

الحيثية لا بترك العتاب أصلاً « [31] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015