الأزمة الحالية في يوغوسلافيا
مازن عبد الله
عام 1918 كان عام ظهور يوغوسلافيا إلى الوجود. لقد بدأت يوغوسلافيا
حينذاك رحلتها السياسية باتباع نظام ملكي، وكانت مؤلفة من ثلاثة عناصر أساسية، هي العنصر الصربي، العنصر الكرواتي والعنصر السلوفيني. لقد بقيت
يوغوسلافيا تحت النظام الملكي حتى نشوب الحرب العالمية الثانية حيث انهارت
تلك المملكة (الصربو - كرواتية - سلوفينية) .. ولكن إبان الحرب، جاء الجنرال
جوزيف تيتو ليقود حركة التحرير الشعبية ويحرر البلاد من الاحتلال ويعيد بناءها
حسب نظام فيدرالي مختلف تماماً عن سابقه، تحت اسم اتحاد الجمهوريات
اليوغوسلافية الاشتراكية.
إن النظام السياسي المتبع في يوغوسلافيا منذ الحرب العالمية الثانية وحتى
الآن، هو نظام فيدرالي يضم اتحاداً لست جمهوريات هي جمهورية صربيا،
جمهورية كرواتيا، جمهورية سلوفينيا، جمهورية البوسنة والهرسك، جمهورية
مكدونيا وجمهورية الجبل الأسود، بالإضافة إلى إقليمي كوسوفو وفويفودينا اللذين
يتمتعان بحكم ذاتي واستقلال إداري..
لقد ذكرنا سابقاً بأن الزعيم اليوغوسلافي جوزيف تيتو استطاع أن ينهض
بالبلاد إبان الحرب العالمية الثانية، ويجمع كل الجمهوريات اليوغوسلافية تحت
صيغة اتحادية فيدرالية، فاجتمعت البلاد وتوحدت في ظل النظام الاشتراكي الجديد، ولكن التركيبة الاجتماعية للبلاد بقيت على حالها التي كانت عليها قبل الاتحاد ولم
تتغير. وتلك التركيبة الهشة التي صمدت تحت الحكم الاشتراكي 45 سنة، كانت
نقطة الضعف الرئيسية التي رافقت البلاد طوال تلك الفترة، وكانت الأرضية
الأساسية لأي خطر ممكن أن يهدد الاتحاد اليوغوسلافي في أي وقت؛ فالجمهوريات
اليوغوسلافية عبارة عن تجمعات لعدة قوميات وديانات مختلفة؛ فجمهوريتا الصرب
والجبل الأسود معظم سكانها من الأرثوذكس، وجمهوريتا كرواتيا وسلوفينيا معظم
سكانها من الكاثوليك، أما جمهورية البوسنة والهرسك فأغلبية السكان من المسلمين..
لقد انتهت الحرب الباردة بسقوط النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، ومع
سقوط النظام الشيوعي في عقر داره، بدأت الأنظمة الشيوعية تنهار في الخارج.
الواحد تلو الآخر، وسقط النظام الشيوعي في يوغوسلافيا. وما إن سقط النظام
الشيوعي حتى بدأت الأصابع الأمريكية بالتدخل. مستغلة الحدث الذي لم تكن بعيدة
عنه ... فلقد ذكرت بعض المصادر أنه قبيل البدء بالانتخابات العامة والرئاسية
والمحلية في الجمهوريات اليوغوسلافية مؤخراً، فوجئ الرأي العام بإصدار وزارة
الخارجية الأمريكية وثيقة تضمنت اثني عشر شرطاً على اليوغوسلافيين أن يلتزموا
بها في انتخاباتهم حتى تكون النتائج مقبولة من قبل الولايات المتحدة، فتوافق فيما
بعد على تقديم مساعدات اقتصادية. لقد استنكر اليوغوسلافيون واعترضوا على هذا
التدخل السافر في شؤونهم الداخلية، ولكن ضعف حيلتهم جعلهم يرضخون في نهاية
الأمر. وجرت الانتخابات تحت الرقابة الأمريكية المباشرة، فكانت النتيجة فوزاً
كاسحاً للأحزاب الليبيرالية، اليمينية المتطرفة، والقومية المتعصبة. فلقد أسفرت
الانتخابات في كرواتيا وسلوفينيا عن تأييد كاسح من قبل المواطنين لإعلان
الاستقلال والسيادة الكاملة. فأقامتا فعلاً جميع مؤسساتهما الديمقراطية والتمثيلية،
وأكملتا أيضاً الانتقال الاقتصادي من المركزية إلى السوق الحرة. ففي سلوفينيا،
فاز تحالف أقصى اليمين المنضوية في إطار جبهة ديموس وسيطر على الأغلبية
الساحقة في البرلمان وعلى رئاسة الدولة، ورئاسة الحكومة وأعضائها. وفي
كرواتيا، فاز أيضاً تحالف أحزاب أقصى اليمين بزعامة الرئيس الحالي للجمهورية
(فراينو توجمان) الذي يرأس أيضاً الحزب الليبرالي الكرواتي الحر، أما على
صعيد صربيا (أكبر وأهم الجمهوريات) ، فلقد فاز فيها الحزب الاشتراكي (الشيوعي
سابقاً) بالأغلبية المطلقة في البرلمان كما فاز زعيم الحزب، رئيس الدولة
(سلوبودان ميلوسيفيتش) في انتخابات رئاسة الجمهورية.
لقد أتت نتائج الانتخابات هذه لتشكل تصعيداً في المواجهة بين الجمهوريات
اليوغوسلافية وخاصة بين صربيا وبين الجمهوريتين كرواتيا وسلوفينيا. فهاتان
الجمهوريتان ذات الأغلبية الكاثوليكية، تدعوان وتعملان على قيام جمهوريات
مستقلة، ذات سيادة كاملة وفق الحدود التي رسمها تيتو في دستور 1974، مع
الاعتراف بحقوق الأقليات في كل جمهورية وقيام دولة كونفدرالية يوغوسلافية تشبه
الدولة الأوربية الموحد التي ستقوم عام 1992. أما جمهورية الصرب، ذات
الأغلبية الأرثوذوكسية، فتعتبر المعقل الرئيسي للخط المتشدد في يوغوسلافية الذي
يعارض التوجه نحو تحويل الاتحاد بين الجمهوريات الست والإقليمين المتمتعين
بالحكم الذاتي، إلي كونفدرالية من دول ذات سيادة، كما يعارض بشدة التحول من
الخط الاشتراكي المتميز الذي عرفت به يوغوسلافيا، إلى الخط الرأسمالي، ويدعو
إلى الإبقاء على النظام الفيدرالي وإعطاء صلاحيات أوسع لصربيا باعتبارها
الكبرى، وإعادة توزيع الثروات والمصالح بما يتفق وتضحيات صربيا وتحسين
مستويات المعيشة في الجمهوريات الفقيرة. أما بالنسبة للجمهوريات الثلاث الباقية،
فجمهورية الجبل الأسود تؤيد المشروع الصربي تأييداً تاماً، وتتحالف مكدونيا
مرحلياً مع صربيا لكنها تدعو للحوار لإيجاد صيغة وسطى بين الفيدرالية
والكونفدرالية، أما جمهورية البوسنة والهرسك فتقف على الحياد بسبب موقعها
الجغرافي الخطير بين صربيا والشمال وتكوين سكانها العرقي الفسيفسائي الذي يضم
أقليات متقاربة العدد من جميع شعوب يوغوسلافيا، وتؤيد هذه الجمهورية مشروع
اتباع القومية الإسلامية الذين يشكلون أكبر أقليات الجمهورية والذين يدعون
للمحافظة على وحدة يوغوسلافيا وإقامة نظام أقرب إلى الصيغة التي يطرحها رئيس
الحكومة (ماركوفيتش) ولكنهم يركزون على استقلال البوسنة والهرسك في حال
انهيار يوغوسلافيا ويرفضون اقتسام الجمهورية بين دولة صربيا والدولة الشمالية.
(تجدر الإشارة هنا بأن مشروع الوزراء أنتي ماركوفيتش، الذي يستند إلى حركة
سياسية أنشأها مؤخراً وتضم المثقفين والعقلاء من كل الجمهوريات الداعيين لنبذ
التطرف القومي والتعصب العرقي والديني، يدعو لإلغاء الحدود نهائياً بين
الجمهوريات وتطبيق نظام ديمقراطي على جميع المواطنين والمساواة واحترام
حقوق الإنسان بصرف النظر عن العقيدة والقومية) .
لقد دخلت يوغوسلافيا خلال الأسابيع القليلة الماضية في نفق مظلم، والحالة
الأمنية والسياسية والاقتصادية في البلاد في تردٍ مستمر. فعلى الصعيد الاقتصادي
يذكر أن يوغوسلافيا تعاني حالياً من معدل تضخم سنوي نحو 120 في المائة.
ويتدنى الإنتاج الصناعي فيما يهدد العمال بتنظيم إضرابات عامة. ويبلغ مجموع
الديون الخارجية المترتبة على يوغوسلافيا 18بليون دولار..
وعلى الصعيد السياسي، فالعلاقات بين الجمهوريات اليوغوسلافية تتدهور
باستمرار والمؤسسات القوانين الفيدرالية تنهار وتخترق على نحو يدفع البلاد إلى
مزيد من انبعاث مشاعر التعصب القومي والتطرف المصحوب بالعنف.. أما على
الصعيد الأمني فعقب النزعات المستمرة بين كرواتيا وصربيا، أخذت الأمور تتفاقم
حتى بدأت الصدامات التي كانت الأسوأ في مدينة باكاراتش في كرواتيا. فلقد
اندلعت الاضطرابات عندما اقتحمت قوات الشرطة الخاصة الكرواتية باكاراتش في
2/3/91. إثر إعلان القوميين الصرب استقلال المدينة عن الحكم الكرواتي
واستلائهم على المركز الرئيسي للشرطة. وكانت الصدامات عنيفة، حدثت خلالها
عمليات إطلاق نار متبادلة أسفرت على عدة إصابات بين الطرفين مما اضطر
الجيش إلى التدخل ونشر قواته ودباباته في الشوارع الرئيسية في المدينة، من دون
أن تحصل أي مواجهة بينه وبين قوات الشرطة الخاصة الكرواتية التي سحبت قسماً
من قواتها من المدينة بعد أن خف التوتر فيها. ونذكر هنا أن المجلس الرئاسي
اليوغوسلافي كان قد أصدر إنذاره إلى جمهوريتي كرواتيا وسلوفينيا في
9/1/1991ممهلاً إياهما عشرة أيام لحل كل التنظيمات المسلحة فيهما، ومن ضمنها قوات الشرطة الخاصة، أو مواجهة تحرك من الجيش اليوغوسلافي لتنفيذ ذلك بالقوة. ولكن المهلة انتهت، فمددت فانتهت ولم يحصل شيء. لقد نزح نتيجة لتلك الصدامات أكثر من خمسة آلاف صربي معظمهم من النساء والأطفال، ولجأوا إلى صربيا وإقليم فويفودينا. ويخشى الصرب الآن الذين يشكلون أحد عشر في المائة من سكان كرواتيا البالغ عددهم ة 44 مليون نسمة، تكرار مجازر الحرب العالمية الثانية التي ارتكبها الكرواتيون بحقهم.
لقد دامت الاضطرابات في كرواتيا ثلاثة أيام، بدأت الحياة بعدها تعود ببطئ
إلى طبيعتها، ولكن بعد أربعة أيام فقط من انتهائها عادت الاضطرابات والصدامات
لتنفجر من جديد، ولكن مع انتقال الكرة هذه المرة من الملعب الكرواتي إلى الملعب
الصريي. ففي 9/3/91 انفجر الوضع الأمني في بلغراد، عاصمة صربيا، عندما
وقعت اشتباكات عنيفة بين شرطة مكافحة الشغب وعشرات الألوف من المحتجين
المناهضين للشيوعية، أسفرت عن مصرع شخصين على الأقل أحدهما من الشرطة
وإصابة ما لا يقل عن 75 بجروح. ولقد امتدت الاشتباكات إلى مناطق عدة في
العاصمة، وأسفرت عن إحراق عدد كبير من السيارات وتحطيم نوافذ مئات المتاجر، وعلى أثر تلك الاشتباكات، تدخل الجيش اليوغوسلافي وأنزل دباباته إلى شوارع
المدينة، معززة بعدة آلاف من أفراد شرطة مكافحة الشغب، واستطاع أن يسيطر
على الوضع، وأعاد الهدوء إلى المدينة، ولكن لم تمضي 24 ساعة على تدخل
الجيش وإعادة الأمور إلى طبيعتها، حتى جاء قرار من المجلس الرئاسي بسحب
الجيش، وتم سحبه فعلاً من شوارع المدينة في وقت متقدم من ليلة الأحد 10/3/91
وفي اليوم التالي لانسحاب الجيش تجددت الصدامات بين الشرطة والمتظاهرين
المعادين للشيوعية مما أدى إلى المزيد من الأضرار. ومع بزوغ فجر الثلاثاء
12/3/91 انسحبت وحدات شرطة مكافحة الشغب وسمح للمتظاهرين بالتجمع في الساحة المركزية للمدينة التي تدفقت إليها عشرات الألوف من المتظاهرين الذين راحوا يهتفون ضد الحزب الاشتراكي الحاكم وضد الشيوعية.. لقد شكلت تلك التظاهرات الضخمة ضربة قوية للسلطة الصربية التي وجدت نفسها مضطرة إلى الرضوخ لبعض مطالب المعارضة والإفراج عن زعيمها الذي كانت قد اعتقلته منذ أيام.. إن الوضع الأمني في جمهورية الصرب حالياً متوتر جداً، والأجواء المشحونة والاضطرابات ما زالت على حالها، ويبدو أن الكرة التي استطاعت القوى التحررية الديمقراطية أن تقذفها إلى الملعب الصربي، ما زالت هناك وستبقى، حيث إن اللعبة التي لعبتها تلك القوى كانت موفقة وناجحة وذلك طبعاً بفضل ضغوطات القوى الخارجية وخاصة الأمريكية. فالمراقب للتطورات الدولية، يرى جلياً بأن الأحداث والاضطرابات التي اندلعت في الفترة الأخيرة في يوغوسلافيا، لم تبدأ إلا بعد انتهاء أزمة الخليج التي كانت المطابخ الأمريكية مشغولة بها ...
أخيراً، فإن الساحة الدولية الآن، ومع انتهاء حرب الخليج، تشهد تغييرات
جذرية وخاصة على الصعيد السياسي حيث إن المعركة بين النظامين الرأسمالي
والاشتراكي اللذين ولدا في نفس المطبخ مع نهاية القرن التاسع عشر في أوروبا؛
انتهت لمصلحة النظام الرأسمالي. وعلى هذا الأساس فيبدو أن المعركة في
يوغوسلافيا الآن، وكما حسمت في غيرها من دول أوربا الشرقية، سوف تحسم
لمصلحة القوى الرأسمالية والتحررية ... السؤال المتبقي الآن، هو عن كيفية حسم
تلك المعركة، وان كان الحل السلمي هو المرجح فهل بناء دولة كونفدرالية جديدة
سيكون البديل عن الفيدرالية القديمة؟ وما هو مصير الجمهوريات الصغيرة
والأقليات القومية وخاصة الإسلامية في هذه الحال؟