المسلمون في العالم
عبد العزيز بن ناصر الجليل
فإن من الأصول المستقرة في باب الإيمان بالله عز وجل: الإيمان بقضاء الله
وقدره، وأن شيئاً لا يحدث في هذا الكون صغيراً أو كبيراً إلا بعلم الله عز وجل
وإرادته وخلقه له قال تعالى: [إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ] [القمر 49] وقال جل
شأنه [وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ] [القمر 53] .
كما أن الإيمان بالله سبحانه وقضائه وقدره وأسمائه وصفاته، لا يحصل إلا
بأن يجزم المسلم أن ما يكتبه الله عز وجل ويقدره في هذا الكون فمن ورائه حكمة
بالغة ولو ظهر للناظر أنه شر ومكروه. فالإنسان بإدراكه المحدود في الزمان
والمكان، ولأن من طبيعته الجهل والظلم، فإنه لا يمكن أن يدرك مآلات الأمور
وعواقبها، ولا يعلم بذلك إلا العليم الحكيم خالق الأشياء ومقدرها وعالم الغيب
والشهادة، قال تعالى [قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ ومَا
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ] [النمل 25] ، وقال تعالى: [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ
اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] [الملك 14] ، وقال تعالى: [مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ
ولا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ]
[الحديد 22] .
إذ الأمر كذلك فلا شك ولا ريب أن ما حصل من أحداث وشرور في أحداث
الخليج، إثر الاجتياح العراقي للكويت، لابد وأن نخضعها للأصول الآنفة الذكر،
وأن من حاد عن هذا المنهج فقد خسر إيمانه بالله عز وجل أصلاً، وانحاز إلى
معسكر الكفر والإلحاد الذين لا يؤمنون بشيء من هذه الحقائق، وإنما يفسرون
أحداث التاريخ تفسيراً مادياً معزولاً عن علم الله عز وجل وتقديره وحكمته البالغة
فيما يخلق، وعلى ضوء ما سبق فإن الواجب على المسلم إزاء هذه الأحداث أن
يؤمن إيمانا جازماً أن ما قدره، الله عز وجل في أحداث الخليج - وإن كانت موجعة
ومؤلمة - فإن من ورائها حكمة بالغة اقتضتها حكمة أحكم الحاكمين، والمرتبطة
باسمه (الحكيم) سبحانه وتعالى. ولقد ظهرت بعض الدروس والحكم جلية من
خلال هذه الأحداث المؤلمة، مع أن ما خفي علينا في غيب الله عز وجل من الحكم
والمصالح أكثر ومن هذه الدروس التي ظهرت ما يلي:
الدرس الأول:
التعرف على سنة الله عز وجل في التغيير، وهي التفسير الإسلامى للأحداث.
إن ما حصل من أحداث في دولة الكويت وما ترتب على هذا الحدث من أمور
ومستجدات قد فتح أعيناً عمياً وأذاناً صماً على حقيقة مهمة، وسنة ثابتة لا تتغير ألا
وهي: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد11] .
وأصبحنا والحمد لله نجد هذه الحقيقة على ألسن كثير من الناس الذين منّ الله
عليهم باليقظة بعد الغفلة، رجالاً ونساءً وعوام ومثقفين. وهذا بحد ذاته نعمة ومنحة
ورحمة من الله عز وجل لم تكن لتحصل لولا قدر الله عز وجل لهذا الحدث.
لقد كنا نعترف ونؤمن بهذه الحقيقة قبل ذلك ولكنه إيمان ضعيف أما الآن فقد
تحول هذا الإيمان إلى صورة واقعية عملية، صار الخبر فيها عياناً، ولا شك أن
الإيمان بهذه السنة الثابتة وأثرها على النفوس سيكون أبلغ وأقوى من الإيمان بها
قبل وقوعها، وكما هو معروف أن الطرق على الحديد وهو ساخن أقوى بكثير في
تليينه وتأثره من الطرق عليه وهو بارد.
كما أن رحمة الله عز وجل وحكمته البالغة قد تجلت في هذا الحادث بأنه لم
يترك الناس ينحدرون وبعجلة سريعة إلى الفساد وهم غافلون عما ينتظرهم من الهوة
السحيقة التي هم قادمون عليها لو استمر انحدارهم ولم يأت ما يوقفهم ويحد من
انحدارهم، ولذا فإن من رحمة الله عز وجل أنه يوقف الناس عن فسادهم بالوسائل
الشرعية للإصلاح، فيقدر عليهم أحداثاً مؤلمة تشدهم عن المزيد من الانحدار،
وتقف أمام تهالكهم على الفساد لعلهم يرجعون ويتوبون ويستيقظون من غفلتهم، قال
تعالى: [ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَذِي
عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] [الروم: 14] ، وهذه والله هي عين النعمة والرحمة وإن
كان ظاهرها التشريد والقتل وفقد الأموال، فإن كل هذه المصائب تهون وتصغر
عند فقد الدين وما يترتب عن ذلك من مفاسد كبيرة فيما لو استمرت عجلة الفساد في
انحدارها الشديد ولم يأت للناس ما يوقفهم ويهز رؤوسهم ليستيقظوا ويتداركوا انفسهم
من السقوط في هوة سحيقة هم يتجهون إليها، لو لم يوقفهم الله عز وجل بما يقدره
من أحداث. وإن هذا الدرس العظيم لا يدركه ولا يستفيد منه إلا المؤمن الذي يجعل
من مثل هذه الأحداث باباً إلى التوبة ومحاسبة النفس والرجوع إلى الله عز وجل،
وتغيير الأحوال. أما المنافق والمادي والعلماني وغيرهم من أهل الإلحاد والزندقة،
فلا تراهم إلا ساخرين ومستهزئين من هذه المعاني العظيمة، والأصول الإيمانية
الثابتة، ولا تزيدهم هذه الأمور إلا كبراً ما هم ببالغيه، ولن يزيدهم هذا إلا رجساً
إلى رجسهم كما قال تعالى: [وإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ
إيمَاناً فَأَمَّا الَذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناً وهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلَى رِجْسِهِمْ ومَاتُوا وهُمْ كَافِرُونَ * أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ
يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ ولا هُمْ يَذَّكَّرُونَ] [التوبة 124 -
126] ، وقال تعالى: [فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ولَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [الأنعام 43] .
الدرس الثاني: تمييز الخبيث من الطيب:
يقول الله تعالى: [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ
الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ] [آل عمران 179] ، إن من
رحمة الله تعالى وحكمته البالغة أن يقدر أحداثاً مؤلمة تتميز من خلالها الصفوف،
وتتعرى فيها النفوس، فتظهر على حقيقتها للناس، وهذا هو الذي ظهر من خلال
هذه الأحداث، حيث ظهرت حقائق مهمة ساهمت في توعية الناس والدعاة منهم
بصفة خاصة، وذلك بحقيقة أعدائهم، وتهافت راياتهم، وانكشاف مخططاتهم،
وادعاءاتهم الكاذبة التي كانوا يخدعون بها الناس، وتعرت بذلك دول وأفكار
ودعوات، بل إن الإنسان نفسه قد تعرى أمام نفسه، وكشف من خلال هذه الأحداث
حقائق من حوله ومن نفسه ما كانت لتعرف لو لم يقدر الله عز وجل مثل هذه
الأحداث، وإن هذه الثمرة الكبيرة من توعية المسلمين بحقيقة أعدائهم وبحقيقة
الأفكار والنحل التي تتلاطم من حولهم ما كانوا ليعرفوا عنها شيئاً، وبهذا الكم الهائل
من المعلومات لولا تقدير الله سبحانه وتعالى لهذا الحدث.
وقد حقق الله عز وجل هذه الثمرة في أسابيع عدة ما كانت الدعوة الإسلامية
لتحصل عليها في عدة سنوات، والأيام حبلى بدروس وعبر جديدة، أليس هذا من
رحمة الله وفضله؟ بلى والله، ولا يعني هذا أننا نتمنى المصائب والفتن، معاذ الله، فإن المسلم لا يدري ما تكون حاله حينئذ وقد نهانا الرسول - صلى الله عليه وسلم -
عن ذلك بقوله: «لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموه فاصبروا» متفق عليه.
ولكن أردت الإشارة هنا إلى ربط الأحداث بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة،
وأن شيئاً في هذا الكون لا يكون إلا بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة، ويريد الله
عز وجل منه الخير للمسلمين في الحال أو المآل.
الدرس الثالث: أهمية التوحيد والتربية عليه:
لقد ظهر من خلال هذه الأحداث الأهمية البالغة لتربية النفوس على عقيدة
التوحيد الخالص، ولقد بدا من خلال الأحداث أن هناك ضعفاً شديداً في هذا الجانب
المهم في حياة المسلم، كما ظهر من خلال الأحداث أن هذا الأصل المهم من أصول
الإيمان لم يأخذ حقه من التربية العلمية والعملية، ولعل من أهم دروس هذا الحدث
أن يشعر المسلمون وأرباب التوجيه بضعف هذا الجانب، وما كان ليعرف هذا
الخلل لولا تقدير الله سبحانه وتعالى لهذه الأحداث.
ومن مظاهر هذا الضعف ما حصل من الارتباك الشديد في بعض المفاهيم
العقدية، والتي تعتبر من الثوابت والأصول التي لا تتزعزع ولا تهتز ولا تتغير
مهما تغيرت الأحوال والأزمان والأمكنة، ومن أهم هذه الأصول التي اعتراها
الاهتزاز: مفهوم الولاء والبراء، الولاء لله عز وجل ولرسوله -صلى الله عليه
وسلم- وللمؤمنين، والبراءة والعداوة للكافرين والمشركين والمنافقين بشتى مللهم
وأفكارهم. أما أن يصبح العدو صديقاً والصديق عدواً، وأما أن تبذل المحبة للكافر
والعداوة للمسلم، ويكون الميزان في الحب والعداوة موازين الأرض وموازين
المصالح الشخصية، فهذا كله مما ترفضه عقيدة التوحيد الثابتة، والتي تقوم الموالاة
والمعاداة على أساسها، وهذا هو أصل لا إله إلا الله الكلمة الطيبة التي وصفها الله
عز وجل بقوله: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا
ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا] [إبراهيم24-25] .
وهي الكلمة التي من أجلها أرسل الرسل، وأنزلت الكتب، وجاهد من أجلها أنبياء
الله عز وجل ودعاته الصادقين، كما قال تعالى: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي
إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا
بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ] [الممتحنة 4] ،
أما ما سواها من المصالح الشخصية والموازين الأرضية عدم الثبات والروغان،
فالذي يحب وبعادي من أجل المصالح الدنيوية يدور مع هذه المصالح حيث دارت،
فقد يعادي في الصباح من أحبه في المساء وقد يوالي في المساء من عاداه في
الصباح، وصدق الله العظيم: [ومَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ
الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا
وفِي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] [إبراهيم 26-27] ، اللهم
ثبتنا بقولك الثابت ولا تضلنا مع الظالمين.
ومما يؤيد الاهتمام الشديد بالتربية على التوحيد، ما ظهر من النقص
والضعف في توحيد التوكل والاستعانة والاستغاثة وغيرها، مما نتج عن هذا
الضعف من الركون إلى غير الله عز وجل من أعداء هذا الدين والثقة بما عندهم
أكثر من الثقة فيما عند الله عز وجل.
ولأجل كل ما سبق ظهر أن الحاجة ماسة جداً إلى مزيد من التربية على
العقيدة علماً وعملاً، بأن نتعلم أركان التوحيد وما يضاده من الشرك القديم والجديد،
وأن لا يستخفنا الذين لا يوقنون من أرباب السياسة والمصالح الأرضية فيستهوننا
معهم ويُركبوننا في ركابهم، بل يجب علينا الحذر الشديد منهم ومن مكرهم، وأن
نقبل على ديننا نتعلمه ونعمل به وندعو إلى الله ونصبر على الأذى فيه، وأن لا
نستطيل الطريق أو الوقت الذي نمضيه في تعلم التوحيد بكل متعلقاته كما يجب
علينا أن نعي واقعنا، وأن نربط ما تعلمناه من دين الإسلام بقضايا عصرنا
ومستجداته من الأفكار والنحل التي لم تكن موجودة عند أسلافنا، وأن يكون للتربية
الشاملة على التوحيد دورها في مواجهة الشرك المعاصر والتي تشن فيه العلمانية
معارك طاحنة ضد المسلمين بوسائل شتى أي أننا نربد منهجاً دعوياً يقوم على
(سلفية المنهج وعصرية المواجهة) ، ونقصد بالسلفية: العودة بأصول الفهم
والاستدلال إلى الكتاب والسنة وقواعد الفهم المعتبرة لدى أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسان، وذلك لنتمكن من خلال هذا المنهج من
المواجهة السلفية المعاصرة لمشكلات عصرنا المتجددة، حيث لا نقصد بالسلفية:
الوقوف فحسب عند القضايا العقدية التي واجه بها سلفنا الصالح انحرافات عصرهم، وكانت فريضة الوقت يومئذ، ثم نتخلى عن المعارك الطاحنة التي تديرها
الجاهلية في المجتمعات المعاصرة حيث ضاعت إسلامية الراية وإسلامية النظم.
إن السلفية الحقة لا تقبل أن تستهدف الدعوة في بض المواقع تحرير العقائد
من شرك الأموات والتمائم، وتضرب صفحاً عن شرك الأحياء والأوضاع والنظم
والتي لا تقل خطراً عن شرك الأصنام، وكلا الشركين خطير، كما لا تقبل السلفية
الحقة أن تحارب التشبيه والتعطيل في صفات الله عز وجل وتقف عند ذلك ولا
تعلن الحرب على تعطيل الشريعة وتحكيم القوانين الوضعية وفصل الدين عن
الدولة. وإننا بهذا المنهج الشامل والسلفية المعاصرة نسلم وتسلم عقيدتنا الثابتة من أي خلط أو اهتزاز كما هو الحاصل في هذه الأيام ولكنها الفتن نعوذ بالله منها ما ظهر وما بطن.
وما أحسن ما كتبه الأستاذ محمد قطب في كتابه القيم (واقعنا المعاصر) حول
أهمية التربية والرد على من يستطيل طريقها ويريد قطف الثمرة قبل استكمالها
فيقول ص486: (أما الذين يسألون إلى متى نظل نربي دون أن (نعمل) ؟ فلا
نستطيع أن نعطيهم موعداً محدداً فنقول لهم: عشر سنوات من الآن أو عشرين سنة
من الآن! فهذا رجم بالغيب لا يعتمد على دليل واضح، إنما نستطيع أن نقول لهم
نظل نربي حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول..) ثم يستمر وفقه الله
حول هذا الموضوع إلى أن يقول: (.. ونكتفي بثلاثة أبعاد ننتقيها من بين أبعاد
كثيرة ومجالات عديدة لأنها ذات أهمية خاصة وذلك بالنسبة لبناء القاعدة المطلوبة:
يقول سبحانه وتعالى [إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ] ، ولو أنك سألت
أي إنسان في الطريق من الذي يرزقك لقال لك على البديهة: الله ولكن انظر إلى
هذا الإنسان إذا ضيق عليه في الرزق يقول: فلان يريد قطع رزقي! فما دلالة هذه
الكلمة؟ دلالتها أن تلك البديهة التي نطق بها لم تكن «يقينا» قلبيا إنما كانت بديهة
ذهنية فحسب وبديهة تستقر في وقت السلم والأمن، ولكنها تهتز إذا تعرضت للشدة، لأنها ليست عميقة الجذور. فلا يصلح لتلك الأعباء إلا شخص قد استقر في قلبه
إلى درجة اليقين أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن الله هو المحي والمميت،
وأن الله هو الضار والنافع، وأن الله هو الذي المعطي والمانع وأن الله هو المسير،
وأن الله هو الذي بيده كل شيء.. ترى كم جلسة، كم درسا، كم موعظة، كم
توجيها يحتاج إليها الإنسان ليرسخ في قلبه إلى درجة اليقين إن الله هو الذي يدبر
وأن هذه المخلوقات البشرية التي يخالطها في حياته إن هي إلا أدوات لقدر الله،
وانها حين تضره فهي بشيء قد كتبه الله له، فلا يتوجه إلا إلى الله في سرائه
وضرائه سواء ويعلم - يقينا - أن الخلق كلهم لا يملكون له ولا لأنفسهم ضراً ولا
نفعاً) .
الدرس الرابع: صحة الفهم وحسن القصد ودورهما في درء الفتن:
في أيام الفتن تضطرب الأفهام وتحتار العقول أمام الشبهات كما أن القلوب
تضعف أمام الشهوات ولا يعصم منها إلا من عصمه الله تعالى بعلم صحيح وفهم
دقيق يدرأ بهما الشبهات، وبدين وتقوى وصبر يدرا بها الشهوات ولا يسلم من
الفتن ورياحها إلا من تحلى بهاتين الصفتين: الفهم الصحيح، والقصد الصحيح
ومن فقد أحداً من هاتين الصفتين فقد عرض نفسه للفتن ولقد اتضح مظاهر فقد
هذين الأمرين أو أحدهما في هذه الأيام أيام الأحداث والفتن فسقط في هذه الفتن من
سقط وهلك فيها من هلك ولا يتعدى أسباب السقوط هذين الأمرين الآنفي الذكر
فبضعف اليقين والبصيرة تسيطر الشبهات وبضعف التقوى وفساد المقصد تسيطر
الشهوات. وصحة اليقين والفهم يتمان بأمرين اثنين: بالعلم بدين الله عز وجل
وأحكامه وشرعه، وبالعلم بالواقع والفقه فيه وأبعاده، فمن فرط فى أي من هذين
العلمين والفهمين فسد فهمه وعرض نفسه للشبهات وأخذ الباطل يحسبه حقاً. أما من
تحلى بالفهم بأحكام الله والفهم بالواقع ثم وقع الأول على الثاني فقد تمت له البصيرة
ووصل إلى الحق. ولكن معرفة الحق لا تكفي في النجاة من الفتن حتى ينضم إليها
التقوى والصبر وحسن القصد فينقاد إلى الحق الذي ظهر ويذعن له، وإلا لو كان
الصبر ضعيفاً أو القصد فاسداً فإن المسلم يتعرض للفتن من باب الشهوات فلا يصبر
على الحق والثبات عليه أمام المغريات والشهوات.
ولقد ساق الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- هذه المعاني بأوضح عبارة
وأدقها وأبلغها حيث قال -رحمه الله- في كتابه القيم (أعلام الموقعين) في معرض
شرحه لخطاب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-
في القضاء فقال في شرحه لقول عمر: (فافهم إذا أدلى إليك) :
«صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل
ما أعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه
عليهما، وبهما يأمن، العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق
الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت فهومهم
وقصودهم. وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم
في كل صلاة.
وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به الصحيح والفاسد، والحق
والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد وتحري الحق
وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى وإيثار الدنيا، وطلب
محمدة الخلق وترك التقوى.
ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات
والعلامات، حتى يحيط به علماً.
النوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في
كتابه أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما
على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً؛
فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله.
وبعد هذا الكلام المفيد من كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-، وبعد
النظر الدقيق للمواقف المضطربة إزاء الأحداث والفتن هذه الأيام، وبعد خوض من
خاض وهلاك من هلك فيها إما بقلبه أو لسانه أو يده، يتبين لنا أن هناك خللاً في
منهاج الدعوة عند بعض الدعاة، ونقصاً في التربية، لعل من دروس هذه الأحداث
اكتشافنا لهذا الخلل حتى نتفاداه، ويمكن مما سبق تلخيص هذا الخلل في النقاط
التالية:
1 - عدم التربية على طلب العلم الشرعي من مصادره الصحيحة وأصوله
المنضبطة.
2- عدم التربية على طلب العلم والفقه بالواقع والوعي الصحيح بسبيل
المؤمنين فيه وبسبيل المجرمين.
3- هناك خلل في القلوب وفساد في القصود لابد من تداركه والاهتمام بتزكية
القلوب وتربيتها على الإخلاص لله عز وجل وإنشاء همّ الآخرة والزهد في الدنيا
وعدم طلب محمدة الناس والتربية على الصبر والثبات أمام الشهوات والمغريات.
وعندما يتم التغلب على هذه الأنواع من الخلل ويربى الناس عليها وعلى
طلبها، فإنه بإذن الله تتم العصمة من الفتن وأخطارها، فبالعلم بدين الله والعلم
بالواقع نتقي الشبهات ونحسن القصد والإخلاص لله عز وجل، والصبر أمام
المغريات نتقي الشهوات والله أعلم وبعد:
فإن الدروس والحكم كثيرة وكثيرة، وليس مقصود البحث هذا هو التفصيل
فيها، ولكن ذكرت بعض هذه العبر والحكم والمصالح من هذا الحادث المحيط بنا
هذه الأيام؛ لنتذكر من خلاله أن لأسماء الله عز وجل وصفاته لوازم ومقتضيات لا
يتم الإيمان إلا بها، ومن هذه الأسماء الكريمة اسم الله (الحكيم) ، والذي هو
موضوع بحثنا في تفصيل لوازم هذا الاسم الجليل والتعرف على العبوديات التي
يضمنها، والآثار التي يتركها في القلب والجوارح، وما يلزم عليه من لوازم
ومقتضيات، ومنها ما تم استعراضه من الدروس الماضية لحدث واحد مما يقضيه
الله عز وجل ويقدره من بين أحداث وأحداث كثيرة تصغر في حجمها وتكبر ولكنها
كلها لا تخرج عن علم الله عز وجل وتقديره، ولا تخرج عن حكمته البالغة وتيسيره.