مجله البيان (صفحة 81)

رحلة طويلة

لم يخفَ على رموز الجاهلية ما انطوت عليه الدعوة الجديدة التي قام بها محمد

ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ لذا فقد جندت كل قواها لصد هذه الدعوة واتخذت

كل الطرق للنيل منها ومن صاحبها.

وأصبح الانضمام إلى معسكر الإيمان جد الجد، لا يتقدم إليه إلا مَن هانت

عليه نفسه في سبيل هذه الدعوة. وأقبل فتية من قريش لا يستخفهم طيش الشباب

ولا تستهويهم الجِدة، أقبلوا على هذا الدين، وآمنوا برب واحد، وكفروا بغيره

وارتضوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلماً وهادياً. ونالوا من الأذى ما

تعجز عنه الأبدان، وصبروا على ما أصابهم وكيف لا يصبرون وقدوتهم -صلى

الله عليه وسلم- يدلق على ظهره سلا الجَزور، ويسمع من طواغيت قريش أفحش

الكلام.

وهو - في أثناء ذلك - يربي أصحابه التربية الإيمانية التي تؤسس العقيدة

على أرض صلبة لا تجرفها السيول، ولا تحتملها الرياح والأنواء. كان - عليه

الصلاة والسلام - يربى فيهم الحماسة لهذه العقيدة، والتضحية لهذا الدين، ولما

أكثروا عليه قال: (قد كان فيمن قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على ... مفرق رأسه فيشق نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما يرده ذلك عن دينه) .. أو كما قال.

لقد رضعوا حب الحرب والقتال وكأنهم وُلدوا مع السيف، ولعبوا مع الرماح، وكان من أيامهم داحس والغبراء والبسوس، وما يوم الفجار ... منهم ببعيد. فكيف يصبرون على الأذى والظلم وهم على الحق؟ ! وكلما شكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: كفوا أيديكم، وأقيموا الصلاة، ولم نؤمر بقتال، كان ينمي فيهم روح التلقي من الله - عز وجل - وحده،

فلا قتال؛ لأن الله لم يأمرنا بالقتال ولكن أمرنا بالصلاة التي هي تربية

روحية تعمق العلاقة بين العبد وخالقه.

حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم، بل خرج حظ نفوسهم من نفوسهم

ولم يبق في قلوبهم إلا الامتثال التام لأوامر الله - عز وجل - أمرهم الرسول -

صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلى المدينة، واستكمل بناء التربية الإيمانية،

وتمثلت الأخوة على أساس العقيدة في أروع صورها بين المهاجرين والأنصار،

وأصبح للمسلمين دولة، وللإسلام صولة واستطاع هؤلاء الفتية - الذين رباهم

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عينه - أن يدمروا في غضون 30 سنة

طواغيت الكفر، لا في مكة أو الجزيرة العربية فحسب وإنما في كل بقعة وصلتها

أقدامهم وهم يرددون القولة الخالدة: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله

وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا

والآخرة.

إنها حقًا رحلة طويلة تلك التي خاضها فتية مكة من الجاهلية إلى الإسلام،

طويلة كبعد الجاهلية عن الإسلام.

إبراهيم الهزاع - مانشستر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015