نوال- المدينة المنورة
في حديث العلماء عن العلم، وطلبة العلم، والدعوة والدعاة، يكثر تنبيههم
على (السلبيات) والأخطاء التي تصدر من طلبة العلم، ومن مسارعتهم إلى الفتوى، وغرورهم والأخطاء التي تصدر من الدعاة في دعوتهم ... إلخ.
وكان من الإنصاف أن يقال: إن الإنسان يخطئ ويصيب، ويمشي ثم يتعثر
مهما كان متزناً، والشيطان قد توعد أن يجلس في طريق الصراط المستقيم إذا سار
عليه الإنسان.
فطالب العلم والداعية هما ممن يتوقع منهما الزلل أكثر من غيرهما؛ لأنهما
من البشر الذي يخطئ ويصيب بنظراته، ولأنهما قد سارا في الطريق الذي تحفه
الشياطين تريد اقتناص السالكين! !
ونتوقع الخطأ من طالب العلم الداعية - أيضاً - فوق ذلك لأنه: غض
التجربة، صغير المدارك، لين الإهاب. وهكذا فإنك ترى الطفل الصغير - حديث
عهد بمشهي - يقع ويتعثر أكثر ممن هو أكبر منه سناً، وأكثر خبرة وتجربة.
إذن الأخطاء الصادرة من طالب العلم الداعية المبتدئ متوقعة وينبغي أن
توضع في مكانها الصحيح في إطار التربية المرحلية، ولذلك فإن من الصواب
بمكان أن نذكر للشباب المؤمن سيرة ابن تيمية - رحمه الله - وصبره، وجهاده،
وسداده، وحنكة مواقفه، وشجاعته، وصدقه، بل من المفترض أن نذكر لهم سيرة
مَن هو أجلّ وأعظم، سيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
إنه لا ينبغي أن نُشعر طلبة العلم الدعاة أنهم بِدع في الناس، لهذه الأخطاء
التي يرتكبونها والحق أنها ليست أخطاءً هينة وقليلة وهذه الأخطاء هي مما يقع من
كل البشر.. ألم يقتل أسامة بن زيد - رضي الله عنه - رجلاً من جهينة، وقال إنه
كان متعوذاً؟ ! [1]
ألم يسبق أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في تعبير الرؤيا؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أصبت بعضاً
وأخطأت بعضاً [2] ألم يختلف الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - على غنائم
بدر شيوخاً وشباباً؛ فأنزل الله فيهم سورة الأنفال؟ ! [3]
ألم يكتب حاطب بن أبي بلتعة للمشركين كتاباً يُعْلمهم فيه أحوال المسلمين..
وهذا - عند عمر - نفاق يوجب القتل، ولكن عند مربي هذه الأمة - صلى الله
عليه وسلم - هفوة وخطأ ... «ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما
شئتم فقد غفرت لكم» . [4]
ألم يُعمل خالد سيفه في بني جذيمة.. فقتل وأسر.. وكان هذا بسبب أنهم لم
يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا فقالوا: صبأنا ولم يفهم خالد مرادهم.. وتبرأ رسول
الهدى - صلى الله عليه وسلم - مما صنع خالد.
وهناك شواهد أخرى كثيرة تدل على أن الأخطاء قد وقعت من خير القرون -
رضي الله عنهم وأرضاهم - فهل نظن أن هذه المواقف مما يسودُّ بها وجه التاريخ
ويكفهرّ؟ !
كلا والله! ! بل هي البشرية في أسمى معانيها، ومن سمو معاني البشرية
وبهائها خطأ الإنسان ثم صوابه، واجتراحه للذنب ثم توبته، وعثرته ثم اتزانه،
واعوجاجه ثم استقامته! !
إن وقوع الخطأ والزلل أمر مفروغ منه.. ولكن هذا التثريب المستمر الذي
يصُم أذنيه أحياناً عن معرفة أن هذا شوك في الطريق ينبغي اقتلاعه يسد باب الأمل
عند طلبة العلم الدعاة، ويحزنهم، ويشعرهم أنهم بدع في السائرين.
ولعل من نافلة القول أن يقال: إن الله - تعالى - يدفع بهذه الأخطاء إلى
الصواب، وبهذه الهفوات إلى السداد، فإن هذه الأخطاء الكثيرة - في البداية - تكاد
تكون أمراً لا بد منه؛ ليستقيم العوج، ويعمق التفكير وأسلوبه، وتستنير البصيرة،
ويصفوا الوادي بعد حمله الأكدار.. [أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا
فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً ومِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ
فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] [الرعد: 17] .
وهكذا فبداية الدعوة وطلب العلم تحمل أكداراً وشوائب، ومع الاستمرار
والثبات والصبر والاهتداء وبذل النصح وتقبّله، ومع سريان ماء الوادي، ومع
انفصال الشوائب عن نفيس المعدن بفعل الحرارة والتوهج ... يصفو كل شيء.
وبعد: فهذا ليس تهويناً وتقليلاً من شأن تلك الأخطاء فهي كثيرة فادحة،
يكفيك منها التصدر للفتوى ما لو سئل عنه عمر لجمع أهل بدر له.
وبعد: فهذا ليس سداً لباب النصح والتوجيه، لكنه فتح لنافذة احتواء هذه
الهفوات وأن تنزل منا منزل التوقع والتدارك والنظر بعين العطف، وهو ليس تتبعاً
لهفوات القوم - رضي الله عنهم - وإنما هو بحث عن البشرية في أصدق معانيها
وفي خير مظاهرها، وهو رسم لخارطة السلوك الإنساني، والإشارة ببنان
مضطرب إلى موقع كل من الخطأ والصواب ... والله المستعان. ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ...