تطبيق السنة
بين الغلوّ والجفاء
محمد بن عبد الله الدويش
إن مظاهر البعد عن السنة تتمثل في اتجاهين:
أولاً: التفريط والجفاء:
وهذا له مظاهر نشير إلى أهمها بإيجاز:
1- عدم العناية بها:
البعض من الدعاة إلى الله - عز وجل - قد أهمل هذه السنن ولم يعتنِ بها
بل كثيراً ما يمتد الأمر إلى التهاون في الواجبات والمحرمات. وعندما ترى الداعية
لا تكاد تفرق بينه وبين غيره في عبادته وصلاته وهديه وسَمْته ومظهره، ولا شك
أن المسلم ينبغي له أن يلتزم الإسلام من حيث الجملة، ولا يعفيه من ذلك كونه
يعيش في واقع سيئ.
2- دعوى تقسيم الإسلام إلى لب وقشور:
بدأت تطل هذه الدعوى نتيجة لغيبة منهج أهل السنة والجماعة عن الساحة
وفشو الجهل وقلة العلم. ويكفي في بطلان هذه الدعوى أن هذا التقسيم لا يُعرف
عن سلف الأمة. كيف وقد قال - تعالى -[ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى
اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] [الأحزاب: 36] وقد حذر النبي
- صلى الله عليه وسلم - من محقِّرات الذنوب التي يقع فيها الكثير من هؤلاء بحجة
أنها قشور أو مسائل خلافية «يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً» أخرجه النسائي وابن ماجة من حديث عائشة. وأخرج أحمد بسند حسن من
حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:
«إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ ...
فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى ما يؤخذ بها صاحبها تهلكه» .
وهناك فرق بين التقسيم إلى فروع وأصول والتقسيم إلى لب وقشور.
3- الانشغال بالقضايا المعاصرة:
إننا في عصر قد بلينا بأمور جسام وانحرافات خطيرة يصل بعضها إلى الردة
عن دين الله - عز وجل - كما سيأتي الإشارة إلى شيء من ذلك، ولذلك قال
البعض بحسن نية: لِمَ نشغل أنفسنا بهذه الأمور وندع القضايا الأهم؟ ! ، المسلمون
يُقتلون ويُذبحون وأنت منشغل بحكم الإسبال واللحية والإشارة بالسبابة في الصلاة.
ونحن لا نجادل أن هناك قضايا أهم من هذه بكثير، لكن هل يعني ذلك ترك
هذه الأمور الفرعية والسخرية ممن يفعلها؟ ولِمَ نفترض التعارض أصلاً؟ ؛ فإن
الكثير من هؤلاء تضيع عليهم أوقات كثيرة سدى، فلا هم نصروا المستضعفين،
ولا حلوا مشاكل الأمة، بل تجد إعراضهم وبُعدهم يمتد إلى أصول مهمة في الدين
لا يُعرف تفاصيل حكم الله فيها. إن وجود هذه الانحرافات يتطلب الاهتمام بها ولا
شك، وأن تكون في قائمة اهتماماتنا، لكن لا يعني ذلك بالضرورة ترك ما عداها
ولا الانشغال بما دونها عنها. ولما جاء عقبة بن عامر يبشر عمر بفتح بيت المقدس
تلقى بُشراه ثم نظر إلى قدميه فرأى عليه خفين فسأله.. فلم يشغله اهتمامه بأمر
المسلمين عن العناية بهذه القضية الفرعية. ولما دخل عليه شاب مسبل إزاره -
وهو في النزع - لم يشغله ذلك عن الإنكار عليه.
ثانياً: الغلو في تطبيق السنة:
1- تتبُّع الغرائب:
مما يؤسف له أن البعض يحرص على السنن الغريبة والمجهولة عند الناس،
والتعلق بالغرائب مما جبلت عليه النفوس، أليست القصة الغريبة والحديث الغريب
مما يجد رواجاً لدى الناس ويشد انتباههم أكثر من غيره؟ ، ومن هنا تتعلق نفوس
البعض ببعض الغرائب - عن الناس - فعندما يرى سنة مجهولة أو غريبة يسارع
إلى المبادرة إليها والتمسك بها، ولسنا نقف ضد إحياء السنة. إنما الغالب في هذا
الأمر شهوة خفية لدى البعض قد لا يحس بها ألا وهي التعلق بالغرائب وحب مخالفة
الناس، ثم إن فعْل ذلك يعطي تميزاً لهذا الشخص وهذا من مداخل الشيطان. وإذا
كان الأمر يتعلق بإحياء السنة لا غير فما بال بعض السنن المهجورة نجد القلة ممن
يحييها!
إن تأليف قلوب الناس على الحق وجمع كلمتهم مطلب شرعي؛ فقد قال ابن
مسعود - رضي الله عنه -: (ما أنت محدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان
لبعضهم فتنة) . وقال علي- رضي الله عنه-: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون ...
أن يكذَّب الله ورسوله؟ !) بل قد ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدم
الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم؛ لأن قومه حديثو عهد بجاهلية، وبعد أن بناها
ابن الزبير وأعادها الحجاج لم يفتِ أحد من علماء الأمة بهدمها وبنائها مرة أخرى.
وقد ترك - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل
أصحابه، إن تأليف قلوب الناس بترك سنة أو تأجيلها أوْلى من ترك الكعبة وقتل
المنافقين.
ومجتمعنا يحوي عدداً من كبار السن الذي عاشوا سنين طويلة في مجتمع
متدين محافظ، فكيف بهم يفاجأون بشاب يأتيهم بما لم تأتِ به الأوائل، يأتي ليؤذن
أذاناً ما عهدوه، أو يوتر بخمس وقد عهدوا خلاف ذلك! . أليس من المصلحة اتباع
الحكمة والتروي في تعليم الناس السنة؟ وأن تكون ممن يثقون بعلمه ودينه لا من
حدث في سن أصغر أحفادهم. وثمَّة أثر آخر لذلك وهو أن الناس يهون عليهم
التغيير بعد ذلك فقد يقبلون بداعي البدعة أو تبديل بعض شرع الله؛ لأنهم اعتادوا
الخروج عما ألفوه واعتادوه.
2- الاهتمام بها على حساب الواجبات:
لا أظن أني أجاوز الحقيقة إذا قلت إن البعض ممن يعرف تفاصيل الأدلة في
مثل هذه المسائل قد يخطئ في عدة أركان أو شروط أو مبطلات الصلاة، وقد لا
يفرق تفريقاً دقيقاً بين الواجب والشرط والركن، ناهيك عما يفسد الصوم وما لا
يفسده، ومسائل المسح على الخفين، والجبيرة، وما يصح وما لا يصح من العقود، فضلاً عن أدلة هذه المسائل وتفصيلاتها، بينما يعرف دقائق التفصيلات في هذه
السنن. وقُل مثل ذلك عن شروط الشهادتين ولوازمهما ومقتضياتهما، وأصول أهل
السنة والجماعة والحد المخرج عن جماعة أهل السنة والمدخل فيها. أما أصول
الفقه واللغة فلا تسأل عنهما!
3- الاهتمام بها على حساب القضايا المعاصرة:
لقد ابتلينا في عصرنا الحاضر بانحرافات خطيرة عن دين الله - عز وجل -
يصل بعضها إلى الكفر البواح، كالحكم بغير ما أنزل الله، وتشريع الأنظمة
والقوانين المخالفة للشريعة، وإباحة الربا والفواحش، وسن الأنظمة التي تحميها
وتنظمها. والدعوة للسفور وخروج المرأة ناهيك عن العلمانية التي استحكمت
خيوطها في جسد الأمة. أما الفرق الضالة فقد بدأت تنفض ركام التاريخ لتعيد أمجاد
القرامطة والعُبيديين، وتحيي ذكريات أبي طاهر وابن العلقمي ونصير الشرك
والحاكم بأمره؛ لترقص على أشلاء أهل السنة في غيبة فوارسهم.
ما نصيب هذه الأمور من الاهتمام والدراسة العلمية الرصينة والنقاش
والإثارة، لا أبالغ إذا قلت إن بعض الأخيار يجهل أصول بعض هذه المسائل فضلاً عن تفاصيلها. فضلاً عن الاهتمام بها.
ولا يعني هذا إهمال الأمور الفرعية - كما سبق - إنما يجب أن تُعطى قدرها
من الاهتمام وتوضع الأمور في نصابها.
4- الإكثار من طرحها واثارتها:
وثمَّة موقف آخر يحتاج إلى وقفة، ذلكم أن البعض كثيراً ما يردد هذه المسائل
في المجالس وكثيراً ما يقرأ فيها وينقب ويسأل عنها كل مَن لقيه، وهذا كله على
حساب ما هو أهم وأوْلى كما سبق، أليس من وضع الأمور في نصابها أن نبحثها
مرة أو مرتين بقدر ما نصل في ذلك إلى قناعة عملية ثم نشتغل بغيرها؟ ، فهل هي
كل ما نحتاجه لنقرأ فيه ونسأل عنه ونطرحه للنقاش؟ .
5- التكلف والتشدد في تطبيقها:
ما أحوجنا إلى أن نلزم أنفسنا بما فُرض فعله أو تركه، ونتفقد أنفسنا على
ذلك ثم نسعى جاهدين لتطبيق ما نستطيعه من سنن بيسر ودون تشدد أو مبالغة.
لقد رأيت أكثر من شخص في موسم الحج والعمرة وقد أطلق شعر رأسه إلى
منكبيه اتباعاً للسنة بزعمه وأين هو من قوله - تعالى -: [مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ
ومُقَصِّرِينَ] [الفتح: 27] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اغفر
للمحلقين ... » ، ومثله أن يجئ شخص متأخراً إلى المسجد بعد إقامة الصلاة ويدفع
الناس ليصل إلى الصف الأول، أو يضايقهم ليسوِّي الصف!
وإن مَن يسلك هذا المسلك لابد له من أن يكون ذلك على حساب الفرائض،
أو على حساب سنة أولى منها، أو إلى الغلو والتشدد الذي قد نُهي عنه، أو أن
يطبق السنة تطبيقاً خاطئاً.
سنن مهجورة أوْلى بالإحياء:
ثمة فرق واضح بين السنن المهجورة والسنن المجهولة؛ فالأولى أعم، فكل
سنة لا يعمل بها الناس فهي مهجورة ثم قد تكون مجهولة لدى الناس وقد تكون غير
ذلك. ولقد كان السلف لا يدعون ختم القرآن وتحزيبه، فقلما تقرأ في ترجمة أحدهم
إلا وتجد أنه كان يختم في كذا وكذا ومعظم هدْيهم التسبيع. فأين شبابنا عن التعشير
بله التسبيع، بل أين مَن يختم منهم مرتين في الشهر، وثالثة الأثافي أن الكثير منا
لا يأتي إلى المسجد إلى عند الإقامة وتراه لا يساوم على الصف الأول، فأين انتظار
الصلاة، والرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة، وقل
مثل ذلك في قيام الليل وصيام النفل والجلوس في المسجد للذكر بعد الصبح؟ ! .
أين الحريصون على السنة والمتشددون في تطبيقها من هذه السنن، أليست
هذه السنن أولى بالإحياء وفيها ما يدعو إلى حياة القلب وصلاحه وإزالة القسوة التي
نشكو منها جميعا. وثانياً أليس هذا يعطي دليلاً صادقاً للناس على صدقنا ويجعلنا -
معشر طلاب العلم - قدوة للآخرين؟ .
وأخيراً نستطيع أن نخلص إلى ما يلي:
أولاً: ضرورة العناية من الدعاة إلى الله - عز وجل - بالإسلام جملة
وتفصيلاً بالسنن والواجبات بالفروع والأصول، وأن يتميز الدعاة إلى الله عن
غيرهم بالعناية بهذا الأمر.
ثانياً: ضرورة أن نحرص على نوع من السنن (المهجورة لا المجهولة)
كالتبكير للصلاة والجمعة، وقيام الليل والجلوس في المسجد للذكر بعد الصبح؛ لما
لها من دور في إحياء القلوب وإزالة قسوتها، ولأنها تعطي الناس الثقة بما نحن
عليه.
ثالثاً: لا بد في تطبيق السنة من الحكمة والتأني وعدم مفاجأة الناس بأمور لا
يعرفونها، ومن التيسير وعدم التكلف فيها والتشدد.
رابعاً: لا يسوغ أن نكثر من بحث هذه المسائل وإثارتها على حساب ما هو
أهم منها بل يكفي تأصيلها.