مجله البيان (صفحة 784)

اجتماع

نصوص مختارة من مقدمة ابن خلدون

اختيار وتعليق: محمد العبدة

تمهيد:

مقدمة ابن خلدون أشهر من أن تُعرّف، فهي من أعظم ما كتب في العصور

الإسلامية حول ما يسمى الآن (علم الاجتماع) وفلسفة التاريخ، وسماه ابن خلدون

(علم العمران) [1] ، ولم يتنبه المسلمون لأهميتها بعد ابن خلدون؛ لأن الضعف

العلمي والثقافي الذي جاء بعده لا يتيح الفرصة لاكتشاف أهمية مثل هذا العمل،

فكيف بالزيادة عليه أو إكمال بعض النقص فيه، وإن كان بعض تلامذته

(كالمقريزي) أو من جاء بعده بقليل (ابن الأزرق) عرفوا أهمية فكر ابن خلدون

التاريخي، ولكن لم يضيفوا شيئاً يذكر على ما كتبه هو.

وقبل أن نختار بعض الفصول من المقدمة نرى أنه من المناسب إعطاء

القارئ لمحة موجزة عن حياة ابن خلدون وعن المقدمة.

هو عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي، من أسرة عريقة في

الأندلس، يرجع نسبها إلى خالد (خلدون) بن عثمان، وهو أول مَن دخل الأندلس،

ويُرجع ابن حزم نسب هذه الأسرة إلى الصحابي وائل بن حجر.

ويمكن تقسيم مراحل حياته إلى:

1- نشأته وتعلمه.

2-الوظائف الإدارية والسياسية التي قام بها.

3- التفرغ للعلم وكتابة المقدمة.

4- رحلته إلى المشرق واستقراره في مصر.

1- نشأته وتعلمه:

وُلد ابن خلدون في مدينة تونس في غرة رمضان سنة 722 هـ، وذلك لأن

أسرة ابن خلدون هاجرت من الأندلس مع الحفصيين بعد تغلب النصارى هناك.

وعلى طريقة التعليم يومها تعلم الطفل القرآن والتجويد ثم العلوم العربية والتفسير

والحديث والفقه. ولما شب أخذ من كل العلوم، فدرس المنطق والعلوم الطبيعية

والرياضية، وفي الثامنة عشرة من عمره انقطع عن التعلم بسبب الوباء الذي اجتاح

تونس وهجرة أكثر العلماء إلى المغرب الأقصى.

2- الوظائف الإدارية والسياسية:

بدأ ابن خلدون حياته بوظيفة متواضعة وهي كاتب في ديوان وزير الدولة

الحفصية، ثم انتقل إلى حاشية السلطان أبي عنان في المغرب الأقصى، وأصبح

عضواً في مجلسه العلمي ومن كُتابه، وهنا بدأت طموحاته السياسية، وتعرَّف على

القصور والمؤامرات التي تحاك لإزاحة السلطان والإتيان بغيره، وشارك في هذه

المؤامرات، وكان هدفه الوصول إلى الوظائف الكبيرة وقد وصل إلى شيء منها

عندما عُين حاجباً (رئيس الوزراء) لأمير بجاية في سنة 766 هـ. وفي هذه الفترة

بدأ يشعر أن لا فائدة كبيرة من الخوض في غمار السياسة؛ خاصة وأنه لم يحقق

كل طموحاته، وعاوده الحنين إلى العلم وهي نزعة أصيلة في ابن خلدون، ولكنه

لم يقرر الاعتزال النهائي إلا في سنة 776 هـ.

3- التفرغ للتأليف:

استأذن ابن خلدون سلطان (تلمسان) في نزوله على أصدقائه بني عريف في

قلعة بني سلامة فأذن له ولأسرته، فانتقل إلى هذا المكان المنعزل، ومكث فيه أربع

سنوات نَعِم فيها بالاستقرار، وبدأ بتأليف كتابه (العِبَر) في التاريخ، وكان مقصده

الأساسي الكلام عن دول المغرب بشكل عام، ثم وسعه بعدئذ وتكلم عن دول

المشرق ويبدو أنه قبل فراغه من هذا الكتاب كتب مقدمة وفي نيته الكلام عن أغلاط

المؤرخين وكيف يصحح الخبر التاريخي، وما هي القواعد التي تعتمد في هذا

الموضوع، ومعرفة نشوء الدول وقيامها وأسباب انهيارها، وبمجرد البدء بالكتابة

انهالت عليه (شآبيب الكلام) كما يقول، فكتب عن الظواهر الاجتماعية وتأثيرها في

العمران البشري يقول: (ولم أترك شيئاً في أولية الأجيال والدول، وما يعرض في

العمران في دولة وملة، ومدينة وحِلَّة، وعزة وذلة، وعزة وقلة، وعلم وصناعة،

وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة، وبدو وحضر، وواقع ومنتظر، إلا

واستوعبت جمله، وأوضحت براهينه وعلله) [2] .

كل هذا درسه كظواهر يمس من خلالها تفسير العمران الإنساني وكيف تقام

الدول وكيف تذوي وتذبل وكأن عقله الجوال وذهنه الوقاد كان يختزن هذه

المعلومات أثناء عمله في الإدارة والسياسة، فكان يحلل ويفكر في مثل هذه ...

المواضيع، فلما بدأ بالكتابة جاءته الأفكار قوية مندفعة كأنها شلال، فأنهى المقدمة

في خمسة أشهر، واكتشف أنه أتى بعلم جديد، فهو يقول: (وكأن هذا عالم مستقل

بنفسه، فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل

وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته [3] ، واعلم أن الكلام في هذا

الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث،

وأدى إليه الغوص) [4] .

4- بعد فراغه من تأليف الكتاب (الذي هو المقدمة وكتابه في التاريخ المسمى

(العبر)) أهدى نسخة منه إلى سلطان تونس، وعزم بعدها على الحج والاستقرار

في المشرق، فوصل إلى الإسكندرية سنة 784 هـ ثم إلى القاهرة وعاش بقية

حياته فيها بين وظائف القضاء والتدريس، وتُوفي سنة 808 هـ.

مضمون المقدمة:

تشتمل المقدمة على خطبة الكتاب وتمهيد في فضل علم التاريخ، ثم ستة

أبواب في شؤون العمران، والباب الأول كله مقدمات عن أثر البيئة الجغرافية في

الإنسان، وتكلم في الباب الثاني عن العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل كأصل

للعمران الحضري وفي الباب الثالث عن الدول العامة والملك والخلافة، وهو أهم

الأبواب، وفي الباب الرابع عن البلدان والأمصار (المدن) وما يعرض في ذلك من

الأحوال أي طريقة التجمع الإنساني. وتكلم في الباب الخامس عن الكسب والمعاش

والصنائع أي عن الاقتصاد. وأخيراً عرض في الباب السادس موضوع العلوم

وأصنافها والتعليم وطرقه. وهذه مختارات من الباب الثاني قال:

معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة عنهم: [5] ...

وذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه، فمن الغالب أن يكون الإنسان في ...

ملكة [6] غيره ولابد، فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة لا يعاني فيها حكم ولا

منع وصد - كان من تحت يدها مدلِّين [7] بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، واثقين ... بعدم الوازع، حتى صار لهم الإدلال جِبِلَّة لا يعرفون سواها. وأما إذا كانت ... الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سَوْرة [8] بأسهم وتذهب ... المنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه، وقد نهى عمر ... سعداً [9]- رضي الله عنهما - عن مثلها [10] ، لما أخذ زهرة بن حويه [11] سَلَبَ الجالنوس، وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفاً من الذهب، وكان (زهرة) اتبع ... جالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه، فانتزعه منه سعد وقال له: (هلاَّ انتظرت ... في اتباعه إذني؟) وكتب إلى عمر يستأذنه؛ فكتب إليه عمر: (تَعْمِدُ إلى ... ... مثل زهرة وقد صَلِي [12] بما صلي به، وبقي عليك مما بقي من حربك وتكسر ... فُوقه [13] وتفسد قلبه) وأمضى له عمر سلبه.

وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به ولم

يدافع عن نفسه - يكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك وأما إذا كانت

الأحكام تأديبية وتعليمية، وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه

على المخافة والانقياد، فلا يكون مدلاً ببأسه. ولهذا نجد المتوحشين [14] من

العرب أهل البدو أشد بأساً ممن تأخذه الأحكام [15] ، ولا تستنكر ذلك بما وقع في

الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم، بل كانوا أشد

الناس بأساً؛ لأن الشارع - صلوات الله عليه - لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان

وازعهم فيه من أنفسهم، لما تلي عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم

صناعي [16] ولا تأديب تعليمي. إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلاً يأخذون

أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق، فلم تزل سورة بأسهم

مستحكمة كما كانت، ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم، قال عمر - رضي الله

عنه -: (من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله) ، فقد تبين أن الأحكام السلطانية ...

والتعليمية مفسدة للبأس؛ لأن الوازع أجنبي (خارجي) وأما الشرعية فغير مفسدة؛

لأن الوازع فيها ذاتي [17] .

من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل والانقياد إلى سواهم: [18]

وسبب ذلك أن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية [19] وشدتها، فإن

انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا [20] للمذلة حتى عجزوا عن

المدافعة ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة،

واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى - عليه السلام - إلى ملك الشام،

وأخبرهم بأن الله قد كتب لهم ملكها، كيف عجزوا عن ذلك، وقالوا: [إنَّ فِيهَا

قَوْماً جَبَّارِينَ وإنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا] [المائدة: 22] . ولما عزم عليهم

لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا له: [فَاذْهَبْ أَنتَ ورَبُّكَ فَقَاتِلا] [المائدة: 24] وما

ذلك إلا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة، وذلك بما حصل

فيهم من خلق الانقياد وما رئموا من الذل للقبط أحقاباً، حتى ذهبت العصبية منهم

جملة، مع أنهم لم يؤمنوا حق الإيمان بما أخبرهم به موسى من أن الشام لهم،

فعاقبهم الله بالتيه، ويظهر من سياق الآية ومفهومها أن حكمة ذلك التيه مقصودة،

وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وتخلقوا به وأفسدوا

من عصبيتهم، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ولا

يسام بالمذلة [21] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015