الافتتاحية
عندما ندافع عن منهج (أهل السنة) في النظر والاستدلال وفي طريقة التفكير، وفي مصادر المعرفة، إنما نفعل ذلك لاعتقادنا الراسخ أنه لا يوجد منهج غيره
يوصل إلى أهداف الإسلام، فالمنهج الكلامي الاعتزالي يوصل إلى الجدل،
والمناظرات والردود، وتأليف الكتب الجافة، ويظن أهله أنهم إذا حرروا هذا
التعريف أو ذاك المصطلح فإن البشرية تسعد في حياتها، وشبيه بهؤلاء من يعيش
بعيداً عن هموم الدعوة ومشاكل الناس ويؤلف الكتب الضخمة في الحلول النظرية.
وأما منهج الصوفية الذي يعتمد على الذوق والعرفان والخيالات والرؤى فهو أبعد
وأضعف من أن يؤدي إلى إعمار الأرض والتمكين فيها كما يريد الله منا، ولذلك
كانت أعظم معجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - هي معجزة القرآن «ما من
الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما الذي أوتيته
وحياً أوحاه الله - عز وجل - إليَّ، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم
القيامة» [1 /134] .
إن منهج أهل السنة هو الذي يؤدي إلى تقدم المسلمين ونهضتهم وعزهم؛ لأنه
منهج يفضل العمل على الكلام، والتطبيق على النظري. وقد فقه الإمام مالك -
رحمه الله - هذا المنهج عن التابعين والصحابة فقال: «لا أحب علماً ليس تحته
عمل» وقال مسروق: (سألت أبيّ بن كعب عن شيء فقال: أكان بعد (هل وقع)
قلت: لا، قال: فأجمّنا (أرحنا) حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا) [1] .
والصحابة فهموا هذا من منهج القرآن [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ والْحَجِّ] [البقرة: 189] ؛ فوقع الجواب بما يتعلق به عمل.
وسئل - عليه الصلاة والسلام - عن الساعة، فقال للسائل: «ما أعددت
لها؟» ومنع من النظر في الأمور التي لا يقدر عليها العقل «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله» وإنما كانت عناية السلف بعد تحصيل العلم الذي لابد منه بالجهاد وتفقد العامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، «وليس في القرآن من الأمر بطلب العلم الزائد على الكفاية مثل ما فيه من الثناء على الخاشعين في الصلاة الصابرين في البأساء والضراء، وكذلك الحديث فإن في الصحيحين والسنن الثلاث والموطأ ثمانية وستين حديثاً في الحث على الجهاد..» [2] .
وهذا المنهج في الرأفة والرحمة بالخلق، ومعرفة ما ينفعهم وما يضرهم كمثل
طبيب زار مريضاً فرأى مرضه فدلّه على شراب ودواء معين وأمره بنظام في
الطعام والشراب فأطاع المريض فشفي، ولكن الفيلسوف يسلك طرقاً طويلة، إذ
يتكلم عن سبب المرض وصفته وذمه وذم ما أوجبه، ولو سأل المريض عما يشفيه
لعجز عن الإجابة [3] .
هذا المنهج في استقراء الجزئيات للوصول إلى القواعد العلمية العملية هو
الذي جعل عند علماء المسلمين الاستعداد للبحث التجريبي العملي، ولذلك ظهر فيهم
مثل ابن النفيس وابن الهيثم، ولكن عندما نُكسوا على رؤوسهم ورجعوا إلى الجدل
وعلم الكلام ضاعت منهم الفرصة وأخذها الأوربيون، وساروا بها طويلاً وخرج
منهم من يطلب تربية الأطفال على الشيء العملي النافع (جون ديوي) وتقدموا في
العلوم المادية تقدماً هائلاً بينما كان المسلمون على استعداد لهذا لو أنهم تبعوا منهج
أهل السنة، كما قال الإمام مالك: (وأكره أن ينسب أحد حتى يبلغ آدم، ولا إلى
إبراهيم، ومن يخبره مَن بينه وبين إبراهيم؟ !) [4] . فالإمام مالك لا يحب علماً
غير محقق ولا يفيدنا شيئاً مثل أن يسلسل نسب شخص إلى آدم - عليه السلام -
وهذا ما يطالب به علماء التربية في العصر الحديث في تعليم الأطفال، والعجب أن
يأتينا في هذا العصر من يريد إرجاعنا إلى علم الكلام والجدل، وهو الذي أضعف
المسلمين عن أن يكونوا هم السابقين إلى إعمار الأرض واستخراج العلم النافع
ويكون هذا سبباً في نشر الإسلام.