د. عمر المالكي
إن الحق الذي لا مراء فيه أن النفوس استمرأت المستوى الهابط الذي يبث
على المستوى المحلي أو من دول مجاورة أقل تمسكاً بالقيم الاجتماعية الأصيلة مما
انعكس على البث الأجنبي المباشر. ونحن المسلمين في عصور الضعف تعودنا ألا
نفيق إلا على صدمة الحدث، وأن نكون في غيبة تامة عما يسبق الحدث من
مقدمات. فلم يكن البث المباشر وليد الساعة، ولا يمكن لحدث هذا حجمه وله من
الآثار المعلنة والخفية ماله أن يكون حدثاً ذا بعد زماني قصير. وأهمية الحدث
باختصار تكمن في اعتماده على المعلومة وسيلة للتغلغل في عقول الأفراد
والجماعات، وبالتالي توجيهها بما يخدم أهداف الجهة الناشرة. فالبث المباشر يمثل
قمة الإنجاز العلمي فيما يسمى ثورة الاتصالات، وإنه لمن المؤسف حقاً أن يحيا
المسلمون على هامش الحدث وأن يكونوا الضحية الكبرى شباباً وشيباً، نساء
ورجالاً.
في هذه المقالة، سنستعرض هذه التقنية والمستفيدين منها باستعراض
استخدامات هذه التقنية في الدول المتقدمة في هذا المجال ثم نعرج على بعض
الاقتراحات التي نأمل أن تجد طريقها إلى التنفيذ.
الوحدات الأساسية للعالم:
إلى ما قبل إعادة البناء، كان العالم ينقسم إلى معسكرين: شرقي وغربي،
ودول عدم الانحياز التي في حقيقتها منحازة إما إلى الشرق الشيوعي أو الغرب
الرأسمالي بما في ذلك دول كبيرة كالصين واليابان. وفي جميع الأحوال لم يكن
الشرق والغرب مختلفين في وجهة النظر حيال قضايا أساسية كالتجمع الإسلامي،
بل إن مفكري الغرب وصنّاع القرار يصرّحون بأن المخاوف من الخطر الأصفر
(الياباني) وهم لا مبرر له، وإنما الخطر الحقيقي هو الإسلام [1] .
ولقد كانت الحركة الإصلاحية (إعادة البناء) تؤكد هذا الشعور والقناعة ...
الراسخة، ويكفي مراجعة فصل: (أوروبا، بيتنا المشترك) وفصل (النزعات
الإقليمية) من كتاب بيروسترويكا لجورباتشوف [2] لمعرفة طبيعة العلاقة بين العالم
الإسلامي ودول العالم تعين كثيراً في معرفة طبيعة الغزو المدمر الذي يحمله البث
المباشر.
كيف يتم البث المباشر؟ : على ضوء التقنية الحالية فان البث المباشر يتم عبر
أجزاء ستة لابد منها وهي:
1- قرص استقبال من الأقمار الصناعية.
2- جهاز معالجة التشويش والموجات غير المرغوب فيها.
3- جهاز التقاط البث التلفزيوني من الأقمار.
4- معالج قنوات البث التلفزيوني.
5- جهاز التلفزيون.
6- محطة الإرسال التلفزيوني والقمر الصناعي الموزع.
ولكن التقنية تتغير تغيراً سريعاً، واليابان تعد بأجهزة صغيرة جداً تجعل من
اليسير جداً التقاط البث المباشر بواسطة ساعة يد! وهذا أمر غير مستبعد إذا ما
نظرنا إلى القفزات الهائلة التي تحققت في مجال صناعة الفضاء والإلكترونيات.
فما أفاق العالم، من الذهول الذي أحدثه إرسال أول مركبة فضائية حتى تم تحقيق
معجزة أكبر من ذلك عندما التحمت مركبتا فضاء تنطلقان بسرعة كبيرة، ثم تبع
ذلك قبيل عام ونصف تقريباً قيام مركبة فضاء باصطياد قمر صناعي سابح في
الفضاء وإصلاحه ومن ثم إعادة إطلاقه في الفضاء!
ولقد كان القرص المطلوب لالتقاط البث المباشر كبيراً نسبيا في بداية البث
المباشر فإذا به يصغر مع التطور الكبير في تقنية الميكرويف وصناعة الهوائيات،
وهذا يؤكد على سلامة إجراءات التفتيش الجمركي في المنافذ البرية والجوية
والبحرية بل إن صغر حجم الأجهزة يدعو إلى مزيد من الدقة في إجراءات التفتيش.
واقع البث المباشر [3] :
تنقسم الأقمار الصناعية إلى محلية وأخرى غير محلية، ففي عام 1964
قامت أمريكا وعشر دول أخرى للتباحث والاتفاق حول تشغيل شبكة من الأقمار
الصناعية التي تخدم عدة دول. هذه الشبكة العالمية يطلق عليها (انتلسات) وقام
بتركيبها مؤسسة (كومسات) الأمريكية وبحلول عام 1982 أصبح للشبكة أكثر من
106 مستخدم مع وجود محطات أرضية في 155 دولة، وبلغ استثمار الولايات
المتحدة لوحدها في الشبكة 22%.
يوجد حالياً أربعة عشر قمر صناعي عالمي من نوع انتلسات موجهة نحو
المحيطات الأطلسي والهندي والهادي، وتقدم خدماتها على مدار الساعة. والجدير
بالذكر أن البث المباشر والاتصالات الفضائية تخضع لاتفاقيات دولية، فالاتحاد
العالمي المسؤول عن البث هو (the world administrative radio
conference) أو اختصار (W صلى الله عليه وسلم R C) يعتبر ذراع رابطة الاتصالات العالمية
التابعة لهيئة الأمم المتحدة والذي سبق له الاجتماع في عام 1977 ووضع مواصفات
البث التلفزيوني، وحدد مجال الذبذبات المخصصة للبث ما بين11. 7 إلى 145
جيجاهرتز (جيجاهرتز = 1000 مليون هرتز) كما أن الاتحاد حدد عدد القنوات
لكل قمر صناعي بخمس قنوات وسيسمح للدول ببناء أقمار صناعية خاصة بها في
حدود هذه المواصفات. ولقد جعل للاتفاقية مدى زمني للتنفيذ ينتهي بحلول عام
1992 , التأثير الواضح والكبير لإطلاق الأقمار الصناعية غير المحلية (انتلسات)
هو زيادة البث التلفزيوني الذي أصبح يغطي مساحات شاسعة عبر طريق إرسال
البرامج التلفزيونية للأقمار العالمية والتي بدورها توزعها على الأقمار المحلية. ففي
عام 1965 كان هناك 80 ساعة بث تلفزيوني بواسطة الأقمار العالمية بينما ارتفع
العدد ارتفاعاً هائلاً بحلول عام 1981 ليصبح 26658 ساعة وزاد العدد في عام
1982 إلى 45500 ساعة وفي عام 1984 وصل إلى 75000 ساعة هذا هو
الحال في الغرب والدول الحليفة له.
في المعسكر الشرقي (قبل إعادة البناء) قامت روسيا ببناء شبكة البث لدول
حلف وارسو (انترسبوتنيك) فوجد فروق فنية بين هذه الشبكة ومثيلاتها في الغرب
ولكنها تعمل لذات الهدف. أما بعد إعادة البناء فقد عقد مؤتمر رواد الفضاء في
هولندا وحضره أكثر من خمسين رائد فضاء معظمهم من الولايات المتحدة وروسيا
وهيمنت على المؤتمر الدعوة إلى (بيروترويسكا فضائية) . [4]
*الخدمات التي يوفرها البث عن طريق الأقمار الصناعية: تنوعت برامج
البث التلفزيوني عن طريق الأقمار الصناعية تنوعت إلى درجة كبيرة، وأصبحت
هناك شبكات مخصصة لكل نوع من البرامج، فهناك:
**شبكة للأخبار.
**شبكة للبرامج الدينية.
**شبكات تعليمية.
**شبكة لعقد الاجتماعات والمؤتمرات لأفراد في أمكن مختلفة.
**شبكات تجارية.
**الشبكات الخاصة (مثل شبكة وكالة الفضاء الأمريكية ناسا) وغيرها كثير
والأمر الملفت للنظر وجود شبكة للبرامج الدينية التي تشرف عليها الكنائس مثل
شبكة البث المسيحي (Nرضي الله عنهN) وشبكة (Cرضي الله عنهN) والشبكة الأخيرة يصل بثها إلى أكثر
من 17 مليون عائلة عن طريق التلفزيون الكابلي VTصلى الله عليه وسلمC وبرامجها على مدار
الساعة تقدم عن طريق القمر الصناعي Sصلى الله عليه وسلمRCOM3 وتوجد عدة قنوات للبث
الديني واحدة منها للبث الديني اليهودي ومن المقرر بنهاية عام 1990 أن يصل عدد
الكنائس الموصلة بشبكات البث الخاص عن طريق الأقمار الصناعية إلى عدة
آلاف!!
*صناعة قرص الاستقبال (disque antenna) في أواسط السبعينات كانت
تكلفة قرص الاستقبال تصل إلى (10000) دولار أمريكي مما حدا البروفيسور
تايلور هوارد إلى تصميم قرص بنفسه، وتبع ذلك محاولات أخرى جعلت من
الممكن صناعة القرص في حدود تكلفة إجمالية تصل إلى (1000) دولار. ولقد
قامت العديد من المجلات والكتب العلمية بطباعة تقارير عن طريق تصميم دوائر
الاستقبال وقرص الالتقاط في حدود تكلفة تصل الآن إلى (300) دولار فقط.
*ملاحظات: حتى يمكننا الوصول إلى مقترحات محددة فلابد من تحديد
الملاحظات التي على أساسها يكون التوجه، ويمكن إجمال الملاحظات في النقاط
التالية:
**إن هناك غياباً عن معايشة مقدمات الحدث رغم أن معظم هذه الأحداث
وقعت في زمن الوفرة الاقتصادية.
**كما أن هناك غياباً عن معايشة الحدث نفسه معايشة إيجابية فاعلة باستثناء
ندوة أقيمت في اليمن [5] أقامتها الهيئة العامة للمعاهد العلمية هناك.
** بدأت بوادر البث المباشر في تونس، فالبث الفرنسي على القناة الثانية
بدأ بعد زيارة الرئيس الفرنسي في تونس وعقدت اتفاقية بموجبها يسمح للبث
الفرنسي في تونس، وقدمت فرنسا دعماً قدره 60 مليون فرنك ومساعدة تونس
للحصول على التقنية اللازمة، كما وقعت اتفاقية لاحقة تقضي بمنح تونس مساعدة
(150) مليون فرنك. ولقد حدث تقليص في ساعات البث بسبب عرض برامج
تناقض أقوال المسؤولين التونسيين بخصوص الانتخابات! !
والجدير بالذكر أن هناك بثاً تلفزيونياً إيطالياً في تونس سبق البث الفرنسي
حيث بدأ منذ 1967 [6] .
**رغم انتشار الجامعات والكليات التقنية في طول العالم الإسلامي وعرضه
إلا أنه -حسب علمي- لم تقم جامعة واحدة بتبني ندوات ومؤتمرات علمية كما لم
تقم جامعة بوضع سياسة للإشراف على رسائل ماجستير ودكتوراه في هذا المجال
الخطر.
**كذلك لم يسمع عن المؤسسات الإسلامية الكبرى كرابطة العالم الإسلامي
وغيرها أنها قامت بنشاط في هذا المجال.
**إن البث المباشر في ظل التقنية الحالية لا يمكن استقباله دون عمل
تجهيزات خاصة حسبما سبق بيان ذلك.
**إن ديننا يعلمنا أنه ما من داء إلا وله دواء علمه من علمه وجهله من جهله، ونحن لم نبذل شيئاً إطلاقاً في البحث عن العلاج، كما علمنا ديننا بأننا مطالبون
ببذل الوسع في حدود الإمكانات [وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] فإذا بُذل الوسع
تحققت بذلك سنة الله في الأرض بنصر المؤمنين الآخذين بالأسباب.
**إن العالم الإسلامي يزخر بالثروات المادية والإمكانات العلمية من علماء
ومفكرين، والواجب تجميع هذه الطاقات وتوجيهها لخدمة الأمة، ولا يليق بأمة
مستهدفة أن تنفق ثرواتها على اللهو بصنوفه العديدة. وأضعف الإيمان أن يعامل
البث المباشر كصنف من تلك الأصناف اللاهية!
الاقتراحات:
بناء على ما سبق يتبين لنا ضرورة وجود عمل جاد تجاه هذا الغزو المدمر
الذي هو من أقسى ما تعرض له المجتمع المسلم من حروب، وذلك لأنه يهدف إلى
استئصال الإنسان المسلم من جذوره بمحاربة عقيدته وأخلاقه وقيمه، وهدم كيانه
النفسي والاجتماعي، وتأصيل الممارسات الفردية المنحرفة، لتصبح ظواهر
اجتماعية يحسب لها كل حساب. وحتى يكون للمقترحات صدى وتأثير لابد:
- أن تكون لجان من ذوي الخبرة والاختصاص لوضع الخطط والسياسات
اللازمة لمكافحة هذا الغزو.
- أن تحول المقترحات إلى عمل منظم، إذ لا خير في علم لا يتبعه عمل،
ولا خير في عمل إذا لم يكن وفق نظام وخطة محددة الأهداف والمراحل.
- أن تكون الجماهير المسلمة جزءاً من الحل ومشاركة فيه، وإلا فإن أي
قرار يتخذ بعيداً عنها وفي غيبتها -خصوصاً هذا الأمر- فسيكون منبتاً ولا جدوى
له.
وبمكن إيجاز المقترحات في النقاط التالية:
**ما دام البث المباشر لا يتم إلا بواسطة تجهيزات خاصة فإن من وظيفة
الحكومة الإسلامية هي حماية الدين والأخلاق، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
. لذا يجب منع هذه الأجهزة والتشديد في إجراءات التفتيش في جميع المنافذ على
المواطنين والأجانب على حد سواء.
**الحل السابق مؤقت ومرتبط بما وصلت إليه التقنيات الحديثة، لذلك فالحل
يكمن في مساهمة الجامعات التقنية ومركز ومعاهد الأبحاث التي تنفق عليها الأمة
من ثرواتها المبالغ الهائلة، ولا يليق بهذه الجامعات ومركز البحث العلمي أن تشتغل
بأبحاث تخدم مجتمعاً غير مجتمعها، كما لا يليق بها أن تغيب عن معركة حاقدة
يقف وراءها يهود ونصارى وغيرهم. يجب على هذه الجامعات أن تنشر الوسائل
العلمية في مجال دراسة أسرار هذا الغزو وفك أسرار التقنية ومحاولة السيطرة
عليها. قد يكون هذا صعباً ولكنه ليس بالمستحيل فدول شرق آسيا الفقيرة أصبحت
منافسة للدول الصناعية الكبرى.
**يجب إقامة الندوات والمؤتمرات المتخصصة التي تجمع ذوي الاختصاص
والخبرة ليتبادلوا الآراء ونتائج الأبحاث فهذا هو الطريق المتبع في الشرق والغرب
على حد سواء، فعلى أساس ما يتخذ من إجراءات في ختام كل ندوة ومؤتمر يتم
بناء الصناعات الكبيرة والخطيرة.
**يجب إقامة الندوات والمؤتمرات التي تهدف إلى نشر الوعي الاجتماعي،
وأن تعتمد هذه الندوات والمؤتمرات الطابع الشعبي والأساليب الحديثة من ملصقات
وأشرطة فيديو وكاسيت، بالإضافة إلى الأساليب الشرعية من وعظ وتذكير، كما
أنه من واجبات وزارات الأوقاف تكليف الأئمة والخطباء بإقامة دروس التوعية
وتقديم الخطب بصورة شبه دائمة فلا شك أن هذا سيؤدي إلى استثارة الغيرة
الإسلامية على العرض والدين.
**كما تبين في الفصول السابقة، فإن البث التلفزيوني يخضع لعهود
واتفاقيات دولية وهنا يأتي دور الحكومات والرقابة الشعبية في منع هذا البث وألا
يخضع الأمر للميول والأهواء كما حصل بالنسبة للبث الفرنسي في تونس، كما
يجب ألا نركن إلى هذه العهود والمواثيق فهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة،
ويجب على العلماء والدعاة أن يذكوا روح الجهاد في الأمة كما يجب على الخطباء
أن يجعلوا من البث المباشر جزءاً من دعائهم لضمان يقظة الضمير الاجتماعي لدى
الأمة.
**لقد سبق ذكر عدد الشبكات الدينية الموجهة والتي ينفق عليها مجالس
الكنائس، وتحظى هذه الشبكات بتسهيلات على اعتبار أنها ليست تجارية، فإذا كان
أهل الباطل يستفيدون من هذه التقنية ويوجهونها إلى ما يخدم أهدافهم فمن الواجب
والضروري لمجلس المساجد العالمي والاتحادات الإسلامية أن تتعاون فيما بينها
لامتلاك شبكة لبث الدعوة الإسلامية وفضح المذاهب الضالة والديانات المنحرفة.