مجله البيان (صفحة 699)

من كنوز القرآن

صرف الهم إلى العمل الحاضر [*]

ستر الجعيد

إذا اهتم الإنسان بعمله الحاضر، وأقبل عليه بعزيمة قوية، استطاع أن ينجز

فيه شيئاً كثيراً، أو ينجزه في فترة زمنية قصيرة، حينما تقارن بآخر أقبل على

العمل بتردد، وفتور همة، وتطلعات مستقبلية تشغله عن العمل الحاضر، ودخول

في جدل حول ماذا سيفعل في المستقبل؟ دون ما حاجة إلى ذلك.

فكما أن عمل اليوم لا يؤجل إلى الغد، فكذلك عمل الغد لا يقدم على عمل

اليوم، وهذه القاعدة دعا إليها القرآن في آيات كثيرة، وهى تدل على حكمته -

سبحانه وتعالى - كما أنها من أعظم ما يكون سبباً في رقي العالمين إلى الخير

الدينى والدنيوي، فإن العامل إذا اشتغل بعمله الذي هو وظيفة وقته، قصر فكره

وظاهره وباطنه عليه فينجح ويتم له الأمر بحسب حاله، وإن تشوقت نفسه إلى

أعمال أخرى لم يحن وقتها بعد شُغل بها ثم استبعد حصولها، فتفتر عزيمته،

وتنحل همته، وصار نظره إلى الأعمال الأخرى كليلاً ينقص من إتقان عمله

الحاضر وجمع الهمة عليه، ثم إذا جاءت وظيفة العمل الآخر جاءه وقد ضعفت

همته وقل نشاطه، وربما كان الثاني متوقفاً على الأول في حصوله أو تكميله

فيفوت الأول والثاني، بخلاف من جمع قلبه وقالبه على كل عمل في وقته، فإنه

إذا جاء العمل الثاني يأتيه مستعداً له بقوة ونشاط جديدين حصلها من نشاطه وقوته

في الأول فيتلقاه بشوق وعزيمة فيفلح وينجح، وهكذا يكون أبداً متجدد القوى [1] .

والأمثلة على القاعدة كثيرة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

فمن الآيات قوله - تعالى -: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا

الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ

أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً] [النساء: 77] .

وقوله - تعالى -: [ولَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ

وأَنتُمْ تَنظُرُونَ] [آل عمران: 143] . وقوله -تعالى-: [ولَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً] [النساء: 66] . ومنه قوله - تعالى -:

[ومِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وتَوَلَّوْا وهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وعَدُوهُ وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ] [التوبة: 75-77] .

ومما يؤخذ من لفتات بعض الفقهاء أنهم كانوا يكرهون فرض الصور العقلية

للمسائل وإعطاءها حكماً، ليس عجزاً منهم ولكن إدراكاً إلى أن الإغراق في ذلك

ليس من وظيفة الوقت الحاضر الذي يعيشونه، وربما كان ذلك سبباً في فرض حكم

مغاير للواقع، لأن تقدير الواقع في العقل ليس كوقوعه.

وإذا انتقلنا إلى الواقع الإسلامى نجد الإخلال بهذه القاعدة في العمل الحاضر

كثيراً وواضحاً، فتجد من يتحدث لك عن أمور من مستقبل الدعوة وخططها لم يحن

وقتها بعد، وربما أخذ ذلك من وقته الشيء الكثير، وذاك يتحدث عن قيام الدولة

الإسلامية كيف تكون؟ وكيف التعامل معها في الواقع؟ وأحياناً تجد الحديث عن

ذلك سابقاً لأوانه، بينما الأمور المطلوبة المهمة والتى تكون طريقاً إلى الخطط

المستقبلية مُهمَلة لا يلتفت إليها.

وهذا الاعتدال في النظر إلى الأعمال الحاضرة لا يخل أبداً بالتخطيط

المستقبلي للأمور الدنيوية والدينية، ولكن بشرط أن لا يأخذ الحديث عن ذلك

التخطيط حجماً كبيراً فيعود على العمل الحاضر بآثار ضارة به، تزيله أو تضعفه،

وكما أن الآيات أرشدت إلى هذا اهتماماً بالعمل وحرصاً على تحصيل أكبر قدر منه؛ فإن ذلك يعود على العامل بالارتياح النفسي والاطمئنان أيضاً مما يكون له أثر

طيب على نفس المسلم وتقويتها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015