مجله البيان (صفحة 69)

معالم حول كتابة التاريخ الإسلامى (4)

أدب وتاريخ

معالم حول كتابة التاريخ الإسلامي

محمد العبدة

مصادر أساسية لفهم التاريخ الإسلامي:

أولاً: القرآن الكريم:

تكلمنا في المقال الأول عن السنن العامة التي وضعها الله - سبحانه وتعالى -

والتي تحكم سير التاريخ، وأنها سنن لا تتخلف إلا أن يشاء الله. وأن القرآن فيه

منهج واضح ومستقل لتفسير أحداث التاريخ، بل هو يحرض ويدعو الناس إلى

السير في الأرض وملاحظة هذه السنة، وما يفعل الله بأهل طاعته وأهل معصيته،

واكتشاف القوانين العامة التي تؤثر في سير المجتمعات والأمم، ونضيف هنا أن

القرآن من المصادر الأساسية في فهم وتعليل بعض أحداث السيرة النبوية كالغزوات

الكبار مثل أحد وبدر والخندق وحنين وتبوك، فقد شغلت غزوة أحد حيزاً كبيراً من

سورة آل عمران، وكذلك غزوة تبوك في سورة (براءة) .

كما يحدثنا القرآن وبصورة مفصلة عن نفسيات وأخلاق المشركين وأهل

الكتاب وخاصة اليهود، ولا يخفى ما لليهود والنصارى من دور في الأحداث

العالمية، ولا شك أن الذي يُخدع بهؤلاء لم يتمكن من فهم القرآن من قلبه، ولم

يستوعب دروسه، كما يحدثنا بشكل مفصل عن فئة قد توجد في كل عصر ويكون

لها دورها في المجتمعات الإسلامية وهم المنافقون، الذين يخربون من الداخل. هذه

الفئة وصفها القرآن حتى كأن صورة كل منافق ترتسم أمامنا شاخصة تلوح، وإن

دراسة هذه الأصناف من البشر لهي جديرة أن تعطي للمؤرخ نظرة دقيقة ورحبة

عما جرى ويجري من حوادث التاريخ.

ثانياً: السنة:

ورد في السنة أحاديث صحيحة تذكر أحداثاً ستقع أو تحذر المسلمين من أمور

يجب عليهم ألا يفعلوها، أو تصف عصراً بصفة معينة، كل هذا يلقي أضواءً

تعيننا على تحليل وفهم أحداث التاريخ الإسلامي.

1- روى أبو هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (هلكة

أمتى على يدي غلمة من قريش) [1] ، وكان أبو هريرة إذا روى هذا الحديث يتعوذ من سنة ستين فيقول: (اللهم لا تدركني سنة ستين) [2] والذي حكم سنة ... ...

ستين هو يزيد بن معاوية، وقد توفي أبو هريرة - رضي الله عنه - سنة تسع

وخمسين، والمراد بالأمة هنا أهل ذلك العصر ومَن قاربهم لا جميع الأمة إلى يوم

القيامة [3] .

وإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحذر أمته رأفة بهم ورحمة

فيصف بعض الأسر أو الأشخاص بما هم فيه فهذا لا يعني أن يوصف العصر كله

أو الدولة بشكل عام بصفات سلبية، ولكن نستطيع القول إن الحديث يصف واقعاً

يساعد المؤرخ على الحكم الصحيح المعتدل فلا يغالي في المدح أو الذم والمنقصة.

2 - وصفت العصور الإسلامية الأولى بالإيجابية، ولكن بشكل عام وليس

تفصيلياً كما جاء في الحديث: (لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر

خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة، كلهم من قريش، ثم يكون الهرج) [4] .

وقد قال بعض العلماء: إن هذا العدد ليس من الضروري أن يكون متتابعاً،

بل الأغلب أنه يكون مفرقاً بين أكثر من دولة. وتد ذكر منهم ابن كثير: الخلفاء

الأربعة وبعض ملوك بني أمية، وبعض بني العباس، ثم قال: والظاهر أن منهم

المهدي المبشر به في الأحاديث [5] .

وناحية أخرى وهى أن كلمة (دين) قد ترد بمعنى الملك والسلطان، أي أن

سلطان المسلمين وقوتهم وملكهم لا يزال قوياً. كما جاء في حديث آخر: (تدور

رحى الإسلام في خمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا

فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً. قلت: يا رسول الله! ، مما

مضى أو مما بقي؟ ، قال: مما بقي) [6] .

قال الخطيب البغدادي - في شرح هذا الحديث -: (تدور رحى الإسلام)

يريد أن هذه المدة إذا انتهت حدث في الإسلام أمر عظيم يخاف لذلك على أهله

الهلاك - كأنه إشارة إلى انقضاء مدة الخلافة - قوله: يقم لهم دينهم: أي ملكهم

وسلطانهم، ومنه قوله - تعالى -[مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ] ... [يوسف: 76] [7] .

3- حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين من الفتن، ودلهم على

الطريق الأسلم فقال: «يهلك أمتي هذا الحي من قريش، قالوا: فما تأمرنا؟ قال:

لو أن الناس اعتزلوهم» [8] . فإذا كان المقصود بالحي من قريش بعض ملوك

الدولتين الأموية والعباسية الذين كانوا من الضعف أو السفاهة ما ينطبق عليه أنهم

ضيعوا المسلمين في عصرهم، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- ينصح المسلمين

باعتزال الفتن؛ لأن هاتين الدولتين إسلاميتان رغم ما حصل فيهما من تقصير أو

ظلم أو تشجيع لبعض البدع.

ثالثاً: العلماء:

هناك علماء لم يصرفوا جُل عنايتهم للتاريخ، ولكن لهم آراء وتعليقات على

بعض الأحداث، أو نظرات عامة لبعض العصور والدول، وآراؤهم هذه لها قيمة

كبيرة، لأنهم أشد الناس إنصافاً وتحرياً للحق. وليس لهم غرض عند الحكام أو

المحكومين يقول الإمام أحمد بن حنبل - عن الذي يتوقف في خلافة علي (رضي

الله عنه) ويقول: لا أدري هل كان الحق معه أو مع غيره؟ ، ويظن أن هذا من

شدة تحرّيه، يقول عنه: (هو أضل من حمار أهله) ! .

ويقول ابن تيمية - موضحاً رأي أهل السنة في ملوك الدولتين الأموية

والعباسية -: (ما قال أهل السنة أن الواحد من هؤلاء كان هو الذي تجب توليته

وطاعته في كل ما أمر به، بل كذا وقع، فيقولون تولى هؤلاء وكان لهم سلطان

وقدرة؛ فانتظم لهم الأمر، وأقاموا مقاصد الإمامة من الجهاد وإقامة الحج والجُمَع

والأعياد وأمن السبل ولكن لا طاعة في معصية الله) [9] .

وعندما طعن العلماء في نسب العُبيديين الذين كانوا بمصر والذين تسموا

(بالفاطميين) . وقالوا: ليس لهم أي صلة بنسب علي بن أبي طالب، وأنهم مجوس

ملحدون، فهذا الطعن له أهمية كبيرة، ويساعدنا على فهم تصرفات هذه الدولة.

فهؤلاء العلماء من أمثال أبي حامد الإسفراييني وأبو الحسن القدوري والبيضاوي

وابن الأكفاني وغيرهم لا يمكن أن يشهدوا هذه الشهادة تقرباً وتملقاً للخليفة العباسي

ببغداد، كما يريد أن يصورهم البعض، وهؤلاء أجلّ من أن يشهدوا زوراً من أجل

الخليفة [10] .

ويبدي ابن تيمية رأيه في خلفاء بني العباس من ناحية إقامتهم للصلوات

فيقول: (وكان خلفاء بني العباس أحسن تعاهداً للصلوات في أوقاتها من بني

أمية) [11] . ويقول أيضاً ذاكراً بعض سلبيات الدولة العباسية: (وكان في أنصارها من أهل المشرق والأعاجم طوائف من الذين نعتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (الفتنة ها هنا) وظهر حينئذ كثير من البدع وعرّبت أيضاً إذ ذاك طائفة من كتب الأعاجم، وكان المهدي من خيار خلفاء بني العباس وأحسنهم إيماناً؛ فصار يتتبع المنافقين الزنادقة) [12] .

ويقول أحد علماء المغرب المعاصرين - موضحاً حرص العباسيين الأوائل

على نشر السنة: (ولما أراد بنو العباس نقل عاصمة الملك إلى بغداد لم يجدوا في

العراق ما يكفي لنشر السنة إلا بأن أتوا من المدينة بعلماء مهدوا السبيل كربيعة بن

أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد وارتحل إليهم هشام بن عروة وعبد العزيز بن

أبي سلمة الماجشون ومحمد بن إسحاق، ومن حينئذ بدأ ظهور السنة هناك) [13] .

رابعاً: علماء مؤرخون:

من أمثال الطبري وابن كثير والذهبي وابن الأثير والسخاوي؛ فهؤلاء

يجمعون بين علم الحديث والفقه من جهة والتاريخ والكتابة التاريخية من جهة أخرى. ولا شك أنهم مقدمون في توثيقهم للحدث التاريخي أو فهمهم له على المتخصصين

في التاريخ الذين لا يهتمون إلا بجمع المادة التاريخية سواء كانت صحيحة أو غير

صحيحة. فعندما يبدي ابن كثير رأيه في الحجاج بن يوسف ويقول عنه: (وقد

كان ناصبياً يبغض علياً في هوى آل مروان، وكان جباراً عنيداً، مقداماً على سفك

الدماء بأدنى شبهة) [14] .

عندما نسمع هذا لا نلتفت إلى ما يحاوله بعض المعاصرين من الدفاع عن

الحجاج دفاعاً بارداً؛ فهو ظالم لا شك في ذلك، وكلام ابن كثير هو الحق.

ويقول الذهبي عن أمير مصر - زمن الوليد بن عبد الملك -

(قرة بن شريك) : (ظالم جبار، عاتٍ فاسق، مات بمصر بعد أن وليها سبعة أعوام) [15] .

وكيف يكون عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، مجدداً إذا لم يكن هذا

الظلم قبله؟ ! ، ويقول الذهبي أيضاً عن أبي مسلم الخراساني: (كان بلاءً عظيماً

على عرب خراسان فإنه أبادهم بحد السيف) [16] .

وهؤلاء العلماء المؤرخون معتدلون منصفون يرجعون بالحق إلى نصابه إذا

طاشت الكفة هنا أو هناك، فغُلُوّ الروافض يقابله أحياناً غلو من جهلة أهل السنة،

وتأتي أقوال هؤلاء العلماء هي الحَكَم الفصل، خاصة عندما يغلب على الناس قلة

الإنصاف، يقول ابن كثير - معلقاً على حديث (خلافة النبوة ثلاثون عاماً ثم يؤتي

الله ملكه من يشاء) -: (هذا الحديث فيه رد صريح على الروافض المنكرين

لخلافة الثلاثة، وعلى النواصب الذين ينكرون خلافة علي بن أبي طالب [17] ) .

ويقول الذهبى عن معاوية - رضي الله عنه -: (حسبك بمَن يؤمّره عمر،

ثم عثمان على إقليم - وهو ثغر - فيضبطه ويقوم به أتم قيام، فيرضي الناس

بسخائه وحلمه وإن كان بعضهم تألم مرة منه، وكذلك فليكن الملك وإن كان غيره

من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيراً منه وأفضل، فهذا الرجل ساد

وساس العالم بكمال عقله وقوة دهائه وله هنات وأمور والله الموعد) [18] .

خامساً: دارسو التاريخ:

وعلى رأسهم مؤسس علم الاجتماع وعالم نقد التاريخ عبد الرحمن بن خلدون

الذي حاول في مقدمته المشهورة أن يضع الأسس التي تساعد المؤرخ على تفهم

أحوال الدول وتقلباتها وأسباب اضمحلالها، والمجتمعات وأسباب رقيها وانخفاضها، وليس هذا موضع تفصيل نظريات ابن خلدون في مقدمته ولكن نضرب مثالاً

واحداً للأسس التي وضعها لفهم حقائق التاريخ.

نبه ابن خلدون في مقدمته إلى ناحية مهمة جداً يذهل عنها أكثر الناس وهي

تبدل أحوال الناس وتطورهم من حالة إلى حالة، في كثير من العادات والتقاليد أو

طريقة التفكير وتناولهم للأمور، أي يجب أن نفهم طبيعة العصر الذي عاش فيه

فلان أو قامت فيه الدولة الفلانية، ولا نقيسه على عصرنا تماماً، فالبيئة العلمية

التي تكون في عصرٍ ما هي التي تساعد على ظهور علماء مجتهدين، والذي يظن

أنه يجب أن يكون بيننا الآن من أمثال هؤلاء العلماء دون أن يكون هناك بيئة علمية

فهو واهم، وقس على ذلك البيئة الجهادية التي بدأها عماد الدين زنكي وابنه نور

الدين والتي كان من نتائجها صلاح الدين الأيوبي.

الذي لا يتفطن لهذا يظن أن الأمور متشابهة من كل الوجوه. وقد يرى ما

عليه الصحابة والتابعون من قيامهم بالأعمال الجليلة، سواء في قيادة الجيوش أو

التعليم، فيظن أنه يمكن أن يتأتى له هذا دون تدريب وتعلم، ولا يعلم أن العرب -

لأول عهدهم بالرسالة - كانوا من صفاء الذهن والذكاء والفصاحة ما جعل هذه

الأمور سهلة عليهم. فهم يعلمون طبيعة الناس والمجتمعات دون أن يدرسوا علم

النفس وعلم الاجتماع مثلاً، وقد يرى ما عليه بعض العلماء في العصور المتأخرة

من التصنع في اللباس والهيئة فيظن أن العلماء السابقين كانوا هكذا.

يقول ابن خلدون: (من الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال

في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء، فلا

يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة. ومن هذا الباب ما يتوهمه المتصفحون

لكتب التاريخ، إذ سمعوا أحوال القضاة وما كانوا عليه من الرياسة في الحروب،

فتترامى بهم وساوس الهمم إلى مثل تلك الرتب، يحسبون أن الشأن في خطة

القضاء لهذا العهد على ما كان عليه من قبل..) [المقدمة 1/320-323] ، كما أن

الذي لا يتفطن إلى موضوع التطور البطيء يظن أن الأمور تنتقل فجأة من حال إلى

حال؛ لأنه يدرس المجتمعات كأنها (ساكنة) ، وهذا عكس طبائع العمران كما يسميه

ابن خلدون، فهناك بين الخلافة الراشدة والملك مرحلة وسط هي مزيج من هذا

وذاك.

وللمؤرخين من غير المسلمين - وخاصة الغربيين - نظريات في التحليل

التاريخي يجب أن لا تُهمل، بل نستفيد منها مع الحذر لما فيها من تعميم أو

نظريات مادية أو غير صحيحة. فالمؤرخون الغربيون لهم جهود كبيرة في علم

التاريخ، بل نستطيع القول إن اهتمامهم بهذا الفن قد بلغ مبلغاً عظيماً، وذلك لما

رأوه من أثر دراسة التاريخ في معرفة الحاضر والتخطيط للمستقبل.

كما أن الدراسات النفسية والاجتماعية التي تقدمت وتطورت كثيراً في هذا

العصر - هي من المصادر التي يُعتمد عليها مع التنبه إلى عدم المغالاة فيها وفي

حشرها في كل شيء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015