تمثل العقائد في الطفولة
خولة درويش
لاشك أن تأسيس العقيدة السليمة منذ الصغر أمر بالغ الأهمية في منهج التربية
الإسلامية، وأمر بالغ السهولة كذلك [1] .
ولذلك اهتم الإسلام بتربية الأطفال على عقيدة التوحيد منذ نعومة أظفارهم،
ومن هنا جاء استحباب التأذين في أذن المولود، وسر التأذين -والله أعلم- أن يكون
أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي
أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند مجيئه إلى
الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها [2] .
ومن ثم يتولى المربي رعاية هذه النبتة الغضة، لئلا يفسد فطرتها خبيث
المؤثرات، ولا يهمل تعليمه العقيدة الصحيحة بالحكمة والموعظة الحسنة، لأن
العقيدة غذاء ضروري للروح كضرورة الطعام للأجسام، والقلب وعاء تنساب إليه
العقائد من غير شعور صاحبه، فإذا ترك الطفل وشأنه كان عرضة لاعتناق العقائد
الباطلة والأوهام الضارة، وهذا يقتضينا أن نختار له من العقائد الصحيحة ما يلائم
عقله ويسهل عليه إدراكه وتقبله، وكلما نما عقله وقوي إدراكه غذيناه بما يلائمه
بالأدلة السهلة المناسبة وبذلك يشب على العقائد الصحيحة، ويكون له منها عند
بلوغه ذخر يحول بينه وبين جموح الفكر والتردي في مهاوي الضلال [3] .
أما إن أخطأ المربون في تعرف اهتمامات الطفل الدينية فقدموا له تفسيرات
دينية غير ملائمة، فحينئذ (إما أن ينبذها كما ينبذ أية فكرة لا تتسق مع ... تكوينه النفسي المتكامل وإما أن يتقبلها على مضض مجاملة للأهل، وضماناً لاستمرار عطفهم، ولكنه تقبل مؤقت يخفي معارضة مكبوتة [4] .
فالإجابة السليمة الواعية على تساؤلات الأطفال الدينية، بما يتناسب مع سنهم
ومستوى إدراكهم وفهمهم أمر ضروري، مع الاعتدال في التربية الدينية لهم، وعدم
تحميلهم مالا طاقة لهم به ... وكذا عدم اهمالهم بحجة أنهم صغار لا يفهمون، كما
يظن البعض، فهذا رسولنا الكريم قد تعهد أصحابه، حتى الأطفال منهم فغرس في
نفوسهم أسس العقيدة، قال معلماً لابن عباس -رضي الله عنه-: «يا غلام إني
أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا
استعنت فاستعن بالله» [5] .
بمثل هذه التوجيهات الحكيمة نستطيع أن نحصن عقائد أبنائنا، وفي كل
تصرف من تصرفات المربي وكل كلمة من كلماته يراقب ربه، ويحاسب نفسه لئلا
تفوته الحكمة والموعظة الحسنة، وحتى لاتوقع أخطاء التربية أبناءنا في متاهات
المبادئ، يتخبطون بين اللهو والتفاهة، إلى الشطط والغلو، كل ذلك عند البعد عند
التربية الحكيمة المتوازنة التي تسير على هدي تعاليم الإسلام الحنيف.
جوانب البناء العقدي عند الطفل المسلم:
أ- الإيمان بالله -جل وعلا-:
إن أهم واجبات المربي، حماية الفطرة من الانحراف، وصيانة العقيدة من
الشرك، لذا نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تعليق التمائم تعويداً
للصغير الاعتماد على الله وحده: (من علق تميمة فلا أتم الله له) [6] .
وإذا عرفنا أن وضع التميمة والاعتقاد فيها شرك، جنبنا أطفالنا هذا الشرك،
وبعد ذلك يوجه المربي جهده نحو غرس عقيدة الإيمان بالله في نفس الصغير فهذه أم
سليم الرميصاء أم أنس بن مالك خادم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله
عنهم أجمعين أسلمت وكان أنس صغيراً، لم يفطم بعد، فجعلت تلقن أنساً قل: لا
إله إلا الله، قل أشهد أن لا إله إلا الله، ففعل، فيقول لها أبوه: لا تفسدي على
ابني فتقول: إني لا أفسده [7] .
كان أبوه ما يزال مشركاً، يعتبر أن التلفظ بعقيدة التوحيد، والنطق
بالشهادتين إفساداً لطفله، تماماً كما يرى كثير من الملاحدة، أصحاب المذاهب
الهدامة، والطواغيت في الأرض، في هذا العصر يرون أن غرس الإيمان وعقيدة
التوحيد، إفساد للناشئة، وإبعاد لهم عن التقدمية كما يزعمون.
يتعرف الطفل أنه مسلم، وأن دينه الإسلام وهو الدين الذي ارتضاه الله له ولا
يقبل من عباده سواه، والتركيز في التربية على ما وصفها ابن تيمية -رحمه الله-
(محبة العامة وهي محبة الله تعالى لأجل إحسانه لعباده، وهذه المحبة على هذا
الأصل لا ينكرها أحد فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها) [8] .
فالله تعالى أعطانا العينين والطعام اللذيذ، وكل ما يحبه هذا الصغير فلا يملك
صغيرنا إلا أن ينشأ على محبة خالقه -جل وعلا-.
ويبتعد المربي عن تلقين الأطفال اسم الله من خلال الأحداث الأليمة، لأن
للخبرات الأليمة أثرها في تشكيك المؤمن في عقائده وانحيازه إلى النزعة
اللادينية) [9] .
ومن الأحداث الأليمة عند الطفل مثلاً أن نقرن له ولادة الطفل بشق بطن أمه
مثلاً.. (فيتصور أن فعل الميلاد أمر بشع، وحيث أن مولد طفل جديد يثير قلقه..
فمن المحتمل أن تكون أولى خبرات الطفل بالله خبرات أليمة) [9] .
لذا، ينبغي أن نذكر اسم الله أمام الطفل من خلال مواقف محببة سارة،
فالطفل مثلاً قد يستوعب حركة السبابة عند ذكر كلمة الشهادتين، يتلفظ بها الكبير
أمامه، الأم أم الأب أو أحد الاخوة الكبار، وذلك منذ الشهر الرابع من عمره، فإذا
به يرفع اصبعه مقلداً الكبار.
كم هي حركة لطيفة ومحببة عند الأهل الذين لا يملكون إزاءها إلا ضم
صغيرهم وتشجيعه وهو يشير بأصبعه عند ذكر اسم الله ... فيرسخ اسم الله في
نفسه بمحبة عارمة من والديه ويغرس حب الله في قلبه..
وإذا نما صغيرنا وترعرع نلفت نظره إلى مظاهر قدرة الله ونعمه التي لا
تحصى: إذا نظر في المرآة نقول له معلمين قل: (اللهم كما حسنت خَلْقي فحسن
خُلُقي) [10] .
وإن لبس الجديد حمد الله على نعمه وكذا إن أكل أو شرب قال: (الحمد لله
الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين) [11] .
وهكذا، فيعرف نعمة الله ويعتاد شكره، مع لفت النظر إلى مظاهر قدرة الله
ونعمه التي لا تحصى.. كل ذلك بأسلوب رفيق ولهجة رقيقة من غير إسراف في
عرض الفكرة ولا غلو فيها، وإنما بطريقة محببة تناسب الطفولة فتتمشى معها.
(ولا يجوز للمربي أن يتكئ على خط الخوف حتى يرعب الطفل بغير موجب بكثرة الحديث عن غضب الله وعذابه. والنار وبشاعتها.. إنما ينبغي أن نبدأ بالترغيب لا بالترهيب حتى يتعلق قلب الطفل بالله من خيط الرجاء أولاً فهو أحوج في صغره إلى
الحب) [12] .
علينا أن نذكر اسم الله -تبارك وتعالى- ونحن نستشعر عناية الله بالإنسان
وتكريمه له (حيث سخر له ما في سماواته وأرضه، وما بينهما حتى ملائكته..
جعلهم حفظة له في منامه ويقظته وأنزل إليه وعليه كتبه.. فللإنسان شأن ليس
لسائر المخلوقات) [13] .
هذا فضلاً عن فائدة أخرى:
(إن الاعتقاد بكرامة الإنسان على الله، يرفع من اعتباره في نظر نفسه، ويثير في ضميره الحياء من التدني عن المرتبة التي رفعه الله إليها.. ونظافة المشاعر تجيء نتيجة مباشرة للشعور بكرامة الإنسان على الله ثم برقابة الله على الضمائر واطلاعه على السرائر) [14] .
وهكذا ننمي عند الأطفال الشعور الدينى القائم على حب الله حيث نركز على
معاني الحب والرجاء ومظاهر رحمة الله تعالى الواسعة بالناس. كما نروض الطفل
على محبة الله واحترام أمر الله، وارتباطه بأحكام دين الله، فإذا به شاب نشأ في
رضوان الله لا يعرف غير الإسلام شرعة ومنهاجاً. نشعره أن الله يحبنا فلا يكلف
نفساً إلا وسعها، وإذا أمرنا بشىء فالواجب أن نأتي منه ما نستطيع أما الحرام فلا
نقربه مطلقاً.. فإن الله تعالى يحب المطيعين له ولا يحب الكافرين: [قُلْ أَطِيعُوا
اللَّهَ والرَّسُولَ فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ] [آل عمران: 32] .
ويردد المبدأ على مسمع الأطفال.. ويغرس في قلوبهم فتنمو في نفوسهم
مشاعر الأخوة الإيمانية والرابطة الإسلامية، والمفاصلة مع أعداء دين الله الكافرين
به وهذا مطلب تربوي هام وديني قبل كل شيء.
[قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ
مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ] [الممتحنة: 60] .
ولن تخيب نفس ألهمت رشدها، فسارت على هدي رسولنا الكريم، في تربية
النشء، ليعينها رصيد الفطرة المركوز بها، تستشفه من خلال إشارات طفلها إلى
علو الله، ومن كلماته في الرضى والغضب والتي يبين فيها أن الله تعالى منصف
للمظلومين، وليس أفضل من كتاب الله يذكرنا بوصية لقمان لابنه: (وإنها لعظة
غير متهمة فما يريد الوالد لولده إلا الخير وما يكون الوالد لولده إلا ناصحاً) [يَا
بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * ووَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وهْناً
عَلَى وهْنٍ وفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوَالِدَيْكَ إلَيَّ المَصِيرُ * وإن جَاهَدَاكَ
عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً واتَّبِعْ
سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إنَّهَا إن تَكُ
مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ
إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنكَرِ واصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] [لقمان: 13-19] .