مجله البيان (صفحة 666)

فكر

التفكير الذري

محمد محمد بدري

لكل نشاط عملي علاقة مباشرة بالطريقة التي يفكر بها صاحبه، فإذا أصيب

التفكير بمرض من الأمراض أو انعدم التفكير تماماً فإن ذلك النشاط يصبح مختلاً أو

مستحيلاً! !

ولقد أصيب كثير من المسلمين بمرض خطير يجعلهم في حيرة أمام كثير من

أمور الواقع لا يقدرون على فهمها، فما هو هذا المرض؟ ! إنه مرض «الذرية»

أو (الجزئية) في التفكير وهو مرض يمنع صاحبه من أن يربط بين الأحداث

والوقائع، بحيث يجعلها داخلة تحت قاعدة واحدة أو يستخلص منها حقيقة كلية عامة، فالمصابون بهذا المرض ينظرون إلى الوقائع والأحداث حولهم وكأنها ذرات

متناثرة لا يربطها أي رباط عضوي أو يجمعها سياق واحد، وبالتالي لا يستطيع

هؤلاء أن يستنتجوا قانوناً عاماً يمكن تطبيقه على كل حالة خاصة، فتكون قراراتهم

في مواجهة الأحداث قرارات عاطفية لا ترتكز على مبادئ محددة أو أصول واضحة.

أصاب هؤلاء مرض «الذرية» لبعدهم عن عرائس الحكمة ولباب الأصول

التي دونها علماء الأمة في كتبهم، والتي توصلوا إليها باتخاذهم القرآن أنيساً

وجليساً على مر الأيام والأعوام نظراً وعملاً، وباستعانتهم على ذلك بالاطلاع

والاحاطة بكتب السنة ومعانيها، وبالنظر في آراء السلف المتقدمين والالتزام بما

كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.

تلك الأصول التي تربى من يقرؤها على طريقة التفكير العضوية -أو الكلية -

التي تجمع بين الوقائع في تسلسل وسياق واحد يمكنها من استنباط بالقانون العام - أو

المقياس - الذي تقيس به الحواث الجزئية.

فالإمام الشاطبي -رحمه الله- يقول:

«الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى

واحد، حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله

أفاد التواتر القطع - وهذا نوع منه -، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع

يفيد العلم فهو الدليل المطلوب - وهو شبيه بالتواتر المعنوي - بل هو كالعلم

بشجاعة عليّ -رضي الله عنه-، وجود حاتم الطائي المستفاد من كثرة الوقائع

المنقولة عنهما» [1] .

فهو - رحمه الله- يعرض كيفية اقتناص القطع من جملة أدلة ظنية، فلم يفتقر

في الحكم بشجاعة عليّ -رضي الله عنه- إلى دليل خاص يقول بأن عليّ شجاع..

ولكن باستقراء حوادث كثيرة تتحدث عن مواقف شجاعة لعلي -رضي الله عنه-.

«فالعموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغة عموم فقط، بل له

طريقة أخرى، وهي استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي

عام، فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ» [2] .

فالشاطبي -رحمه الله- يصف هنا طريق الوصول إلى الأمر الكلي العام..

إلى القاعدة.. إلى المقياس.. عن طريق تصفح جزئيات المعنى.

ومن وصل إلى القاعدة الكلية استطاع أن ينّزل على مقتضاها كل الجزئيات

التي قد تخالف بظاهرها هذه القاعدة..

يقول الشاطبي -رحمه الله-: «وهذا الوضع كثير الفائدة عظيم النفع بالنسبة

إلى المتمسك بالكليات إذا عارضها الجزئيات وقضايا الأعيان، فإنه إذا تمسك بالكلي

كان له الخيرة في الجزئي، في حمله على وجوه كثيرة» [3] .

وإذن فلا يكفي النظر في الأدلة الجزئية دون النظر إلى كليات الشريعة، وإلا

تضاربت الجزئيات وعارض بعضها بعضاً في ظاهر الأمر.

ولقد عالج ابن تيمية -رحمه الله- مرض الذرية في التفكير بما سطره في

كتابه القيم: (اقتضاء الصراط المستقيم) ، فروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن

جده أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم: ألم

يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا [4] ؟ فسمع رسول الله -

صلى الله عليه وسلم - فخرج فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان، فقال: «أبهذا

أمرتم؟ أو بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما ضلت الأمم من

قبلكم بمثل هذا، إنكم لستم مما هاهنا في شيء، انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا،

والذي نهيتكم عنه فانتهوا» .. يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «وأكثر ما يكون

ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه» اهـ.

فالجمع بين أطراف الأدلة وعدم النظر إليها نظرة جزئية ذرية هو طريقة أهل

السنة والجماعة، وكم من ساعات تمر بسبب نقاش بين طرفين من الناس لو كان

عندهم وضوح في فهم المسألة المتنازع فيها وجمعوا أطرافها وجزئياتها فربما لم

يكن للنقاش مبرر.

وما نقلناه عن عالمين من علماء الأمة، وإن كان يعالج مرض الذرية، في

جانبه النظري إلا أن العلم - كما يقول الشاطبي - إنما يراد لتقع الأعمال في الواقع

على وفقه من غير تخلف، سواء كانت الأعمال قلبية أو لسانية أو من أعمال

الجوارح [5] .

فكل علم لا يفيد عملاً فليس في الشرع ما يدل على استحسانه [6] .

وختاماً نرى أن مبادئ الإسلام هي الحصن الذي ستفشل تحت أسواره جميع

المحاولات التي تستهدف سلب المسلم شخصيته وهويته، فعلينا العودة إلى الأصول

والمنابع التي منها نبع ديننا.

ولنجعل لكتب الأصول مكاناً في قراءات كل منا، فنحن نجد فيها «الإبرة

المغناطيسية» التي تساعدنا للوصول إلى فهم قضايانا المعاصرة، وتخلصنا من

الخضوع في حركتنا لأخصائيين يشرفون عليها، كما لو كانوا يمارسون لوناً من

«لعبة الأمم المكيافيلية» ، وتخلصنا قبل ذلك كله من الكساح العقلي ومن الذرية في

التفكير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015