-1-
هشام إسماعيل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه محمد، وعلى آله وصحبة
أجمعين، أما بعد:
حديث الافتراق من الأحاديث المشهورة، أخرجه كثير من أصحاب الحديث
في كتبهم، وهو كما قال عنه الحاكم: «هذا حديث كثر في الأصول» [1] .
ومن أجمع ألفاظه، ما رواه عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، واحدة في
الجنة وسبعين في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى
وسبعين في النار، واحدة في الجنة، والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث
وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار. قيل: يا رسول الله
من هم؟ قال: الجماعة» [2] .
وأولى من يؤخذ منه تفسير كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم
صحابته الكرام -رضي الله عنهم أجمعين-.
وتفسير الجماعة المرادة في هذا الحديث فسره العالم الرباني والصحابي الجليل
عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-.
فعن عمرو بن ميمون قال: قدم علينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فوقع حبه في قلبي، فلزمته حتى واريته في التراب بالشام.
ثم لزمت أفقه الناس بعده عبد الله بن مسعود، فذكر يوماً عنده تأخير الصلاة عن
وقتها فقال: صلوها في بيوتكم، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة. قال عمرو بن
ميمون: فقيل لعبد الله بن مسعود: وكيف لنا بالجماعة؟ فقال لي: يا عمرو بن
ميمون إن جمهور الجماعة هي التي تفارق الجماعة، إنما الجماعة ما وافق طاعة
الله وإن كنت وحدك [3] .
وعن الحسن البصري قال: السنة، والذي لا إله إلا هو، بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل
الناس فيما بقي؛ الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع
في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا.
وعلى ضوء ما سبق ذكره، فإن تعريف أهل السنة والجماعة يمكن أن يقال
بأنهم: من وافق سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً وعملاً على منهاج
الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين-.
ومن خلال النظر في منهج أهل السنة، وفي حال أهل البدع نجد أن لأهل
السنة خصائص ومميزات تميزهم عن غيرهم، وهذه الخصائص والمميزات نتيجة
للمنهج العقدي الذي يتميزون به عن غيرهم.
ولذلك فإننا نذكر هنا أهم مميزات وخصائص عقيدة أهل السنة والجماعة:
1 - فالميزة الأولى هي: أنها ربانية المصدر:
وهذه أعظم ميزة لعقيدة أهل السنة، فهي تعتمد على الكتاب الذي أنزله الله
تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره أن ينذر الناس به، كما في
قوله تعالى: [قُلْ إنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ] [الأنبياء: 5] ، وقال عن السنة أنها هي
المبينة للكتاب، فقال سبحانه وتعالى: [وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] [النحل: 4] ، ولذلك كل من ترك النظر والاستدلال بالكتاب
والسنة فهو ضال، ولا يغني في النجاة أن يتمسك المتمسك بأحدهما دون الآخر، فقد
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم
بهما: كتاب الله وسنة رسوله» [4] ، فعدم الضلال مُنَاط بالتمسك بالكتاب والسنة
معاً، فمن تمسك بأحدهما وترك الآخر ضل. فالخوارج تمسكوا بظواهر القرآن فقط
فكانوا من أعظم أهل البدع بدعة.
وعن هذه الميزة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ولكن ينبغي
أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو
لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول، وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته،
فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا، كما قال تعالى: [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى *
ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى] [طه:
23، 124] ، قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل
في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية [5] .
ولهذا أخبر الله في غير موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك اتباع ما
أنزله، وإن كان له نظر وجدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك، وجعل ذلك
من نعوت الكفار والمنافقين، قال تعالى: [وجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأَبْصَاراً وأَفْئِدَةً فَمَا
أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولا أَبْصَارُهُمْ ولا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ] [الأحقاف: 26] .
ولو نظرنا في تاريخ الفرق لعلمنا أن جميع العقائد المحدثة كانت بعد عهد
النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وعمر وعثمان، ثم كان مقتل عثمان -
رضي الله عنه - وبدأ بذلك ظهور البدع، حيث ظهرت الخوارج في عهد عليّ -
رضي الله عنه-، ثم تشعبوا وانقسموا إلى فرق عديدة.
وكذلك لو نظرنا إلى المعتزلة - مثلاً - لوجدنا أن الاعتزال ظهر على رأس
المائة الأولى، وذلك عندما تكلم واصل بن عطاء في مجلس الحسن البصري عن
مرتكب الكبيرة، ثم جاء عمرو بن عبيد، ثم النظّام والجبائي والعلاف وغيرهم،
حتى تأسس للمعتزلة عقيدة لم تكن من قبل. وقل مثل ذلك في كل الآراء التي حدثت
بعد قرن الصحابة وأخطاء أصحابها في فهم عقيدة السلف بسبب النقص في العلم أو
بسبب الهوى واتباع المتشابه.
الميزة الثانية أنها: عقيدة إجماعية:
فهذه العقيدة عقيدة مجمع عليها بين الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم -
والله عز وجل يقول: [ومَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى ويَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيراً] [النساء: 115] ،
وعلى هذا فكل من خالف هذه العقيدة فقد خرج عن إجماع الصحابة.
والناظر في عقيدة أئمة علماء المسلمين المتفق على فضلهم وإمامتهم بين
جمهور المسلمين يجد أنهم على هذه العقيدة الصافية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن من العلماء الذين هم على عقيدة أهل
السنة والجماعة: جيل الصحابة - بلا استثناء -، ثم من بعدهم أئمة التابعين كسعيد
ابن المسيب، والحسن البصري، وابن سيرين، وعروة بن الزبير، وغيرهم، ثم
جاء من بعدهم سفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك، وأبو إسحاق الفزاري، وابن
عيينة والإمام مالك، ثم الإمام أحمد بن حنبل، والشافعي، والإمام البخاري،
والإمام مسلم، وأصحاب السنن الأربعة، وغيرهم من العلماء كثير.
وبذلك نعلم أن هذه الأمة مهما تفرقت واختلفت فإنها لا يمكن أن تجتمع أبداً إلا
على هذه العقيدة، وكل من حاول أن يجمع صفوف المسلمين على غير عقيدة أصلاً!! أو على عقيدة غير عقيدة أهل السنة، فإنه ولاشك يروم المستحيل، وكما قال
الإمام مالك في كلمته المشهورة عنه:» لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به
أولها «.
الميزة الثالثة أنها: العقيدة المنجية:
فعقيدة أهل السنة هي عقيدة الفرقة الناجية: لأنها هي التي سارت على منهج
الصحابة -رضوان الله عليهم - وما زاغت ولا بدلت، وهي التي وصفها الرسول -
صلى الله عليه وسلم - بالنجاة، وذكر أن غيرها متوعدة بالنار، فجميع الفرق
داخلة تحت الوعيد، يقول الشاطبي -رحمه الله تعالى-: (وأما على رواية من قال
في حديثه» كلها في النار إلا واحدة «، فإنما يقتضي إنفاذ الوعيد ظاهراً، ويبقى
الخلود وعدمه مسكوتاً عنه ... إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين، كما يتعلق
بالكفار على الجملة، وإن تباينا في التخليد وعدمه) [6] .
وهذه العقيدة هي المنجية للإنسان من عذاب الله في الآخرة لمن تمسك بها
وعمل بمقتضاها، وكذلك هي المنجية للإنسان في الدنيا: منجية له من البدع
والضلال، والحيرة والشك والخرافات. والذي ينظر في سير أهل البدع يجد أنهم
يعيشون في اضطراب وشك وحيرة وظلمات بعضها فوق بعض.
وأما أهل السنة والجماعة فهم على يقين من دينهم يعرفون ربهم ويعبدونه على
بصيرة وحب وطمأنينة، والناظر في حياتهم يجد عجباً من علو الإيمان، ولذة
المناجاة وما ذلك إلا لمعرفتهم الله سبحانه وتعالى وماله من صفات عليا وحكمة بالغة
ورحمة واسعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
» إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة « [7] ، ويقول -
عندما سجن -:» ما يصنع أعدائي بي؛ أنا جنتي في صدري، إن رحت فهي
معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة « [8] ، ويقول عنه ابن القيم:» وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان
فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من
الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه،
فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً
وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل،
فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها «.
*يتبع*