إنه لأمر يبعث على السرور أن نرى شعباً واحداً فرقته الظروف غير
الطبيعية يعود ويلتقى طرفاه وتتحد أرضه وتزال الحدود الوهمية التي رسمها
الأعداء من بين أجزائه. هذا ما شعر به كل عربي مخلص وكل مسلم غيور،
عندما التقى شطرا اليمن وأصبحا دولة واحدة نتمنى أن تكون نموذجاً لكل قطرين
متجاورين من أقطارنا التي فرضت عليها التجزئة فرضاً.
نقول هذا على ما في القلب من غصص بسبب الأوضاع الشاذة التي عاشها
أحد شطري اليمن في ظل الشيوعية المخربة التي لم تخلف وراءها من الذكر إلا
أسوأه، ومن الآثار إلا الإحن والعداوات، ومن الفكر إلا فكراً طفولياً فجاً، أراد أن
يجد له أرضاً يُسْتَنُبَتُ فيها فلم يستطع، فلجأ إلى الحديد والنار وإلى الإرهاب ليقتلع
عقيدة الأمة من الصدور، ويفسد العقول والضمائر، وعاش ما عاش فكراً طفيلياً
وافداً مدعوماً بالقوى الحمراء التي هى الوجه الآخر للاستعمار، وما إن ظهرت
علائم السقوط على الأصل حتى سقط الفرع تلقائياً، وما أن انهارت الشيوعية في
عقر دارها حتى انهار على أثرها بنوها في كل مكان، وكأننا أمام تطبيق عملي
مستوحى من حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ،
وكل ذي عقل يعرف أن هؤلاء الشيوعيين ليسوا طلاب وحدة ولا يؤمنون بوحدة
العرب أساساً، كيف؟ وهم في عنفوان قوتهم حرب على كل مظاهر الوحدة
والتضامن، لا نقول: على أساس الإسلام، بل حتى على أساس قومي أو علماني،
ولكننا للإنصاف نعترف لهم بالدهاء والقدرة على المناورة وتغيير الخطط، وسرعة
التكيف مع الظروف. فحينما أحسوا نبأة قدروا على أثرها أنه واقع بهم ما وقع لـ: (جيفكوف) و (هونيكز) و (ستازي) ، أو محيط بهم ما أحاط ب: شاوشيسكو
وامرأته، داروا دورة؛ قالوا: الوحدة الوحدة، فكان أن وجدوا من يجيبهم: لبيكم،
لبيكم!
وهم في هذه الدورة التي داروها - إن لم ينفعهم الاستظهار بإخوان لهم -
على الأقل يسلمون برؤوسهم عندما يضيعون في خضم الشعب (ملجأ وذاب) ،
وهو مطلب غير قليلٍ.
ولتأكيد هذه النتيجة التي وصلنا إليها، فإنهم لجأوا إلى حرق الملفات بعد إلغاء
أجهزة الأمن، فقد (أكد وزير الداخلية في الجمهورية اليمنية أن إغلاق وحرق ملفات السياسيين يأتي امتداداً لإلغاء جهازي الأمن الوطني ووزارة أمن الدولة السابقتين، وبعثاً لصفحة جديدة اقتضتها الظروف الوحدوية التي تمثلت في إعلان الجمهورية اليمنية) . وقال: ( ... إنه بقيام الدولة اليمنية لا نريد إثارة أيَّاً من قضايا الماضي، ويجب أن تغلق؛ لأننا أبناء اليوم (!) والقيادة السياسية للجمهورية اليمنية واضحة في هذا الجانب، فليس هناك تحفظ على أي شخص، والوطن يتسع للجميع، وهم مدعوون لبنائه)
[جريدة القبس الدولي 15/6/1990]
هكذا يُهال التراب على حقبة سوداء عاشها شعب عربي أصيل ابتلي بهذه
الشيوعية الخبيثة، وهكذا تنعدم وتضمحل شهادات وشهادات على ما اقترفت أيدي
ذلك النظام البائد في جنوب اليمن، فكم احتوت تلك الملفات المحروقة من دلائل
وبينات على ولوغ من أعدُّوها في دماء الأبرياء وأعراضهم، وكم كان فيها من
شهادات على المظالم التي ارتكبت ضد الآلاف من الأبرياء.
كان بودنا لو لم تعدم هذه الملفات وبقيت وثائق للتاريخ، إن المظلومين قد
يموتون قبل أن ينتصفوا من ظالميهم، وقد ينسون ويصفحون عند المقدرة، وقد
تحول بينهم وبين حقوقهم التي أهدرت وكراماتهم التي ديست حوائل، فيصبرون
ويصمتون راضين بقوله تعالى: [ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنَّمَا
يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ
وأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ] [إبراهيم: 42، 43] .
إن إحراق هذه الملفات تضييع للحقوق، وتغييب لآثار جرائم مجرمين لا
تسقط جرائمهم بالتقادم. وقد يبدو الأمر بسيطاً، ومسوغاته المذكورة كافية، ولكنه
ليس كذلك، فأقل ما يقال هنا: أن هذا الأمر لا ينبغي أن يبت فيه دون عرضه
على مجلس شورى مثلاً، أو على استفتاء شعبي.
وهناك حلول أخرى ممكنة غير الحرق والإعدام! ولكن المجرم يعرف نفسه،
وهو أدرى الناس بما اقترفت يداه، وهذا هو دأب الشيوعيين وأخدانهم من
العلمانيين واللادينيين، استهانة بالإنسان وبأقدس ما قدمه الإنسان، وعدوان على
التاريخ بتشويهه وتسخيره لمصلحتهم؛ أو ببتره وغسل صفحاته حتى لا يظل ناطقاً
بلعنهم وشاهداً على كفرهم وطغيانهم.