مجله البيان (صفحة 637)

خواطر في الدعوة

المَلَل من كَواذب الأخلاق

محمد العبدة

جاء في (صحيح ابن حبان) عن عائشة -رضي الله عنها- تصف خلقاً من

أخلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- قالت: (كان عمله ديمة) [1] ، وفي حديث

آخر قالت: (كان أحب الأعمال إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يدوم

عليه صاحبه) [2] .

أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعويدنا على المثابرة والدأب على

العمل الذي نبدأ به، وأن يكون نفسنا طويلاً فلا ننقطع لأي عارض، ولاشك أن

هذا الخلق وهذه العادة من أكبر أسباب نجاح الأمم والأفراد، لقد افتقدنا هذا الخلق

في الأزمنة المتأخرة فما أن نبدأ بعمل أو مشروع ما حتى ننقطع، وما أن نسير

خطوات حتى نمل ونتعب، وكم من مشاريع علمية أو اقتصادية بُدئ بها ثم انقطعت، سواء كانت مشاريع فردية أم جماعية، وبعد الانقطاع تتغير الوجهة ونبدأ من

جديد. والسبب في هذا: هو أن الطبع ملول، ولم نتعلم بعد (فن التعاون) فيما بيننا

ونريد قطف الثمرة بسرعة، ولو تصفحنا التاريخ لوجدنا أن كبار علمائنا لم يصلوا

إلى ما وصلوا إليه إلا بالمثابرة والمصابرة، وكم عانى علماء الحديث من الترحال

ومشقة الأسفار، وغيرهم من العلماء ما تسنموا هذه المنازل إلا بعد أن جثوا على

الركب سنين، وكان أحدهم يسهر أكثر الليل يفكر بالمسألة ويقلب فيها وجهات

النظر.

وإذا جاز لنا التعلم من الأعداء، فإن هذا الخُلق موجود عند الغربيين، يستقر

المبشر بالنصرانية في قرية منقطعة في غابات آسيا أو أدغال أفريقيا سنوات وهو

يدعو إلى باطله، وتكون النتائج غالباً ضئيلة فلا يخرج إلا بالآحاد الذين تنصَّروا،

ومع ذلك لا يسأم ولا يمل، وقد يتعجب المرء إذا علم أن بعض الصحف والمجلات

الغربية لا تزال تصدر من مائة سنة أو أكثر، وبالاسم نفسه دون انقطاع، وبعض

مؤسساتهم عمرها مئات السنين لم تتغير، حتى في شكلها، فمقر رئاسة الوزراء في

بريطانيا (10 داوننغ ستريت) عمره (250) سنة ولم يفكروا بالانتقال إلى مكان

أوسع وأرحب، وأما مشاريعهم العلمية الطويلة الأمد فيعرفها كل طالب علم كالمعجم

المفهرس لألفاظ الحديث، وكتابة المستشرق (دوزي) لتاريخ المسلمين في الأندلس

استغرقت عشرين سنة، ومشروع تاريخ التراث العربي ...

إن هذا الاستمرار الطويل يعطي رسوخاً وتجربة، ويخرج أجيالاً تربت من

خلال هذه الاستمرارية، والانقطاع لا ينتج عنه إلا الخيبة والندامة، وقد نهانا الله

سبحانه وتعالى أن نكون [كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً] [النحل: 92] ، وهذا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عندما كان أميراً على مصر وقد ركب

بغلةً قد شمط وجهها، واجتاز بها منازل أمراء الصحابة وكبار القواد في الفسطاط،

فقال له أحدهم: أتركب هذه البغلة وأنت من أقدر الناس على امتطاء أكرم ناخرة

(فرس) بمصر؟ فقال: لاملل عندي لدابتي ما حملت رحلي، ولا لامرأتي ما

أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري، فإن الملل من كواذب الأخلاق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015