تعريف الملأ
في الفكر الإسلامي
عثمان جمعة ضميرية
كانت الحلقة السابقة من هذا البحث تمهيداً عاماً ومدخلاً لدراسة موقف الملأ
والزعماء من دعوات الرسل والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، حيث تعرفنا على
طبيعة دعوتهم التي بعثهم الله تعالى بها إلى الناس، وأثر هذه الدعوة في النفوس،
ثم أصناف الناس أمام هذه الدعوة ومواقفها.
وفي هذه الحلقة وما يتلوها، إن شاء الله تعالى، نعرض لتعريف الملأ
وصفاتهم ونتتبع أساليبهم ووسائلهم في التصدي للدعوة، ومن ثم نعرض لموقف
القرآن الكريم من هؤلاء الملأ، والرد عليهم في كل ما استعملوه من وسائل وتسويغ
لمواقفهم العدائية، ونوازن بين مواقف الملأ في تاريخ الدعوات قديماً، ومواقف
الملأ من الدعوة الإسلامية المعاصرة، مما يظهر أن هذا الموقف سنة طبيعية في
الدعوات، وبالله التوفيق.
تعريف الملأ:
نعرض فيما يلي طائفة من أقوال أهل اللغة وعلماء التفسير عن معنى الملأ،
نتبين من خلالها الصفات البارزة لهؤلاء الملأ ومعالم شخصيتهم، ونرتب هذه
التعريفات بحسب الترتيب التاريخي لحياة من نعرض أقوالهم، مما يساعد على
معرفة تأثر كلٌ منهم بمن سبقه، وتطور استعمال هذا المصطلح.
1- أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 201هـ) :
في تفسير قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ] [البقرة:246] .
قال: الملأ من بني إسرائيل، وجوههم وأشرافهم، ذكر أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - لما رجع من بدر سمع رجلٌ من الأنصار يقول: (إنما قتلنا عجائز
صلعاً) ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أولئك الملأ من قريش، لو احتضرت فعالهم - أي حضرت - احتقرت فعالك مع فعالهم) [1] .
2- الأزهري (ت 370هـ) :
قال الإمام أبو منصور محمد ابن أحمد الأزهري في كتابه " تهذيب
اللغة " [2] :
الملأ: أشراف الناس ووجوههم؛ قال الله - عز وجل -: [أَلَمْ تَرَ إلَى
المَلأِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ] [البقرة: 246] ، وقال: [قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ]
[الأعراف: 60] .
ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع رجلاً من الأنصار -
مرجعه من غزوة بدر- يقول: ما قتلنا إلا عجائز صلعاً، فقال النبي - صلى الله
عليه وسلم-: (أولئك الملأ من قريش، لو حضرت فعالهم لاحتقرت فعلك) .
والملأ أيضاً: الخُلُق: يقال: أحسنْ مَلأك أيها الرجل، وأحسنوا أملاءكم،
وفي حديث أبي قتادة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تكابُّوا على الماء في
تلك الغزاة - خيبر - لعطش نالهم، قال: (أحسنوا أملاءكم فكلكم سيروى) [3]
أي أحسنوا أخلاقكم.
ومنها قول الشاعر:
تنادَوا يالَ بُهثة إذ رأَوْنا ... فقلنا أحسِني مَلأً جُهيِنا
ويقال: أراد: أحسني ممالأة، أي معاونة، من قولك: مالأتُ فلاناً، أي
عاونته وظاهرته.
وفي حديث عمر - رضي الله عنه - أنه قتل سبعة نفر بصبي قتلوه غيلة،
وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به [4] .
والملأ: الرؤساء، سُمُّوا بذلك لأنهم مِلاء بما يحتاج إليه.
قال أبو إسحاق: الملأ: الخَلْق.
قال أبو عبيد: يقال للقوم إذا تتابعوا برأيهم على أمر: قد تمالؤوا عليه.
وقال شَمِر: يقال: فلان أملأ لعيني من فلان، أي: أتم في كل شيء،
منظراً وحسناً.
وهو مالىء للعين، إذا أعجبك حسنه وبهجته.
وقال ابن الأعرابي: (مالأه، إذا عاونه) .
3 - وقال الإمام الخطابي (ت 388هـ) :
الملأ: الرؤساء والأشراف.
يقال: هؤلاء ملأ بني فلان: أي ساداتهم، ومن هذا قول النبي - صلى الله
عليه وسلم -: (اللهم عليك الملأ من قريش) [5] يريد الرؤساء منهم، وهم الملأ ...
بالقصر والهمز. فأما الملأ مقصوراً غير مهموز فالمتسع من الأرض، قال الشاعر:
ألا غنِّياني وارفَعا الصوتَ بالمَلا ... فإن الملا عندي يَزيدُ المدى بُعدا [6] .
وقال أيضاً، في شرح قول عمر - رضي الله عنه -: (لو تمالأت عليه أهل
صنعاء..) .
تمالأ: مهموز من الملأ: أي لو صاروا كلهم ملأً واحداً في قتله، ويقال:
مالأتُ الرجل على الشيء إذا واطأتُه عليه [7] .
مامالأت: معناه طابقت وساعدت، وأصله مالأتُ - مهموزاً - من ملأ القوم، يريد أنه لم يدخل في مِلأئهم، ولم يطابقهم على رأيهم.
ويقال: ما كان هذا الأمر عن ملاء منا: أي تشاور واجتماع عليه [8] .
4 - وقال العلامة اللُّغوي ابن فارس (ت 395هـ) :
الملأ: الميم واللام، يدل على المساواة والكمال في الشىء.. ومنه: الملأ:
الأشراف من الناس؛، لأنهم مُلِئُوا كرماً.
فأما قول الشاعر:
تنادوا يال بهثة إذ لقونا ... فقلنا أحسني ملأ جهينا
فقال قوم: أراد به الخُلُق، وجاء في الحديث: (أحسنوا أملاءكم) والمعنى
فيه: أن حسن الخلق من سجايا الملأ، وهم الشِّراف الكرام [9] .
5 - وقال الراغب الأصفهاني (ت 502هـ) :
الملأ: جماعة يجتمعون على رأي، فيملؤون العيون رواءً ومنظراً، والنفوس
بهاءً وجلالاً، قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ إلَى المَلأِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ] [البقرة: 246] وقال: [وقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ] [المؤمنون: 33] ، [إنَّ المَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ] [القصص: 20] ، [قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ] [النمل: 29] .. إلخ.
يقال: فلان مِلء العيون: أي مُعظَّم عند من رآه، كأنه ملأ عينه من رؤيته،
ومنه قيل: شاب مالىء العين. والملأ: الخَلق المملوء جمالاً، قال الشاعر: فقلنا
أحسني ملأ جهينا..
ومالأته: عاونته وصرت من ملئه: أي جمعه، نحو شايعته: أي صرت من
شيعته [10] .
6- وقال الإمام محيي السنة البغوي، ت (516هـ) :
الملأ من القوم: وجوههم وأشرافهم، وأصل الملأ: الجماعة من الناس، ولا
واحد له من لفظه، كالقوم والرهط.. وجمعه أملاء [11] .
7 - وقال الإمام مجد الدين بن الأثير (ت 656هـ) :
تكرر ذكر الملأ في الحديث. والملأ: أشراف الناس ورؤساؤهم، ومُقدَّموهم
الذين يرجع إلى قولهم، وجمعه أملاء.. ومنه حديث عمر عندما طُعن: (أكان هذا
عن ملأ منكم؟) ، أي: تشاور من أشرافكم وجماعتكم [12] .
8 - وقال القرطبي (ت 671هـ) :
الملأ: الأشراف من الناس، كأنهم ممتلئون شرفاً. وقال الزجاج: سُمُّوا بذلك
لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم. والملأ في قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إلَى
المَلأِ] [البقرة: 246] القوم؛ لأن المعنى يقتضيه. والملأ: اسم للجمع كالقوم
والرهط. والملأ أيضاً: حسن الخلق [13] .
9 - وقال العلامة اللُّغوي ابن منظور (ت: 711هـ) :
الملأ: الرؤساء، سموا بذلك لأنهم مِلاء بما يُحتاج إليه. والملأ مهموز
ومقصور: الجماعة. وقيل: أشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم، ومقدموهم الذين
يرجع إلى قولهم.. والجمع: أملاء. وحكى أحمد بن يحيى قال: رجل مالىء:
جليل العين بجُهرته، وشابّ مالىء العين: إذا كان فخماً حسناً، ويقال: فلان أملأ
لعيني من فلان: أي أتمُّ في كل شيء، منظراً وحسناً. وهو رجل مالىء العين:
إذا أعجبك حسنه وبهجته.
وحكى: ملأه على الأمر يملؤه ومالأه.
وكذلك الملأ: إنما هم القوم ذوو الشأن والتجمع للإدارة. والملأ على هذا
صفة غالبة.
وقد مالأته على الأمر ممالأة: ساعدته عليه وشايعته، وتمالأنا: اجتمعنا،
والملأ في كلام العرب: الخُلُق.
والملأ: العِلْيَة. وما كان هذا الأمر عن ملاً منا: أي عن تشاور
واجتماع [14] .
10- وقال أبو حيّان الغِرناطي الجيّاني النحوي المفسر (ت 754هـ) :
الملأ: الأشراف من الناس، وهو اسم جمع، ويُجمع على أملاء.
قال الشاعر:
وقال لها الأملاءُ من كل معشر ... وخير أقاويل الرجال سديدها
وسموا بذلك؛ لأنهم يملؤون العيون هيبة، أو المكان إذا حضروا، أو لأنهم
مليؤون بما يُحتاج إليه.
وقال الفرّاء: الملأ من الرجال في كل القرآن لا تكون فيهم امرأة، وكذلك
القوم والنفر والرهط.
وقال الزجاج: هم الوجوه وذوو الرأي [15] .
11- وقال الفيروز آبادي (ت 817هـ) :
الملأ: التشاور. والأشراف والعلية والجماعة والطمع والظن. والقوم ذوو
الشارة والتجمع والخُلُق [16] .
12 - وقال العلاَّمة الآلوسي (ت 1270هـ) :
الملأ من القوم: وجوههم وأشرافهم، وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفظه،
وأصل الباب: الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد.
وإنما سمي الأشراف بذلك؛ لأن هيبتهم تملأ الصدور، أو لأنهم يتمالؤون:
أي يتعاونون بما لا مزيد عليه [17] .
13 - ومن الكُتاب المعاصرين:
وممن عرض لمعنى الملأ وموقفهم من الدعوات عدد من الكُتاب المعاصرين،
نذكر فيما يلي نماذج لما يمكن استخلاصه من آرائهم في ذلك. قال الشيخ محمد
أحمد العدوي: عن الملأ:
الأشراف والسادة الذين امتلأت نفوسهم بحب الجاه والسمعة والرياسة
والاستئثار، وهم المترفون الذين قال الله - تعالى - فيهم: [وَمَا أَرْسَلْنَا فِي
قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ] [سبأ: 34] [18] ،
وهم الذين تحدث عنهم الكاتب والمؤرخ محمد عزة دروزة - رحمه الله - في بحثه
عن معركة النبوة مع الزعامة في مكة والذين سماهم بجمهورية زعماء الأسر
العريقة، حيث كان يتولى هؤلاء الزعماء شؤون مكة العامة على اختلافها في نطاق
ما يسمى بدار الندوة، فوصفهم بأنهم: الزعماء والأغنياء في مكة - بصورة عامة - يتمتعون بالنفوذ والسيادة، يأمرون فيُطاعون، ويُدعون فيُستجابون، ويسنّون
فيُتبعون، وتكون لهم الكلمة الفاصلة في المشاكل والقضايا العامة الداخلية والخارجية
والدينية والسياسية والاجتماعية [19] .
وقال الشيخ محمد سرور زين العابدين في كتابه (نهج الأنبياء في الدعوة إلى
الله) [20] :
الملأ: هم بطانة الحكام الظالمين وأعوانهم، وأصحاب المصالح والأغنياء
المترفون، وزعماء المناطق والقبائل.. ومن سنن الله الثابتة في خلقه أن يكون
هؤلاء جميعاً في طليعة مَن يتصدى لأنبياء الله؛ لأن نفوسهم امتلأت بحب المال
والجاه، وقلوبهم قد أُشربت كُره كل من يدعو إلى دين الله.. وهؤلاء هم الذين قال
الله فيهم: [وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ] [سبأ: 34] .
والخلاصة:
أننا نريد من (الملأ) الذين ورد ذكرهم في كتاب الله - تعالى - لبيان موقفهم
من الدعوة إلى الله - تعالى -: أولئك العلية من القوم، وجوههم وأشرافهم،
ساداتهم وزعمائهم المستكبرين في الأرض بغير الحق، يريدون عُلوًا في الأرض
وفسادًا، يجتمعون على رأي واحد، هو الصد عن دين الله - تعالى - والتصدي
للأنبياء والرسل، وحرب الدعاة إلى الله - تعالى - فيتمالأون على ذلك ويجتمعون
ويتعاونون مع بطانة سوء لهم.
امتلأت نفوسهم بما يحتاجون إليه، إلى درجة لا مزيد عليها، فقد
أُبْشِمُوا [21] بالمال والترف، والجاه والشرف، والزعامة والسيادة والمكانة بين قومهم، فأصبحوا يملؤون العيون رواءً ومنظرًا، والنفوس بهاءً وجلالاً، ونادي القوم أو المجلس - إذا حضروه وتصدروه - هيبةً ومكانة، ويعظمون في عيون من يرونهم، إليهم ترجع العامة في القول والرأي، وعليهم تعقد الخناصر، وتشير الأصابع إليهم، فأصبحت كلمتهم كلمة الفصل المسموعة، ورأيهم رأيًا سديدًا مطاعاً، وإشارتهم أمراً نافذاً. يقولون فلا معقب على قولهم، ويتكلمون فتلجم أفواه غيرهم وتنعقد الألسنة. يرون الرأي فليس لأحد وراء رأيهم رأي في قضيةٍ ما صغيرةٍ أو كبيرة، داخلية أو خارجية.
يظلمون غيرهم فيكون ظلمهم عدلاً، ويتسلطون على أرواح الناس وعقولهم
وأجسادهم وأموالهم، فيكون هذا كله حقاً لهم، وديناً في أعناق غيرهم، تحقيقاً
لمصالحهم الشخصية ودوافعهم الذاتية وأهوائهم الجامحة ومطامعهم الكثيرة.. أولئك
هم الملأ من كل قوم، الذين ينبغي أن نتعرف على سمات شخصياتهم ومعالمها
وعلى أساليبهم في الصد عن الدعوة ومحاربتها، والدوافع التي تدفعهم لذلك، ثم
نتبين موقف القرآن الكريم وموقف الرسل - عامةً - منهم؛ لنكون على بينة من
الأمر في موقفنا منهم.
والله الموفق.