مجله البيان (صفحة 610)

الافتتاحية

العلماء: الواقع والمنتظر

إذا تسنى لك أن تستمع إلى حوار دار بين مجموعة من العلماء وحاكم من

الحكام فإن ذلك يعتبر فرصة نادرة لأخذ العبرة والدرس؛ لأن هذين الصنفين من

الناس عليهما مدار الأمر في كل مجتمع، إذا صلحا صلح المجتمع، وإذا كانا غير

ذلك فعندئذ تكون الفوضى هي الصفة الغالبة. بل إذا كانت العلاقة بين هاتين

الجهتين علاقة الحب والتراحم والتناصح والتشاور فسوف يقطف المجتمع بأسره

ثمرة ذلك.

لقد كان العلماء على امتداد التاريخ الإسلامي هم ضمير الأمة الذين لا تستغني

عنهم في ساعات العسرة والأوقات العصبية، وما المعالم البارزة في هذا التاريخ إلا

نتيجة تلاقح بين أفكار العلماء وحكمتهم وبين حزم الحكام وشعورهم بثقل الأمانة

التي أُسندت إليهم.

إن العلماء يقومون دائماً بدور الطلائع الذين يكتشفون الخطر قبل وقوعه،

وينبهون قومهم على المزالق قبل التورط فيها، ولذلك فإذا أردت أن تقيس وعي أمة

وقيمتها فانظر إلى علمائها وأثرهم ونظرة المجتمع إليهم.

ومن جهة أخرى؛ فحيثما انتشر الطغيان - سواء منه طغيان الفرد وطغيان

الجماعة - وسادت العقليات التى تضيق بالمساءلة والنصح، وتحكمت العصبيات

والأهواء؛ فإنك واجد انحساراً لأثر العلماء، لأنهم أول من يتأثرون بهذه الموجات

التي هي وبال على الأمة كلها.

وسبب أنهم أول من يتأثر هو أن الشيطان - العدو الأول للإنسان والعدو

الأول لعنصر الخير فيه - أول ما يتوجه بكل قوته إلى هذا العنصر من الأمة ليفسده

لأنه بفساده يسهل إفساد الأمة، وتعطى الحجة لكل ضعيف النفس خائر العزيمة كي

ينطلق - مسوقاً بالشبهات والشهوات - نحو الفساد والإفساد.

وسبب آخر هو أن أدوات الطغيان والتسلط والعصبيات لا تشعر بالأمن

والطمأنينة، ولا تطول مدتها إلا في غياب أو (تحييد) هذه العناصر المهمة من

المجتمع.

إن مهمة العلماء مهمة صعبة، لأنهم يتصدون لجبهات صعبة، ولا يفوزون

بالتفاف الجماهير حولهم وبثقتهم بهم إلا بعد انتصارهم على هذه الجبهات التى

يتصدون لها، ومن هذه الجبهات: جبهة النفس وما فيها من أهواء وشهوات،

وجبهة الإغراءات الخارجية التى تخاطب حظوظ النفس هذه، وجبهة التهديد

والتخويف من أجل كتم كلمة الحق أو إضفاء الشرعية على الباطل.

كان لابد لهذه القرون المتطاولة على المسلمين والتى أصابهم فيها ما أصابهم،

وحاق بهم ما حاق من الغفلة عن أمور دينهم، والإهمال لأسس التقدم والرقي - من

أن تترك أثراً في النفوس. ومن أشد ما ابتلي به المسلمون في عصور انحطاطهم

وما يزالون فيه (فقدان الحرية) ، وجهلهم بما يجب لهم من حقوق، وما يجب

عليهم من واجبات، حتى كادوا يتحولون إلى جموع كثيفة فاقدة الإحساس بالحياة،

لقد تركت هذه البلوى - فقدان الحرية - في النفوس تردداً وخوفاً، ونكتت في

القلوب نكت الضعف والانكفاء على الذات والهروب من مواطن الكفاح من أجل

خير الجماعة، حتى العلماء الذين من المفترض أن لا يخافوا في الله لومة لائم

أصبحتَ في كثير من البلاد لا ترى فيهم إلا قلوباً منخوبة من الفزع، ونفوساً

مسكونة بحب السلامة.

من السلبيات التى تلاحظ -إذا ما اجتمع جمع من العلماء لأمر ما - الإسهاب

في القضايا الفرعية، والخروج عن الموضوع الذي اجتُمع من أجله، فلو افترضنا

أن المجال أُعطي لعدد منهم كى يبدي رأيه في مسألة فإنه لا يدخل في الموضوع

مباشرة، بل يجول جولة خطابية أو علمية، وقد يذهب بعيداً فيتعب نفسه، ويتعب

من يستمع إليه ولا يصل إلى النقطة التي طُلب منه إبداء الرأي فيها إلا وقد غزا

الملل النفوس وأغلق عليها منافذ قبول وجهة نظره حتى لو كانت صحيحة أو قيّمة،

وهكذا لا يعطي المجال لغيره إلا بعد أن لا يكون قد ترك في نفوس السامعين إلا

الضجر، فيأتي الآخر متأثراً بهذا الجو الذي أحس به عندما كان يستمع -فيعلن أنه

لا يريد أن يكون خطيباً ولا واعظاً؛ فالمقام لا يسمح! وما إن يتلفظ بعبارة أو

عبارتين حتى ينسى نفسه، وينزلق إلى مثل ما انزلق به الأول، وقد يغرق في

قضية أخرى قد تكون من وحي تجاربه الشخصية ويسترسل في الحديث عن نفسه،

ثم يمسه طائف من الرحمن فيتذكر فيبدأ بالاعتذار من مدير الجلسة ثم من مساعديه

ثم من المستمعين ... ! وقد يقاطَع بأن الوقت لا يكفي، فيستمهل حتى يكمل هذه

الفكرة الأخيرة، فإما أن تضيع الفكرة الأساسية في هذا الخضم المتلاطم من الكلام

المتزاحم، وإما أن لا يبقى وقت أصلاً لعرضها.

وقد ينبري آخر للكلام ليسد الخلل ويصلح ما أفسد من سبقه، فيلوي من عِنان

الإفاضة والاستطراد عن الموضوعات الفرعية، والبطولات الشخصية إلى المدح

العريض الذي تعافه النفوس لمسؤول كبير أو صغير.

لقد فكرت في هذه السلبيات وغيرها التي تعتري كثيراً من العلماء عند طرقهم

لمسألة من المسائل، أو انتدابهم للإدلاء برأيهم في قضية من القضايا أمام جهة

رسمية أو مسؤول حكومي، وتساءلت بيني وبين نفسي عن أسبابها، ولماذا لا

يكون هناك التأثير المطلوب لهذه الآراء والانتفاع المنتظر منها. ولا أدَّعي أنني

اهتديت إلى وجه الحق الكامل في ذلك.

1 - يغلب على العلماء التفكير الفردي المزاجي، ولا يفكرون تفكيراً جماعياً

قبل مناقشة الفكرة الأساسية؛ ولذلك يحرص كل واحد على عدم كشف أوراقه، فلا

يناقش مع غيره كيف سيطرح فكرته ولا كيف سيناقش أفكار غيره، ويعتد كلٌّ

بأسلوبه، ويستهين بوجهات نظر الآخرين في طريقته، ويقوّم نفسه وقدراته تقديراً

مبالغاً فيه، وقد يكون عدم مناقشته ماذا سيقول ويطرح أمام أصحابه خوفاً من نقدهم

وتهرباً من مواجهتهم.

2 - هناك مشكلة أخرى ومرض يصيب بعض العلماء وهو (مرض الكلام)

(إذا صح أن نطلق هذا المصطلح) وهو أن بعضهم لاعتياده مخاطبة الناس يصاب

بنوع من الإدمان على ذلك، ومعنى الإدمان هنا أنه يفقد التمييز بين المواقف التي

يصلح فيها الاختصار، والمواقف التى يصلح فيها الإطناب والتفصيل، ويظن أنه

إذا أسهب مرة أو أثنى الناس عليه فهذه دعوة له ليطنب ويسهب مرات أخرى، مع

أنه (لكل مقام مقال) .

3 - أما مشكلة المبالغة في المدح فهذه قد يكون مبعثها الرهبة والخوف من

الممدوح، أو رجاء شيء عنده، والمبالغة في المدح تشمل مدح الشخص بما ليس

فيه، وهذا أمر خطير، وصدوره من العلماء أخطر؛ لأنه كذب وبهتان، فمن

الكذب والبهتان أن يقال لمن لا يهتم بكتاب ولا بسنة: أنت ملتزم بالكتاب والسنة،

ومن الكذب وشهادة الزور أن يوصف من يسخر من الدين والمتدينين بأنه متدين!

ومن الكذب كذلك أن يوصف حديث شخص يتسم بالمداورة والمناورة بأنه كلام وافٍ

شافٍ ليس عليه غبار!

وإن الإنسان ليعجب كثيراً من علماء أمة من عقيدتها أن الخوف والرجاء لا

يكون إلا لله. ومن هدي رسوله -صلى الله عليه وسلم- قوله: «إذا رأيتم

المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» [1] ومع ذلك يضطرون إلى هذا الأسلوب،

وبعضهم يلجأ إلى تسويغ ذلك بطرق غير مسلَّمة فيظنون أن هذا من (الحكمة) حتى

يكسبوا الناس ويستميلوهم إلى حظيرة الإسلام، ولكنهم ينسون أن مدح الشخص بما

ليس فيه والمبالغة في الثناء عليه لا تستميله، بل قد تبعده؛ لأنه أعرف بنفسه من

غيره فماذا سيكون ظنه بمن يجعله من بقية السلف الصالح وهو عند نفسه من المردة

والشياطين؟ ! ، أما إذا صدَّق واعتقد أنه كما يقول المادح - وهو ليس كذلك - فهذا

فتنة له، وتغرير به، ومساعدة على هلاكه، لا إنقاذه.

إننا نربأ بالعلماء أن يُختبروا فتنكشف منهم نقاط الضعف التي تُطمع بهم مَن

لا يريد بهم الخير، ولا يريد لرسالتهم في المجتمع أن تُبلَّغ.

ونختم هذه الكلمة بالتذكير بعنصر مهم جداً في بناء الشخصية بعامة،

وشخصية العالم بخاصة، وهو الثقة بالنفس التى تنبع من العقيدة التي يؤمن بها

ويعمل لأجلها، ومن الحق الذي يمثله في نظر من يلتف حوله، وهذه الثقة هي

غير الادعاء الذي يدفع بعض الناس للتطاول واحتقار آراء الآخرين، والاعتقاد

بصواب ما يأتون به هم فقط وتسفيه ما عداه. ثقة إيجابية تبعث الطمأنينة في

النفوس، ولا تبالي بكثير من الرسوم والظواهر التى ينخدع بها السذج والبسطاء.

إن الثقافة العلمانية - التي سادت في القرن الأخير - عملت على زرع

أمراض كثيرة (كالتردد، والخوف، واستصغار النفس واحتقارها) في نفوس كثير

من علماء المسلمين، وما لم تقدم ثقافة قائمة أساساً على نفوس محصنة ضد هذه

الأمراض فسوف تظل للعلمانية اليد العليا، وهذا ما لا ينبغي في مجتمعات تعتقد أن

كلمة الله هي العليا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015