أحمد فهمي
في الجانب المظلم من السياسة تصطفُّ عدة مبادئ ومفاهيم وسلوكيات؛ دوماً كان الخطاب السلفي يحذر منها، وحذر رموزه من تورط التيارات الإسلامية في الممارسات السياسية إلى الحد الذي يغرقها في طوفان من الهواجس والحسابات والاعتبارات السياسية التي تنخر في ثوابت الدين ومسلَّماته.
الآن يمر الخطاب السلفي بمرحلة تقويم ومراجعات ومحاولات تجديد وإصلاح؛ بعضها يأخذه الشطط مأخذاً بعيداً، وبعضها يتسم بالرشد والحكمة، لكن ما يبعث القلق هو تنامي ما يمكن وصفه بظاهرة (الهواجس) ، أي: الوقوع في دائرة احتساب ردود الأفعال والأقوال إلى الحد الذي يجعلها عنصراً رئيساً في رسم دائرة الحق والصواب.
إن الفهم السلفي بطبيعته - وهي إحدى مزاياه - لا يُغرق في المواربة والمداراة، لذا فهو يجنح دوماً إلى تأصيل أدائه وخطابه، وهنا مكمن الحذر، أن يؤدي الإغراق في الهواجس إلى تأصيلها وتحويلها إلى ثوابت، وهكذا يمكن أن نجد أنفسنا وقد وقعنا فيما حذرنا منه سابقاً؛ أي: في الجانب المظلم من السياسة.
من ناحية أخرى؛ فقد اعتدنا دوماً في العقود - وربما في القرون - الأخيرة على مواجهة عدو واحد، إستراتيجيتنا ورؤانا الفكرية تخصصت - غالباً - في مواجهة هذا النمط من العداوة، وربما كانت عهود الاستعمار مثالاً نموذجياً لذلك، فقد كان للبلاد الإسلامية المحتلة عدو واحد يلزمها مواجهته، ولكن في السنوات الأخيرة أصبح للمنطقة العربية ثلّة من الأعداء يملكون مخططات واضحة وطموحات طامعة، فهناك الولايات المتحدة وشرق أوسطها: الكبير، الجديد.. إلخ، وهناك الدولة العبرية وحلم التطبيع مع الأسواق العربية، وحلم إيران بإقامة قوة إقليمية نووية تسيطر على غالبية النفط العالمي..
في هذه الوضعية المركبة لا يصلح أبداً استخدام الإستراتيجية القديمة نفسها في مواجهة عدو واحد، ولكن الحاصل أن كثيرين لا يزالون يتمسكون بهذا النهج (الكل في واحد) ، والنتيجة: افتقاد القدرة على مواجهة ثلاثة أعداء في وقت واحد، تختلف إستراتيجياتهم ومخططاتهم وطموحاتهم، ويمكن أن يتوافقوا أو يتخالفوا على اقتسام الغنيمة.
والنتيجة العملية هي: استخدام رؤية رأسية في المواجهة وليس رؤية أفقية، بمعنى أنه للبَدْء في المواجهة يجب تسكين عداوة أحد الأطراف أو أكثر؛ للتفرغ لمواجهة الطرف الآخر؛ فلكي تواجه الولايات المتحدة يجب أن تسكن العداوة مع إيران، ولكي تواجه إيران يجب تسكين العداوة مع أمريكا، فلا توجد غير خانة واحدة في إستراتيجية المواجهة مخصصة للأعداء، وهذه الثغرة تحديداً ينفذ منها الطابور الخامس العَلْماني في بلادنا، فيخاطبون الرأي العام وفق عبارات مثل: أيهما أشد خطراً....
أما الرؤية الأفقية فهي التي تستخدم نهجاً متوازناً يضع أعداء الأمة في مستوى متجاور، ولا بأس بعد ذلك من تحديد الأولويات حسب الأخطار والتهديدات الآنية.
يجب أن نتخلص من النظرة الأحادية المسيطرة على إستراتيجيات المواجهة، كما يلزم أن نتعلم تكوين رؤى تتناسب في تعقيداتها مع تعقيدات الظروف الصعبة التي تعيشها الأمة، يجب أن نقفز فوق المعاني البسيطة والمفهومات الأحادية التي ترى الأمور من جانب واحد.
إن قوماً ينطلقون من رؤى أحادية، وتقودهم الهواجس في مساراتهم، لن يمكنهم أن يحققوا ما تعقده عليهم أمتهم من آمال، إن الحكمة ليست في تكثير الهواجس، كما أن الحنكة ليست في اختزال التعقيدات.
ينبغي أن نتخلص من طرائق التحليل والاستنتاج التي تصل بنا في النهاية إلى اختزال القضايا المحورية إلى أسئلة من نوعية: هل تضرب أمريكا إيران أم لا؟ مَنْ أكثر عداء للأمة: إيران أم أمريكا؟ هل إيران عدوة لأمريكا أم متحالفة معها؟ ... لا يوجد ما يضغط علينا لكي نختصر مواقفنا في كلمات قليلة أو خيارات محدودة، فلماذا نضيق على أنفسنا مداخل الفهم ومن ثم مخارج الفعل؟!
حتى في مجال الإفتاء والفتاوى، من يتأمل في نهج شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في فتاواه، يجد أنه في كثير من الفتاوى يكتفي بنقل أقوال كل مذهب، وربما يشير إلى قول الجمهور، ثم لا يرجح قولاً معيناً لأسباب مختلفة، فلماذا نصر نحن على ترجيح ما لا نفتقر إلى ترجيح له، وفي مجال السياسة لا الفقه؟!
لا أبالغ إذا قلت: إننا في وقتنا هذا نفتقر إلى رؤى متكاملة متوازنة تنطلق بنا في مسارات آمنة، رؤى تجديدية تستوعب المتغيرات والمتغيرين، وتقفز فوق الطروحات الشخصية والرؤى الذاتية لتقدم للأمة نهجاً لا يفقد بريقه وألقه إلا بعد سنوات طوال، فهل يبعث الله لهذا الأمة من يجدد لها دينها ونهجها وفكرها ... ؟