د. عبد العزيز كامل
خلف كل مواجهة ميدانية، أو منازلة عسكرية، صغرت أم كبرت، صراع بين فكرة وفكرة، أو بين عقيدة وعقيدة، أو رؤية ورؤية، تعكس كل منها مصلحة أو مطمعاً أو رغبة في العلو بالحق أو بالباطل، وهذه كلها تنتهي إلى تنازع بين قناعات وقناعات وبين مناهج ومناهج؛ إذ لا يمكن أن تتحرك الإرادات على أرض الواقع دون دوافع في العقول والقلوب والضمائر، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قول الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40] . وقال ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] ، والمعنى من الآيتين: لولا دفعُ اللِه بأسَ المشركين بممانعة وجهاد الموحِّدين، وحكمهم بالوحي المنزَّل، لزاد الفساد واستحكم الظلم، وحُرِم العباد من عبادتهم لربِّ العباد. فالتدافع هو الأصل بين سبيل الأبرار والفجار، ليس في ميادين المعارك العسكرية فقط، بل قبل ذلك في ساحات المواجهة الفكرية، وحقيقته صراع بين من يحملون المنهج السوي من أتباع الرسل، وبين من يحتمون بسواها من ملل الجهالات والمقالات والأهواء. قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} . [إبراهيم: 13 ـ 14]
ولكن الصراعات تكون أيضاً بين باطل وباطل، وقد يكون ذلك خيراً لأهل الإيمان، كما كان الصراع بين الفرس والروم، حيث أنْهَك كلٌ منهما الآخر، لتَسهُل المهمة بعد ذلك على عباد الله الموحدين في الانتصار عليهما.
صراعات عصرنا ليست استثناء في كون أصلها صراعاً بين عقيدة وعقيدة، أو فكر وفكر؛ فتطورات وتفاعلات الأحداث في النزاعات الكبرى، أكَّدت دائماً أنه كان خلف كل نزاع عسكري أو سياسي منها، اختلاف منهجي وفكري. ولو تأملنا في الحروب الدولية الكبيرة، لوجدناها تعكس ذلك بوضوح صريح؛ فالحرب العالمية الأولى كانت في حقيقتها صراعاً بين الأفكار والرؤى والأيديولوجيات التي تحولت إلى أزمات، حيث كانت الأفكار الشيوعية قد بدأت في التبلور في بدايات القرن العشرين، لتفجر الثورة الروسية التي تصدرت لمقاومة الأفكار الرأسمالية التي كانت تتحرك بها أطماع الغرب.
وجاءت الحرب العالمية الثانية، لتشعل صراعاً جديداً بين أفكار النازية (?) ، والفاشية (?) من جهة؛ والرأسمالية الليبرالية من جهة ثانية، ثم أعقبتها الحرب الباردة، التي امتدت إلى نهاية القرن العشرين، وكانت صراعاً بين فكرة الليبرالية الرأسمالية أيضاً، والماركسية الشيوعية.
لكن ما كان يميز كل تلك الصراعات بشِقَّيْها الفكري والعسكري، أنها كانت بين باطل وباطل، من طوائف الضلال المختلفة من كتابيين وملحدين ووثنيين، وما قد يلحق ببعضهم من فئام الجهلة أو المنافقين في بلاد المسلمين.
أما اليوم، فالصراع الدولي الناشب في ميادين متعددة على أرض العالم الإسلامي يمثل نوعاً آخر، لم يكن للبشرية عهد به منذ قرون؛ إذ يتضح يوماً بعد يوم أنه صراع واضح بين الحق الصريح والباطل الصارخ، أي بين حق الإسلام، وباطل الأعداء، الذين تأتي الصهيونية الأمريكية ـ بشِقَّيْها: اليهودي والنصراني ـ في مقدمتهم، حيث أطلقت الولايات المتحدة حربها التي سمتها (الحرب العالمية على الإرهاب) بعد أن لعبت بمصطلح (الإرهاب) لكي يكون مرادفاً للإسلام شيئاً فشيئاً، ولكي يكون هذا المصطلح صالحاً لأن يطلق على أشخاص دون أشخاص، ودول دون دول، وجماعات دون جماعات، وممارسات دون ممارسات، كما عُرف ذلك من مواقف الأمريكيين وحلفائهم من الإرهاب الصهيوني في فلسطين، والروسي في الشيشان، وإرهاب عملاء أمريكا في كل مكان، وكذلك إرهاب أمريكا نفسها في أفغانستان والعراق والصومال والسودان ولبنان، وغيرها مما قد يأتي بعدها.
وعندما شنت الولايات المتحدة حربها العالمية على ما أسمته (الإرهاب) ، جعلت جزءاً رئيساً من هذه الحرب الصليبية، مواجهات فكرية، تستهدف حضارة وثقافة وقيم الأمة الإسلامية، وقد استلزم ذلك أن يبدأ الأمريكيون عملية تضليل كبرى، لصرف المسلمين عن أُصول دينهم، وأُسس شريعتهم وعقيدتهم، لتَحُل محلها ما يُسمونه (قيم الغرب) الداعية إلى (الليبرالية) بجميع أنواعها في السياسة والاقتصاد والاجتماع والدين والثقافة والإعلام.
وقد تكاثرت في السنوات الأخيرة نداءات المخططين والمنظرين والمتنفذين في الغرب بضرورة إشعال وتوسيع وتطوير (حرب الأفكار) ضد العالم الإسلامي، وقد كان أول من أطلق هذا المصطلح، ووضع له الأساس الفكري القاضي الأمريكي (لويس باول) ، في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وكان يريد من نشره وتفعيله، مواجهة الأيديولوجيات المعارضة والمعادية للرأسمالية، وتحمس لفكرته أحد اليمينيين المتطرفين وهو (وليام كورز) فأسس مراكز للأبحاث لهذا الغرض.
لكن وزير الحرب الأمريكي المُقال المهزوم (دونالد رامسفيلد) هو أول من أطلق شرارة (حرب الأفكار) ضمن ما أسمته أمريكا (الحرب على الإرهاب) وذلك عندما دعا في مقابلة صحفية في خريف عام 2003م إلى شن تلك الحرب وظل يردد الكلام عن أهميتها، حتى أواخر بقائه في منصبه، وقد أدلى بحديث إلى صحيفة الواشنطن بوست في (27 /3/2006م) قال فيه: (نخوض حرب أفكار، مثلما نخوض حرباً عسكرية، ونؤمن إيماناً قوياً بأن أفكارنا لا مثيل لها) وأردف قائلاً: (إن تلك الحرب تستهدف تغيير المدارك، وإن من المحتم الفوز فيها وعدم الاعتماد على القوة العسكرية وحدها) .
وعجيب أن يكون المسؤول الأول عن وضع الخطط العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية في أوج هياجها واستعلائها، هو نفسه المتابع الرسمي لتلك الحرب الفكرية، حيث عقد مزاوجة لافتة بين ما هو عسكري وبين ما هو فكري، مؤسساً بذلك لحملةٍ صليبيةٍ فكرية، موازية للحملة الصليبية العسكرية، وقد أفصح عن ذلك المسؤول العسكري (المدني) عن الغرض المبيت لتلك الحرب فقال في تصريح له في أكتوبر 2003م: (نريد لشعوب الشرق الأوسط أن يكون إسلامها كإسلام الشعوب المسلمة في شرق أوروبا) يقصد مسلمي البوسنة وألبانيا، الذين ذاب غالبيتهم ـ إلا من رحم الله ـ في قاع الحياة الأوروبية المادية، حتى صار الدين بالنسبة لأكثرهم مجرد انتماء تاريخي، لولا المحنة التي تعرضوا لها على يد النصارى الصرب فأيقظت فيهم الحنين للدين بعد أن أُبعدوا عنه.
ما صرَّح به رامسفيلد لم يكن أحلاماً شخصية، ولا مجرد أمانٍ أمريكية، بل هو توجه صليبي عام، يستهدف الإسلام بالتغيير، والمسلمين بالتغرير، وقد تبين ذلك من الحملة شبه المنظمة على شعائر الإسلام وشرائعه وحرماته ومقدساته في معظم بلدان أوروبا في الآونة الأخيرة.
وفيما يخص (حرب الأفكار) تتابعت التصريحات والإيضاحات التي تحكي أبعاد تلك الحرب المعلنة، من قوىً غربية عديدة معادية، وليس من أمريكا فقط، وكان آخر ذلك ما أدلى به «الذيل المهزوز» (توني بلير) رئيس الوزراء البريطاني، في كلمات ذات مغزى خلال مؤتمر صحفي عقده في 17 /4 /2007م، قال فيه: (إن الوقت قد حان لتتوحد إدارات الحكومة البريطانية، من أجل تحقيق النصر في حرب الأفكار) وأضاف ذلك المستقيل المهزوم: (إذا كنتم تريدون أن تنقلوا الحرب إلى أرض الأعداء، فعليكم أن تهزموا أفكارهم ودعايتهم إلى جانب هزيمة مخططاتهم) .
أما زعيم المهزوزين المهزومين (بوش) ، فكان قد قال في خطاب له في أعقاب هجوم سبتمبر: (نحن نحارب في جبهات مختلفة عسكرية واقتصادية وسياسية وفكرية، ونحن واثقون بأننا سننتصر في كل جبهة) وقد نصت الورقة الرئيسية لاستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة على أن أحد أهم أدوات أمريكا في نشر مبادئها في الشرق الأوسط هو (شن حرب أفكار) مع اللجوء للخيار العسكري عند الحاجة إليه.
وبعد هذا التقرير لم تهدأ مراكز الأبحاث ومعاهد التفكير المحسوبة أو القريبة من إدارة بوش في إصدار التقارير التي تصب كلها في كيفية إدارة تلك الحرب بكفاءة، وأشهرها بالطبع التقارير الصادرة عن (معهد راند للأبحاث) حيث أصدر ذلك المعهد عدداً من التقارير الخاصة بتحديد الأهداف والوسائل الخاصة بمواجهة المد الإسلامي عموماً، والتوجه السني المقاوم خصوصاً.
كان من الطبيعي في ظل التوافق على أهمية (حرب الأفكار) أن توضع لها السياسات، وتستخلص التجارب، وهذا ما حدا بوزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) أن تحدد منذ البداية الملامح الرئيسة لتلك الحرب، وذلك عندما كانت ـ حينها ـ مستشارة للأمن القومي الأمريكي؛ إذ قالت في كلمة ألقتها في معهد السلام الأمريكي في صيف 2002م: (لا بد من اتباع أساليب الحرب الباردة نفسها ضد الشيوعية لمواجهة أفكار (الكراهية والموت) في الشرق الأوسط) . وهي تتحين الفرص كل فترة لإبداء قناعتها بخطورة تلك الحرب وضَرورة السير فيها إلى النهاية؛ فقد قالت في مقالة لها في صحيفة الواشنطن بوست في ديسمبر 2005: (إننا ضالعون في حرب أفكار أكثر مما نحن منخرطون في حرب «جيوش» ) . وقد صرحت في مناسبة أُخرى بأن الهدف الأكبر للمواجهة الفكرية المزمعة، هو ـ تحديداً ـ الانتصار لفكر (الليبرالية الأمريكية الجديدة) ، حيث قالت: (إن المهمة الأساسية في حرب الأفكار، تتعلق بالترويج للقيم الأمريكية المتمثلة في الحرية والديموقراطية ونظام السوق الحر) .
إن هذه التصريحات تدل بوضوح، على أن ما تسمى بـ (القيم الغربية) ، النابعة من خلفيات يهودية ونصرانية محرفة، لم تعد تأبه بندٍّ منافس سوى (القيم الإسلامية) الشاملة للمبادئ والسلوك، والمستمدة من الوحي الصحيح والدين القويم؛ حيث أصبحت هذه القيم مع من يحملها، في مواجهة حرب لا هوادة فيها على كل أرض، وفي كل ميدان، وضمن كل مجال، أي (في جهات مختلفة عسكرية واقتصادية وسياسية وفكرية) كما قال بوش في تصريحه المذكور آنفاً.
وقد نص تقرير لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م على ذلك التوجه، حيث جاء فيه: (إن العدو الرئيسي لأمريكا هو تيار إسلامي راديكالي متطرف، تعود مرجعيته إلى أفكار ابن تيمية وسيد قطب ... ولا يوجد مجال للتصالح مع هذا التيار، ولا بد من عزله وتصفيته تماماً، لكن لا بد أولاً من منازلته في ميدان حرب الأفكار من أجل كسب الغالبية المحايدة التي يمكن أن تتحول إلى متعاطفة معه) .
وحتى لا يتبادر إلى أذهان بعضنا أن مقصودهم بـ (التيار الإسلامي الراديكالي) هو التيار القتالي أو المقاوم للهيمنة الغربية والذي يوصم دوماً بـ (الإرهاب) ، فإن على من يتوهم ذلك أن يطالع تقرير مؤسسة الأبحاث الأمريكية (راند) الأخير، الخاص بإنشاء توجهات أو تجمعات تُمثل (الإسلام المعتدل) حيث وضع ذلك التقرير المعايير التي يحدد من خلالها الفرق بين المعتدلين والمتطرفين (?) .
وأهم سمات الاعتدال في نظر من أعدوا التقرير: (القبول بالديمقراطية) وهذا يعني رفض مبدأ الدولة الإسلامية، و (القبول بالمصادر غير المتعصبة في تشريع القوانين) بما يعني إلغاء مصدرية ومرجعية الشريعة، و (نبذ العنف إلا في حالة «الحرب العادلة» ) أي التخلي عن الجهاد والمقاومة، و (احترام حقوق النساء والأقليات) وهو ما يستدعي إحلال المفاهيم الغربية محل الإسلامية فيما يتعلق بالنساء وغير المسلمين.
وقد حدد تقرير لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر هدفاً جوهرياً من أهداف (حرب الأفكار) عندما نص على أنه (لا بد من منازلة التيار غير المعتدل في ميدان حرب الأفكار من أجل كسب الغالبية المحايدة التي يمكن أن تتحول إلى متعاطفة معه) .
«كسب الغالبية» إذن؛ هو الهدف والرهان الاستراتيجي، للاستيلاء على القلوب والعقول، والوصول إلى ذلك لا يكون إلا عبر تحركات تكتيكية يكون (الدولار) فيها هو الوقود المحرك لأفكارهم والمحرق لأفكار غيرهم، وهذا ما ذهب إليه تقرير مؤسسة راند السابق الصادر في (18/4/2005) بعنوان (قلوب وعقول ودولارات) والذي نص على أهمية مزاحمة (العدو) على عقول الناس وقلوبهم، عن طريق تسخير الدولار، في تغيير الأفكار، باتجاه العلمنة والأمركة واللبرلة.
أي باختصار: (تغيير الإسلام) في فهم واعتقاد متبعيه. لهذا فإن الحرب الأمريكية الراهنة على العالم الإسلامي، ستبقى في جوهرها ـ وإن سكنت المدافع ـ حرب أفكار، ولذلك فمن غير المتوقع أن تتوقف بشكل نهائي، أو ترتبط بتغيرات سياسية عندنا أو عندهم، لارتباط تلك الحرب بمعايير رضاهم عنا وعن عقائدنا ومبادئنا وأفكارنا، وهذا الذي لن يحصل، ما دام المسلمون مسلمين، والنصارى نصارى واليهود يهوداً: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ، فالمعركة بيننا وبينهم ستظل دائماً معركة على الثوابت، بين ما عندنا من منهج الحق والهدى، وما عندهم من أفكار الغي والهوى.
- يأسهم في طيات بأسهم:
الإمكانات التي رصدت ولا تزال ترصد لإدارة (حرب الأفكار) لا تكاد تصدق، ولا ندري كيف صدق الأمريكيون وغيرهم من اليهود والنصارى أنفسهم في أنهم يمكن لهم أن يغيروا ديننا، كما غيروا دينهم؟ ولكن صدق ربنا إذ قال: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] .
ومن يلاحظ إصرار الأمريكيين وحلفائهم على المضي في حرب الأفكار؛ ربما يظن أنهم يملكون مزيد ثقة فيما عندهم، أما نحن فيقيننا أنهم ليس لديهم من يقين إلا ما يقبع خلف الشك والحقد الدفين: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55] .
لذلك فإنهم حتى وإن دعا بعضهم إلى حوار في بعض الأحيان، فإن حوارهم المقترح هو نفسه جزء من حرب الأفكار؛ إذ ليس لدى أكثرهم وهم يحاوروننا رغبة في الإنصات أو الإنصاف، إنما يستمعون ـ إذا استمعوا ـ لنُخرج ما عندنا كي يُلقوا عليه ما عندهم.
لقد طالَبَ الكاتب الأمريكي الأشهر اليوم في العالم (توماس فريدمان) بما أسماه (حوار الأفكار) بين الولايات المتحدة وبين شعوب العالم العربي والإسلامي، بعد أن لاحظ أن أمريكا تفقد مصداقيتها بشكل مقلق بين تلك الشعوب، ولكن: هل يقصد فريدمان الحوار حقاً؟ إنه مع دعوته «البريئة» للحوار، لم يستطع أن يخفي ما وراءها من مآرب وأسرار؛ فليس إضاعة الأوقات وتمرير المخططات هو فقط المراد من هذا الحوار، وإنما استغلال أرضية الحوار لتأسيس مزيد من الركائز الحامية لمصالح أمريكا وحلفائها وعملائها. ولهذا اشترط أن يلتزم العرب مع أمريكا ـ في ظل ذلك الحوار ـ بثلاثة أمور، وهي:
1 ـ استمرار تزويد أمريكا بالنفط.
2 ـ الحفاظ على انخفاض سقف أسعاره.
3 ـ تحسين المعاملة مع إسرائيل.
وقال: (إذا حصلنا من العرب على هذه الأمور الثلاثة، فلسنا معنيين بشيء من أمورهم حتى ولو كان يتنافى مع الأفكار الأمريكية المعلنة) .
إن الالتزام العربي الذي يطالب به فريدمان، هو لضمان استمرار قوة وقدرة أمريكا وحليفتها في مقابل ضعفنا وعجزنا، ومع ذلك تظل حرب الأفكار معلنة حتى تحت شعار الحوار.
لقد طالب توماس فريدمان أيضاً في دعوته للحوار، بأن تكثف أمريكا سياسة تغيير الأفكار بين شعوب الشرق الأوسط، واقترح عليها مثلاً أن تمنح خمسين ألف تأشيرة دراسية لطلاب عرب للقدوم إليها، ليكونوا هدفاً للتأثير الفكري المباشر!!
ما هي المهام التي يمكن أن يكلف بها خمسون ألفاً من العملاء الفكريين لأمريكا، إذا عادوا منها وقد رضعوا لَبَنها وأُتخموا بلحمها، وسمنوا بسمومها؟ وهل هذا يسمى حوار أفكار، أم تجنيد أنصار؟!
في إطار المقترحات في (حرب الأفكار) أيضاً، كان مدير الاتصالات في البيت الأبيض (تاكر إسكيو) قد وضع خطة لنشر الأفكار والمفاهيم و (القيم) الأمريكية، كُللت وقتها بتأسيس (قناة الحرة) الأمريكية اللاكنة بالعربية، وكذلك (إذاعة سوا) من أجل مخاطبة العرب بألسنةٍ أمريكية ناطقة بالعربية.
وقد قال (تاكر) عند تأسيسه لهذه الوسائل الحربية الفكرية: (إننا نملك المال، ونملك الخبرة، ونملك الأفكار، ولن يستطيع أحد أن يقف أمامنا) .
لكن التجربة أثبتت أن الأمريكيين وإن كانوا يملكون المال والخبرة، فإنهم لا يملكون الحكمة والفكرة، ولذلك ظلت وسائلهم فاشلة، ولم تجذب إلا المجاذيب، ولم تفتن إلا المفتونين الذين يصدقون دعايات أمريكا في مزاعم الحرية والديموقراطية واحترام الإنسان!
إن مئات الملايين من الدولارات التي أُنفقت ولا تزال تُنفق لإطفاء نور الوحي؛ لم تزده إلا وهجاً وضياء؛ فهناك عدد من مراكز الأبحاث المتخصصة في شؤون الشرق الإسلامي المسمى بـ (الشرق الأوسط) مثل مركز (امريكان أنترابرايز) الذي يهيمن عليه المحافظون اليهود الجدد، ومعهد (بروكنجر) ، ومعهد (كارنيجي) ، ومعهد (الشرق الأوسط) الذي يعرِّف منطقة الشرق الأوسط بالأراضي الممتدة من أفغانستان إلى المغرب العربي، وهذه المراكز تُرصَد لها ميزانيات بالملايين سنوياً؛ لأنهم لا ينتظرون منها أرباحاً، إلا إثبات النجاح في اختراق حصوننا، من الداخل أو الخارج!
وقد رُصد لمعهد الشرق الأوسط وحده، ميزانية تصل إلى مليون دولار سنوياً، وهي ميزانية تجيء من أرباح وقفية، وقفتها على ذلك المركز شركات عديدة كبرى مثل: (أرامكو) ، (كوكا كولا) ، (شل) ، (بوينج) ، و (الشركة الكويتية للنفط) ، ويرأس المعهد (إدوارد ووكر) السفير الأمريكي السابق في (تل أبيب) ومصر، لكنَّ نتائج جهود تلك المراكز تعكس حتى الآن الفشل والخيبة والخذلان. وصدق الله: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ *} [الأنفال: 36] .
- اعترافات الحسرة:
لقد بدؤوا يعترفون بخسارة (حرب الأفكار) مثلما خسروا حرب الحديد والنار، في بقاع عديدة من العالم الإسلامي، وقد اعترف رامسفيلد نفسه ـ مُشعل (حرب الأفكار) ـ في تصريح له في 16 فبراير 2006م، بأن أمريكا تخسر حربها الدعائية والفكرية ضد (المتشددين) الإسلاميين، وأضاف: (ينبغي إيجاد وسائل أخرى بديلة لكسب قلوب وعقول الناس في العالم الإسلامي، حيث نجح المتشددون في تسميم الأفكار عن أمريكا) .
وكذلك أقرَّ تقرير أعدَّته هيئة استشارية تابعة لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) ، أن أمريكا عجزت عن إقناع العالم الإسلامي باستراتيجيتها الدبلوماسية والعسكرية، وهو ما اعتبره التقرير خسارة لما يسمى (حرب الأفكار) ، وقال التقرير الذي قُدم في نوفمبر 2004م: (إنه لا أحد يصدِّق وعود أمريكا عن الحرية والديمقراطية) ، وبين أن تدخلات أمريكا في العديد من بقاع العالم الإسلامي، رفعت من أسهم القوى المناوئة لها.
وقد صرح (مارك جنزبيرج) السفير الأمريكي السابق في المغرب، وأحد الخبراء الأمريكيين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط بأن أمريكا تواجه هزيمة في حرب الأفكار، رغم ضخامة الإمكانات المرصودة لها، وقال في حديث له نشرته صحيفة (الواشنطن بوست) : (نحن نُهزم في حرب الأفكار لسببين: الأول: أننا تركنا الساحة للمتشددين الإسلاميين ليزاحمونا بما عندهم، والثاني: أننا لم نساعد حلفاءنا بالقدر الكافي في مواجهة هؤلاء المتشددين) .
ومؤخراً صدر للبنتاجون تقرير ـ كان سرياً ـ عن نتائج الحرب الأمريكية العالمية على ما تسميه بالإرهاب، اشتمل على انتقادات حادة لإدارة بوش لهذه الحرب، وقد أعد التقرير (المجلس العلمي للدفاع) في البنتاجون، واختص هذا التقرير بوضع تصور عن كيفية كسب حرب الأفكار ضد ما أسماه: (الجماعات المعادية لأمريكا) ، ونصت خلاصة التقرير على ضرورة العمل على إجراء تحول في الاتصالات الاستراتيجية للولايات المتحدة بعد أن فشلت في إيصال رسالتها في الداخل والخارج عن أهمية الحرب على الإرهاب، وبدأت تخسر معركة الأفكار أيضاً. وأكد التقرير على أن أساليب إدارة بوش كانت فاشلة في إدارة تلك الحرب بشِقَّيْها العسكري والفكري، وأشار إلى أن جموع الشعوب الإسلامية لا تكره أمريكا لذاتها، ولا تكره الحرية التي تنادي بها؛ ولكنها تكره سياستها التي يحركها بوش وفريقه منذ بداية الألفية الثالثة، وعبَّر التقرير أيضاً عن القلق من حالة الارتباك الحادة التي وضعت أمريكا نفسها فيها عندما سلكت تكتيكات خاطئة لمحاربة الإرهاب، تسببت في الوصول إلى خلل جسيم في استراتيجية تلك الحرب، وجاء فيه: (إن الولايات المتحدة قد تورطت في صراع عالمي بين الأجيال بشأن المعتقدات والأفكار، لم يعد قاصراً على مواجهة بين الإسلام والغرب فقط، بل بين الغرب وبقية العالم. ولأجل كسب هذه المعركة العالمية الخاصة بالأفكار ينبغي اعتماد سياسة جديدة للعلاقات تعتمد على التعامل مع الواقع كما هو على الأرض، لا كما يريد ساسة أمريكا) .
لكن مع تلك الهزيمة التي تبدو جسيمة في هذه الحرب الفكرية، قياساً بما رُصد لها من إمكانات، وما رُسم لها من توقعات، فلا يزال هناك إصرار وعناد على مواصلة (حرب الأفكار) ولو بأساليب أُخرى.
وقد صدر في فبراير من العام الماضي، التقرير الدوري للبنتاجون ـ والذي (يصدر كل أربع سنوات) ـ كُشف فيه عن أن الحرب ضد (الإرهاب) بشِقَّيْها: الفكري والعسكري هي حرب طويلة، وأنها يمكن أن تستمر لثلاثين عاماً أخرى، وأنها تمثل المرتكز الأكبر في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لسنوات عديدة قادمة، وأكَّد التقرير على أن العالم كله هو ساحة تلك الحرب، وليس بلداً واحداً، أو قارةً بعينها. وفي منتصف عام 2006م صدر كتاب بعنوان: (الخطوات العشر لإنزال الهزيمة بالإرهاب العالمي) من تأليف (هارلان أُولمان) كبير المستشارين في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية بواشنطن وصاحب استراتيجية (الصدمة والذهول) التي أشار بها في غزو العراق، والتي حوَّلها إلى كتاب بالعنوان ذاته، وقد ركَّز ضمن خُطُواته العشر على أهمية الاستمرار في (حرب الأفكار) باعتبارها الحل الوحيد لتجاوز التحدي الناشئ عن توليد المبادئ الإسلامية لأجيال جهادية جديدة، في ساحات جديدة لا يمكن احتواؤها، ولا اختراقها بسهولة.
- عولمة حرب الأفكار:
في محاولة للتغطية على الفشل المتصاعد في مخططات وخطوات حرب الأفكار، لجأت الولايات المتحدة إلى محاولة عولمتها بدلاً من الاكتفاء بأمركتها؛ حيث اتجهت في الآونة الأخيرة إلى تقسيم الساحة الدولية إلى قسمين: قسم: يمثل (القيم) الغربية، وقسم: يمثل القيم الإسلامية، مثلما كان حال تقسيم العالم إبَّان الحرب الباردة إلى عالمين: (شيوعي ورأسمالي) . والواضح أن هناك محاولة لتشكيل تكتل فكري غربي ضد العالم الإسلامي على غرار التكتلات الاقتصادية والتحالفات العسكرية، وقد أطلق بوش الأرعن أيضاً شرارة هذا الشر، ورفع شارته عندما تحدث في شهر مايو عام 2006م، عن خطر ما أسماه (الفاشية الإسلامية) ، حيث اعتبرها وريثة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والشيوعية الروسية التي كافحها العالم الرأسمالي خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، إلى حين سقوط الاتحاد السوفييتي، وبعدها ذكر بوش ما وصفه بـ (الفاشية الإسلامية) ست مرات خلال ثلاثة أسابيع في خطبه وتصريحاته، قبل انتخابات التجديد النصفي لعام 2006م، حيث كانت عينه وعين نائبه (ديك تشيني) على فوز حزبهما في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2008م، والتي تمنيا لو يفوز فيها مرشح الجمهوريين لاستكمال ما بدأه تحالف الإنجيليين واليهود المحافظين.
وقد تحدث بوش في كلمته التي تكلم فيها عن ما أسماه (الفاشية الإسلامية) عن ضرورة حشد العالم في مواجهتها؛ لأنها ـ كما قال ـ: (تجسد عدداُ هائلاً ممتداً في أنحاء العالم، يمثل خطراُ أشد من خطر موسوليني وهتلر وستالين معاُ) !
يعتبر المنظرون الفكريون في إدارة بوش أن (الفاشية الإسلامية) تشمل السنة والشيعة معاً، وخاصة أن إيران برهنت على عدائها عندما شنت هجوماً على (الدولة العبرية) من خلال أنصارها في لبنان صيف 2006م. وهو ما يدل في نظرهم على أن الخطر الإسلامي يتحول من خطر مجموعة من الحركات والنخب الفكرية إلى خطر أنظمة وحكومات تحمل فكر العداء والحرب ضد مطامح الغرب.
ويهدف ترويج مصطلح الفاشية الإسلامية إلى إقناع الأمريكيين والعالم بوجود خطر كبير، يستدعي ضرورة البقاء العسكري في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، وضرورة استمرار الحرب العالمية على (الإرهاب) بشِقَّيْها: العسكري والفكري.
- نقاط للتأمل:
- حرب الأفكار التي تشنها الولايات المتحدة وحُلفاؤها، هي في النهاية حربٌ لحساب الفكر الليبرالي الرأسمالي، الذي انتهى إليه نصارى الغرب بعد ثورتهم على الدين، وتعتبر (الليبرالية الأمريكية الجديدة) آخر صيغ هذا الفكر الذي يقوم على الترويج له في بلادنا تيار (الليبراليين الجدد) .
- الفكر الليبرالي مع تحلله من الثوابت والعقائد، إلا أن انحداره من خلفيات عقائدية، يهودية ونصرانية منحرفة، جعل معركته مع الإسلام ذات خلفيات دينية وهذا يُفسره تشبث كثير من المتنفذين السياسيين الغربيين بشعارات الدين، رغم علْمانيتهم وليبراليتهم.
- حرب الأفكار ـ بناءً على ما سبق ـ هي تسمية أُخرى لصراع الثقافات، الذي يظهر أنه قد بدأ قبل (صراع الحضارات) الذي بشَّر به أو دعا إليه المفكر اليهودي (صمويل هنتجتون) ، والذي سمَّاه المفكر الفلسطيني (إدوارد سعيد) بـ (صراع الأُصوليات) . وبما أنَّ الأُصوليات، هي خُلاصات العقائد، فإنَّ الصراع يتمحض مع الوقت بين العقائد الباطلة كلِّها، والعقيدة الإسلامية الصحيحة.
- الصراع بين الصحيح والمحرَّف من العقائد، هو جوهر (حرب الأفكار) الراهنة، والإسلام (غير المحرَّف) يُمثله في أنصع صورةٍ منهج أهل السنة والجماعة، ولهذا فإن حَمَلة هذا المنهج هم المستهدفون الأوائل في حرب الأفكار، مرةً باسم الأُصوليين، ومرةً باسم السلفيين، ومرةً ثالثة باسم الوهابيين، ولهذا نجد تقارير (معهد راند) وغيرها، تصبُّ في اتجاه تجييش العالم بكُفاره ومنافقيه ومرتديه ومبتدعيه ضدَّ أنصار هذا المنهج، الذي يمثل الدين الصحيح.
- (حرب الأفكار) تعكس شمول المواجهة مع أمة الإسلام، وكما يحشد الغرب لحروبه العسكرية الجيوش والمعدات والإمكانيات، فإنه يجهز لحروبه الفكرية جهود العشرات من مراكز التفكير ومعاهد الأبحاث، مستدعياً تجاربه التاريخية ـ وبخاصةٍ مع الشيوعية ـ ومحاولاً في الوقت ذاته تجنيد طابور خامس من المرتزقة الفكريين في بلاد العرب والمسلمين، بحيث يكونون رديفاً لجيش الباحثين والمفكرين في تلك المراكز الفكرية الغربية، ولعل تقرير (مؤسسة راند) الأخير، عن إنشاء شبكات أو جماعات لتيار (الإسلام المعتدل) أو (الإسلام العلماني) ، يؤكد هذا التوجه.
- مع كل ما يبدو من إشاراتٍ على الهزيمة الأمريكية والغربية في (حرب الأفكار) فإنَّ هذا لا ينبغي أن يصرفنا عن استشعار خطرها، والاستمرار في تطوير الأساليب للتصدي لها، باعتبارها أدقَّ وأخطر من الحرب العسكرية؛ لأن حرب الأفكار بالمعنى الذي سبق استعراضه، هي حرب باردة جديدة، وهي أخطر من الحروب الساخنة؛ لأنها تستهدف ما في العقول والقلوب، بينما تستهدف الأُخرى ما تحت الأيدي والأرجل، ولأن الحروب الساخنة يمكن أن تتوقف أو تبرد، ولكن صراع الفكر والمناهج، يظل مستعراً.
والذي نعتقده، أنَّ الإسلام العظيم، عظمته ذاتية، ولذلك فإنه يسجل بخلوص الولاء له أمجادًا لأهله وحامليه، كما يسجل انتصارات ومعجزات عسكرية ـ بإذن الله ـ بأدنى الإمكانات المادية المستطاعة، كالذي هو حاصلٌ في العراق وأفغانستان وغيرهما، وبدون سندٍ ولا مددٍ لأنصاره إلا من الولي النصير سبحانه؛ فإنه سوف يحرز انتصارات أُخرى مماثلة في (حرب الأفكار) بعونٍ من الواحد القهار، مكور الليل على النهار.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . [يوسف: 21]