مجله البيان (صفحة 5969)

من آحكام الحرب في الإسلام

د. عثمان جمعة ضميرية (*)

- المقدمة:

التطور التاريخي للعلاقات الدولية:

للأمم في علاقاتها مع غيرها قواعد مرعيَّة ومبادئ تعارفت عليها منذ العصور الغابرة، وعليها أقامت أساس العلاقات في حالَيِ السلم والحرب حتى قال مونتسكيو: (ما من أمة من الأمم إلا ولها في حقوق الدول نظام، حتى قبائل إركوا ـ في أمريكا الشمالية ـ الذين يأكلون أسراهم لهم نظام من هذا القبيل؛ فإنهم يرسلون رسُلهم، ويستقبلون رسل غيرهم، ويعرفون أحكام السلم والحرب. ولكن من سوء أمرهم أنَّ نظام حقوقهم غير مبنيٍّ على الصحيح من الأصول) (?) .

فالعلاقات الدولية والقانون الدولي ثمرة المساعي المشتركة التي تقوم بها الشعوب وتتعاقب عليها الأجيال. وقد نشأت هذه القواعد بنشأة الجماعات الإنسانية ذاتها، وقبل أن تكتسب صفة «الدولة» كما يعرفها القانون الدولي الحديث، الذي لا يتجاوز عمره أربعة قرون، منذ أواسط القرن السابع عشر الميلادي على إثر المنازعات الأوروبية التي انتهت بإبرام معاهدة وستفاليا سنة (1648م) التي تعتبر فاتحةَ عهدٍ جديد للعلاقات الدولية والنقطةَ التي يبدأ عندها تاريخ القانون الدولي في وضعه الحالي، حيث نشأ ـ في الأصل ـ في أوروبا ثمَّ امتدَّ سلطانه خارجها إلى الدول التي اعتنقت المدنية الأوروبية. ثم أصبح قانوناً عالمياً دولياً حيث اتسعت دائرة العضوية في الهيئة الدولية، ولكنه عاد إلى العنصرية والديكتاتورية التي نجد بذرتها في نظام أهم مؤسسات المنظمة الدولية وهو (مجلس الأمن) وطريقة تشكيله واتخاذ قراراته؛ علاوة على أهم خصائصه في قيامه على القوة والمصلحة الذاتيَّة والأنانية المفْرِطة.

الإسلام والقانون الدولي:

وقد اهتمَّ علماءُ الإسلام غايةَ الاهتمام بالبحث والتصنيف في العلاقات الدولية أو القانون الدولي العام والقانون الدولي الخاص وسائر فروع القانون العام فيما كتبوه عن الجهاد والمغازي وعلم السِّيَر. وحسبنا شاهد واحد على ذلك وهو كتابات (الإمام محمد بن الحسن الشيباني) الذي كان له فضل السبق في تأسيس هذا العلم، وقد اعترف المنصفون من الغربيين بأنه (أبو القانون الدولي) في العالم كله، قبل أن يأتي العالم الهولندي (غروسيوس) وغيره ممن عرفوا بـ (آباء القانون الدولي) بسبعة قرون. وتجدر الإشارة إلى تأثير (الإمام محمد) في (غروسيوس) الذي عاش مدة في القسطنطينية عاصمة الدولة العثمانية التي كانت تتبنى المذهب الحنفي فقهياً.

وهذا يقف شاهداً عدلاً على أنَّ الإسلام لم يغادرْ جانباً من جوانب الحياة إلا وقد نظَّمه أروعَ تنظيمٍ، ووضعه في مكانه من البنيان الإسلاميِّ العظيم، وأبان عن حكمه وحكمته؛ فأقام قواعدَ الحقِّ والعدلِ في دعوةٍ عامة للناس جميعاً، تحقِّق للإنسان كرامتَه وإنسانيَّتَه، وتحفظ له حقوقَه في حال السِّلم وفي حال الحرب.

مفهوم القانون الدولي الإنساني:

ابتكر تعبير (القانون الدولي الإنساني) القانونيُّ المشهور (ماكس هبر) الرئيس الأسبق للَّجنة الدولية للصليب الأحمر، ولم يلبث أن تبناه معظم القانونيين.

وهو فرع من فروع القانون الدولي العام، يتكون من القواعد الخاصة بحقوق الإنسان واحترام آدميته. ويقصد به في نظر اللجنة الدولية للصليب الأحمر: (القواعد الاتفاقية أو العرفية المنشأ التي تستهدف على وجه التحديد: تسوية المشكلات الإنسانية المترتبة مباشرة على النزاعات المسلحة الدولية أو غير الدولية، والتي تقيِّد - لأسباب إنسانية - حقَّ أطراف النزاع في استخدام سبل ووسائل الحرب محل اختيارها، أو التي تحمي الممتلكات والأشخاص المتضررين أو المحتمل تضررهم من النزاع) .

وعرّفته محكمة العدل الدولية بأنه: (فرع من القانون يتضمن القواعد المتصلة بتسيير الأعمال العدائية، وكذلك القواعد التي تحمي الأشخاص الخاضعين لسلطة الطرف الخصم) .

وعرَّفه بعضهم بأنه: (مجموعة قواعد القانون الدولي التي تهدف في حالات النزاع المسلح حماية الأشخاص أو المصابين من جرّاء هذا النزاع. وفي إطار واسع: حماية الأعيان التي ليس لها علاقة مباشرة بالعملية العسكرية) . ويشتمل هذا التعريف على عنصرين أساسيين: حماية الفرد، وحماية الأعيان (?) .

القواعد العليا في قانون القتال:

يتكون قانون القتال من القواعد العامة والخاصة التي تحكم سلوك الدول المتحاربة. وترجع هذه القواعد إلى قاعدة (الضرورة) . وإذا كانت الحرب نفسها ضرورة اجتماعية، فإنَّ هذه الضرورة تقدر بقدرها وتقيَّد بعدم العدوان والتجاوز.

ويقصد بالضرورة الحربية: الوسائل التي تؤدي إلى التسليم الكامل أو الجزئي من قِبَل العدو بأسرع وقت ممكن وبطرق القهر المنظمة التي لا تتعارض مع القانون أو العرف، وما زاد عن تلك الوسائل فهو محرَّم؛ لأنه خارج عن الضرورة الحربية.

ويتناول هذا البحث أهم تلك القواعد والأحكام الفقهية الشرعية المتعلقة بذلك في أربعة مباحث:

- المبحث الأول:

التمييز بين المقاتِلين وغير المقاتِلين:

أولاً: القاعدة العامة:

أرسى الإسلامُ القاعدة الأساسيةَ في التفرقة بين المقاتلين من الأعداء الذين تُوَجَّه إليهم الأعمال الحربية فيحلّ قتلهم، وغير المقاتلين الذين لا توجَّه إليهم الحرب فلا يحل قتلهم، فقصر القتال على الذين يقاتلون حقيقة أو حكماً، وهم العسكريون ومَنْ في حكمهم، ومَنَعَ مِنْ قَصْدِ قتلِ المدنيين الذين لا يشتركون في القتال؛ وإن كانوا جميعاً يشتركون في صفة العداء للمسلمين.

والعمدة في أحكام من يجوز قتلهم في الحرب ومن لا يجوز هي ـ مع الأحاديث الصحيحة الكثيرة الخاصة بأصناف منهم ـ وصيةُ أبي بكر الصديق لـ (يزيد بن أبي سفيان) لما بعثه على أحد الجيوش، ولذلك يحسُن إثباتها كاملة بنصِّها، وهي تجمع أصناف غير المقاتلين، وتبين مدى مشروعية بعض أعمال العنف والإغاظة في الحرب:

عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: بعث أبو بكرٍ الصديقُ يزيدَ بنَ أبي سفيان على جيشٍ، فخرج معه يمشي وهو يوصيه، فقال: يا خليفة رسول الله! أنا الراكب وأنت الماشي؛ فإمّا أن تركب وإمّا أن أنزل. فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: ما أنا بالذي أركب ولا أنت بالذي تنزل؛ إني أحتسب خُطاي هذه في سبيل الله. ثمَّ قال: إني موصيك بعشرٍ فاحفظهنَّ:

1 ـ إنك ستلقى أقواماً زعموا أنهم قد فرَّغوا أنفسهم لله في الصوامع، فَذَرْهُمْ وما فرَّغوا أنفسهم له.

2 ـ وستلقى أقواماً قد حلقوا أوساط رؤوسهم من الشَّعر، فافلقوها بالسيف,

3 ـ ولا تَقْتُلَنَّ مولوداً.

4 ـ ولا امرأة.

5 ـ ولا شيخاً كبيراً (هَرِماً) .

6 ـ ولا تَقْطَعَنَّ شجراً بدا ثمره إلا لنفع. إلا شجراً يمنعكم قتالاً، أو يحجز بينكم وبين المشركين.

7 ـ ولا تَحْرِقَنَّ نحلاً.

8 ـ ولا تخربنّ عامراً، ولا تغرقن نخلاً ولا تحرقنَّه.

9 ـ ولا تَذْبحنَّ بعيراً أو بقرة ولا شاة، ولا ما سوى ذلك من المواشي إلا لأكلٍ.

10 - ولا تهدموا بيعة (?) .

وفيما يلي بيان للأصناف الذين لا يجوز قتلهم في الجهاد؛ لأنهم غير مقاتلين، فهم يتمتعون بالحماية من القتل، ما لم يوجد سبب يبيح قتلهم كما سيأتي:

1 ـ النساء: لا ينبغي أن يقتل النساء في الحرب؛ لقوله ـ تعالى ـ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] والنساء لا يقاتِلْنَ، أو ليس من شأنهنَّ القتال. وقد أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا لما رأى امرأة مقتولة في إحدى المغازي فقال: (ما كانت هذه تقاتِل! أدركْ خالداً فقل له: لا تَقْتُلُنَّ ذريَّةً ولا عسيفاً) (?) .

واتفق الفقهاء على أنه لا يجوز قتل النساء في حرب ولا في غيرها إلا أن يقاتلن حقيقة أو حكماً، فيكون عندئذ لا منجا منهنَّ إلا بقتلهن، فيجوز قتلهن مقبلات لا مدبرات. ومن هذا يُعلَم حكم النساء اللائي يشتركن في القتال في جيوش الأعداء؛ حيث تجنّد بعض الدول النساء كما تفعل أمريكا وإسرائيل وغيرهما، فيشتركن في القتال اشتراكاً حقيقياً يبيح للمسلمين قتلهن.

2 ـ الصبيان: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الصبيان أو الذرية؛ فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوصي أمراء الأجناد بتقوى الله، ويوصيهم بمن معهم من المسلمين خيراً، ويقول: «لا تقتلوا امرأة ولا وليداً» وفي رواية: «ولا تقتلوا الولدان» (?) .

3 ـ الرهبان وأصحاب الصوامع: ولا يُقتل الرهبان ورجال الدين الذين انقطعوا عن الناس في الصوامع؛ بحيث لا يقاتِلون ولا يساعِدون في القتال، وهم أول من أوصى أبو بكر الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بعدم قتلهم (?) .

4 ـ الشيوخ (كبار السن) : الشيوخ قسمان:

(أحدهما) : الشيخ الفاني وهو من كبرت سنُّه فأصبح غير قادر على القتال ولا التحريض عليه، أو خرف عقله وزال فأصبح لا يعقل؛ فهو في حكم المجنون. وهذا القسم لا يحل قتله، لحديث بريدة؛ قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية يقول: «لا تقتلوا شيخاً كبيراً» (?) .

(والقسم الثاني) : الشيخ الكامل العقل الذي له رأي في الحرب أو يقدر على القتال أو التحريض عليه. وهذا يجوز قتله؛ فقد روي أن رَبِيعَةَ بن رُفَيْعٍ السُّلَمي ـ رضي الله عنه ـ أدرك دُرَيْدَ بن الصّمَّة يوم حنين وهو شيخ كبير، فقتله ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ لأنه كان ذا رأي في الحرب (?) .

5 ـ الزَّمْنَى أو أصحاب العاهات: لا يجوز قتل أصحاب الأعذار من العميان والزَّمْنَى أصحاب العاهات كالمقعدين ومقطوعي الأيدي والأرجل من خلاف، والمشلول، إذا لم يكن لهم رأي ولا تدبير في الحرب؛ لأن المبيح للقتل هو المقاتلة، وهؤلاء لا يتحقق منهم القتال ولا يقدرون على ذلك، ولا نكاية منهم للمسلمين. وكذلك لا يُقتل المجنون؛ لأنه غير مكلَّف، إلا أن يكون واحدٌ من هؤلاء يقاتل؛ فلا خلاف في أنه يُقتل عندئذ؛ لأنه يباشر القتال ويشترك فيه (?) .

6 ـ العُمال والفلاحون: جاءت النصوص بمنع قتل العُسَفاء (?) والفلاحين؛ فقد تقدم حديث رباح بن الربيع: «لا تقتلن ذرية ولا عسيفاً» ، وأَثَرُ زيد بن وهب في كتاب عمر: «واتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب» (?) .

7 ـ حكم قتل الأقارب: يراعي الإسلام النواحي النفسية والإنسانية ويُعْلي من شأنها في العلاقات الدولية وغيرها؛ ولذلك نجد الفقهاء يتناولون هذه الجوانب بالبحث، ومن ذلك حكم قتل المسلم لقريبه المشرك في الجهاد.

ويحكم هذه المسألةَ قاعدةٌ عامةٌ هي: تحريمُ قصدِ قتل الأصل المشرك وإن علا من أي جهة كان - كالأب والجد - أو البدء بقتله، وجواز البدء بقتل سائر الأقارب المشركين من الأرحام وغيرهم، وقتل الأب لابنه في الجهاد.

ويدل على ذلك أن حنظلة بن أبي عامر، وعبد الله بن أُبَيٍّ ـ رضي الله عنهما ـ استأذنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبويهما فنهاهما (?) . وقد كان أبو عامر مشركاً محارباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابنُ أُبيّ منافقاً بيِّنَ النفاق، قد شهد الله ـ تعالى ـ بكفره.

وأما الاستثناء من القاعدة فهو يشمل حالتين: إحداهما: حال الاضطرار، بأن يقصد الأبُ قتلَ ابنه ولا مخلص للابن إلا بقتل أبيه. والثانية: أن يسمع الابن أباه يسبّ الرب ـ سبحانه ـ أو النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد روى مالك بن عمير قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال: يا رسول الله! إني لقيت العدوَّ، ولقيت أبي فيهم، فسمعت منه لك مقالة قبيحة فطعنتُه بالرمح فقتلتُه. فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثمَّ جاء آخر فقال: يا نبي الله! إني لقيت أبي فتركته وأحببتُ أن يليه غيري. فسكت عنه (?) .

8 ـ حكم قتل الرسل والسفراء: وقد نصَّ بعض العلماء على أنه لا يوقع على الرسل والسفراء عقوبة القتل، ولذلك لا يُقتلون في الحرب؛ لأن الرسل آمنون حتى يبلّغوا الرسالة؛ فقد قال الشافعية: ويقتل كل كافرٍ إلا الرسل، حتى وإن كان معهم كتابٌ بتهديد أو قولٌ بتهديد (?) .

ثانياً: الاستثناء من القاعدة العامة في قتل غير المقاتلين:

تلكم هي القاعدة العامة فيمن لا يجوز قتلهم أثناء القتال، ويَرِدُ على هذه القاعدة ـ باتفاق العلماء ـ استثناء يشمل ثلاث حالات يجوز فيها قتل غير المقاتلين، وهي:

1 ـ حال اشتراك واحد من هؤلاء الأصناف في القتال حقيقةً بالمباشرة للقتال، أو حكماً بالرأي والمعاونة.

2 ـ حال الإغارة على العدو وتبييتهم بالإغارة عليهم ليلاً؛ بحيث لا يتميز المقاتلون منهم من غير المقاتلين.

3 ـ حال تترُّس الأعداء بمن لا يجوز قصدهم بالقتل أثناء الحرب (?) .

مقارنة: وشتان بين تلك الأحكام الإسلامية وبين ما فعله أعداء المسلمين منذ العهود الغابرة إلى عهدنا هذا، من عهد جنكيز خان وهجوم المغول والتتار على الخلافة الإسلامية، مما لا يزال يذكر إلى الآن حتى ذهب مثلاً في القسوة والهمجية والوحشية.

وفي عصرنا الحاضر؛ إن ما يأتيه أدعياء الحضارة وحقوق الإنسان والسّلم الدولي والنظام العالمي الجديد … لمما تتضاءل أمامه أفعال جنكيز خان وأحفاده، ولا يزال التاريخ يذكر قنبلتي ناغازاكي وهيروشيما في الحرب العالمية الثانية، وقنابل النابالم في عدوان اليهود على العرب المسلمين في فلسطين المحتلة وغيرها من البلاد التي تخضع للاحتلال. وقد أثبتت تجارب الحرب العالمية الأولى أن المدنيين من النساء والأطفال كانوا هم الغالبية الساحقة من ضحايا الغارات الجوية؛ فقد بلغ عدد ضحايا المدنيين 5% وأصبح في الحرب العالمية الثانية 48% ثمَّ ارتفع في الحرب الكورية إلى 84%. وعرفت الحرب العالمية الثانية القذف بالقنابل من الجو بغير تمييز للمدن ومراكز الصناعة. وإذا استُعملت الأسلحة الجرثومية فسوف تزداد نسبة الضحايا المدنيين وقد يشكلون 90%. واليوم نجد أمثلة كثيرة وشواهد حية تدل على ذلك (?) .

- المبحث الثاني:

مدى مشروعية وسائل العنف وأعمال الإغاظة:

أولاً: وسائل العنف:

يجوز القيام بالأعمال التي تؤدي إلى التسليم بأسرع وقت لإنهاء القتال، بأن يحرِّقوا حصون الأعداء بالنار، وأن يرسلوا عليهم الماء ليغرقوهم أو ليغرقوا بساتينهم وحصونهم. ولا بأس أن ينصبوا عليهم المدافع، وأن يرموهم بالطائرات ونحوها، وأن يقطعوا عنهم الماء، ما داموا ممتنعين في حصونهم، إذا كان المسلمون لا يتمكنون من الظفر بهم بوجه آخر (?) .

والدليل على مشروعية تلك الأفعال من القرآن الكريم قول الله ـ تعالى ـ: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] .

ومن السنة النبوية ما رواه أسامة بن زيد قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قرية يقال لها أُبْنَى، فقال: «ائتها صباحاً ثمَّ حرِّق» (?) .

وفي هذا كلِّه نَيْلٌ من العدو، وهو سبب اكتساب الثواب، كما أن حرمة الأموال تابعة لحرمة أصحابها، ولا حرمة لأنفسهم حتى إنهم ليُقتلون؛ فكيف تكون الحرمة لأموالهم؟ (?) .

ثانياً: أنواع الأسلحة الحربية:

يجوز أيضاً استخدام الأسلحة التي تؤدي إلى سرعة التسليم في الحرب والظفر بالعدو تقصيراً لأمد القتال. ومما يتصل بهذه الأسلحة: القتل بالتدخين: فلا بأس بذلك، إلا أنهم لو قدروا على قتل المشركين الذين فيها بغير تدخين؛ فالأوْلى لهم ألا يدخنوا، وإن لم يقدروا على ذلك إلا بالتدخين فلا بأس بذلك.

ولعل هذه الأمثلة عن الأسلحة التي يجوز استخدامها في الجهاد تبين لنا مدى مشروعية استخدام الأسلحة الحديثة من أسلحة التدمير الشامل التي تصيب غير المحاربين وقد تدمر المباني والمنشآت، وقد يكون لبعضها تأثير على الإنسان دون المنشآت والمباني (?) .

ثالثاً: أعمال الإغاظة والتخريب:

يجوز القيام بكل ما فيه إغاظة وكبت للأعداء في الحرب، كتحريق الأشجار والزروع وإتلافها؛ فلو حاصر المسلمون أهلَ حصنٍ فلا بأس بقطع أشجارهم ونخيلهم وتحريق ذلك، لكسر شوكتهم، دون أن يكون القصد من ذلك التخريب والإفساد، لمجرد الفساد؛ فإنه عندئذ غير جائز؛ لأن الله ـ تعالى ـ قد نهى عن الفساد في الأرض.

ويدل على هذا: القرآن الكريم، والسنة النبوية والسيرة المطهرة، والأدلة العقلية والقياس:

1 - قال الله ـ تعالى ـ: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] .

2 ـ ونزول الآية في قصة بني النضير، لما حاصرهم بعد أن غدروا، وقد أمر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بقطع النخيل فقطعت، فقال بعضهم لبعض: ليس لنا مقام بعد النخيل. فنادوه: يا أبا القاسم! قد كنت تنهى عن الفساد؛ فما للنخيل تُقْطَع وتحرق؟ أتؤمِّننا على دمائنا وذرارينا وعلى ما حملت الإبل إلا السلاح؟ قال: نعم! ففتحوا الحصون، وأجلاهم على ما وقع الصلح عليه (?) .

3 ـ ومن العقل والقياس: أنه لما جاز قتل النفوس ـ وهي أعظم حرمة من هذه الأشجار والأموال ـ لكسر شوكتهم، فما دونه من تخريب البنيان وقطع الأشجار ونحو ذلك، أَوْلى بالجواز (?) .

استثناء من حالات التخريب وقطع الأشجار:

هناك حالات تعتبر استثناء من هذه القاعدة أو قيداً عليها، تمنع من أعمال التدمير والعنف، وهي:

أـ أن يكون في ذلك تفويت مصلحةٍ حربية للمسلمين، أو إلحاق ضرر بهم.

ب ـ أن يكون في ذلك إخلال بشرط في معاهدة بين المسلمين والمشركين.

ج ـ أن يكون هناك وسيلة للظفر بهم والتغلب عليهم دون اللجوء إلى تلك الأعمال.

مذاهب العلماء في أعمال الإغاظة:

ويمكن أن نرجع المذاهب والآراء في حكم هذه المسألة إلى مذهبين اثنين:

(الأول) : مذهب جماهير العلماء الذين قالوا بمشروعية أعمال الإغاظة والتخريب للضرورة وعند الحاجة.

و (الثاني) : مذهب الإمام الأوْزَاعِيِّ عالم أهل الشام الذي قال بالمنع من ذلك في المشهور عنه. وهو أيضاً: مذهب الإمام اللَّيْثِ بنِ سعدٍ فقيه أهل مصر، وأبي ثور، خالد بن إبراهيم الكلبي البغدادي (?) .

تعقيب وترجيح:

وتعقيباً على الرأيين في هذه المسألة، لا نجد تعارضاً حقيقياً بينهما، بملاحظة ما يلي:

1 ـ إن القاعدة العامة هي عدم اللجوء إلى أعمال الإغاظة إلا للضرورة وتحقيقاً للمصلحة، إذا تعيَّن ذلك طريقاً للظفر بالأعداء، أو غلب على الظن أنهم لا يؤخذون بغير ذلك.

2 ـ إن كلام الجمهور ينصبُّ على الجواز لا الوجوب، فيجوز الفعل كما يجوز الترك؛ فهم لم يوجبوا ذلك.

3 ـ كما يلتقي المذهبان في أن ما فيه ضرر بالمسلمين يمكن إزالته بذلك، فيجوز فعله عندئذ.

4 ـ ويلتقيان أيضاً في أن كلاً منهما لا يهدف من وراء هذه الأعمال شيئاً من الإفساد أو التخريب لذاته. وكلاهما يسعى إلى بثِّ الخير والفضيلة وعمارة الأرض.

مقارنة: وهذه القاعدة لم تكن أوروبا تعرفها حتى في أزهى عصور القانون عندها، ولا كانت جيوشها لتتورع عن إتلاف وتخريب كل ما تجد في سبيلها مما يتيسر لها نهبه. والأمثلة على هذا كثيرة تعزّ على الحصر، حسبنا أن نذكر هنا ما كتبه مؤرخ الحروب الصليبية رئيس أساقفة صور (وليم الصوري) حيث قال: (اعتقد الملك بلدوين ونبلاء المملكة ـ بدون سبب واضح ـ أن الفرصة المرغوبة منذ زمن طويل لإلحاق الضرر بالعدو ـ المسلمين ـ قد حلَّت ... فمرُّوا خلال بلاد حوران ـ في جنوب سورية ـ وشقُّوا طريقهم نحو مدينة درعا المشهورة الآهلة بالسكان واجتاحوا المنطقة من هناك، ودمَّروا جزءاً كبيراً من المواقع النائية المعروفة باسم (القصور) حيث حرقوا هذه المواقع أو خرَّبوها بكل وسيلة ممكنة ... وحرّقوا ودمَّروا بطريقة أو بأخرى المحاصيلَ ومستلزمات الحياة الأخرى. ولما كانت الحبوب لا تحرق بسهولة لأنها لا تشتعل وحدها، وتعذر إلى حدٍّ كبير إلحاق الضرر بالبيادر باستثناء بعثرة الحبوب ونقل بعضها علفاً لدوابِّهم أقبل الجنود الباحثون عن سُبُل إلحاق الضرر بمزج التبن والقشّ مع الحبوب المنظَّفة من قبل حتى يمكن إحراقها بسهولة) (?) .

ولما جاء (جروسيوس) أبو القانون الدولي الأوروبي في القرن السابع عشر، وضع في قواعد الحرب أنه لا يجوز التدمير والإتلاف إلا إذا كان وسيلة سريعة لإخضاع العدو. ثمَّ تتابع علماؤهم على تنقيح هذه النظرية وترويجها، فذكر (فاتيل) أن الأغراض التي يجوز من أجلها الإتلاف ثلاثة:

1 ـ معاقبة شعب همجي لمنعه من أعمال الهمجية.

2 ـ الحدّ من تقدُّم العدو.

3 ـ تمكين الجيش من القيام بأعماله الحربية.

فحاذى بذلك النظرية الإسلامية إلى حدٍّ كبير عمداً أو اتفاقاً؛ فالتخريب والإتلاف لا يتقيد فيه هذا الفاعل بهمجية ولا مدنية، وليس قصر العقاب على الشعوب الهمجية مما يعقل له معنى، ولا هو مما يلتزم في القصاص الدولي، اللهم إلا أن يكون المعنى: أن كل من فعل تخريباً أو إتلافاً فهو شعب همجي. بل لعل هذه ثغرة مقصودة في القانون الدولي لِيَثِبَ منها الأوروبيون الأقوياء على الشعوب الضعيفة المتخلفة، أحراراً من كل قيد باسم إبطال أعمال «الهمجية» زوراً وبهتاناً مما لا يعرفه الإسلام ولا يُقرّه.

فنظرية (فاتيل) أضيق من النظرية الإسلامية. ولكنهم عادوا فاستوفوا ما بقي منها حين قرروا ـ في اتفاقية لاهاي سنة 1899م الخاصة بالحرب البرية ـ أن الإتلاف محرَّم إلا لضرورة حربية. وقد أعيد النص على هذا التحريم في المادة (23) من لائحة الحرب البرية سنة (1907 م) (?) .

- المبحث الثالث:

تحريم المُثْلَة والتَّحريق:

يدعو الإسلام دائماً إلى التمسك بالفضيلة والأخلاق مع الناس جميعاً، سواء في العلاقات بين الآحاد أم بين الجماعات، وسواء في السلم أو الحرب، وأشدّ ما كان يدعو الإسلام إلى ذلك في الجهاد، خشية أن تندفع النفوس في حال احتدام القتال إلى ما يخالف ذلك المبدأ العام، ولذلك جاء تحريم التمثيل بجثث الأعداء في الحرب وتحريقهم.

أولاً: تحريم الْمَثُلة:

وهي قطع بعض الأعضاء أو تسويد الوجه، وشقّ الجوف، ورضخ الرؤوس ونحو ذلك. وقد فرّق الفقهاء بين حالتين:

(الأولى) : حال القتال إذا وقع ذلك قتالاً، كمبارز ضرب فقطع أذنه، ثمَّ ضرب ففقأ عينه ونحو ذلك؛ لأنه أسلوب من أساليب الحرب، وهو أَبْلَغُ في كبت الأعداء ووهنهم، وأضرُّ بهم.

وفي (الثانية) : وهي حال ما بعد القتال أو الانتصار على الأعداء؛ ففي هذه الحالة ينبغي اجتناب الْمَثُلة؛ لأنها محرّمة بنصوص كثيرة:

أـ ففي القرآن الكريم، يأمر الله ـ تعالى ـ بالمعاملة بالمثل، ولكنه لا يجيز هذه المعاملة إذا كان فيها تشويه ومَثُلة؛ فلو أن الأعداء فعلوا ذلك بقتلانا فلا يجوز لنا أن نجاريَهم في ذلك. قال الله ـ تعالى ـ: {وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] .

ب ـ ومن السنة النبوية: حديث سليمان بن بريدة ـ رضي الله عنه ـ: «لا تغلُّوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا» . وعن عِمْرانَ بن الحُصَيْن ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بخطبنا، فيأمرنا بالصدقة وينهانا عن الْمَثُلة» (?) .

ثانياً: قطع الرؤوس:

ومما يتصل بالمثلة، وهو نوع منها: قطْعُ رؤوس الكفار وحَمْلُها إلى الولاة، ونقلها من بلد إلى آخر أو من ناحية إلى أخرى، ما لم يكن في ذلك نكاية بالعدو وردع له. فقد ذُكِر عن عقبة بن عامر الجُهَنِيّ ـ رضي الله عنه ـ أنه قدم على أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ برأس (يَنَاق الَبِطريق) فأنكر ذلك، فقيل له: يا خليفة رسول الله! إنهم يفعلون ذلك بنا. فقال: «فاسْتِنَانٌ بفارس والروم؟ لا يُحْمَل إليّ رأس، إنما يكفي الكتاب والخبر» . وفي رواية: كتب إلى عُمّاله بالشام: «لا تبعثوا إليّ برأس، ولكن يكفيني الكتاب والخبر» (?) .

ثالثاً: التعذيب بالنار:

ومما يتصل بالمثلة أيضاً: التحريق أو التعذيب بالنار، وقد نهى الإسلام عنه أشدَّ النهي، واعتبره اعتداء على حق الإلهية؛ إذ لا يعذّب بالنار إلا ربّ النار، على ما روى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية وقال لهم: «إن قدرتم على فلان فأحرقوه بالنار. وكان قد نخس دابة زينب ـ رضي الله عنها ـ ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أَزْلَقَتْ ـ أي ألقت ولدها قبل تمامه ـ ثمَّ قال: إن قدرتم عليه فاقتلوه ولا تحرقوه؛ فإنما يعذب اللهُ ـ تعالى ـ بالنار» (?) .

مقارنة:

تلكم هي أحكام الإسلام، تجعل الفضيلة والكرامة نُصْبَ عينيها حتى ولو مع الأعداء والحيوانات، فلا يجوز تعذيبها ولا التمثيل بها ولا تحريقها.. بينما حروب العصبيات والتشفي والمطامع التي يعيشها القرن العشرون، تترك آثارها في المحاربين: سَمْلاً للأعين، وقلعاً للأظفار، وجدعاً للأنوف، وقطعاً للآذان والأطراف والأعضاء.. وتشويهاً في الجسم، وقتلاً جماعياً، واعتداء على الأعراض، وانتهاكاً للحرمات. والأمثلة والشواهد على هذا كثيرة تعزّ على الحصر، تجدها في الاعتداء على المسلمين وعلى الأقليات المسلمة في شتى بقاع الدنيا: في الفلبين، والحبشة، وروسيا، والبوسنة والهرسك.. وغيرها كثير.

- المبحث الرابع:

مدى مشروعية الخداع الحربي:

ينفِّر الإسلام أشدَّ التنفير من الغدر ومن كل ما يشبه الغدر؛ سواء في حال السلم أو الحرب، ولكنه يبيح استعمال الحيلة والخداع في الحرب ما لم يكن فيهما ما يتنافى مع الأخلاق الإسلامية.

أولاً: مشروعية وسائل الخداع الحربي:

ترجع إباحة الخداع الحربي إلى أنه يخرج عن مفهوم الغدر، إذ إنه يعمل في مجال أمور متوقعة في كل لحظة، ويمكن توقِّيه باليقظة التامة والعلم بأساليب الحرب. وهو أيضاً من العوامل التي تقصِّر أمد الحرب بأدائها إلى سرعة الاستسلام، فيكون فيه حقن الدماء، وذلك كالإشعار بأن عدد القوات أكثر مما هي في الحقيقة أو أقلّ مما هي في الواقع، لإصابة العدو بالخطأ في الحسبان، وبعثِ العيون والأرصاد، واستعمالِ الألوان والأعلام المضلِّلة (?) .

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحرب خُدْعة» (?) .

ثانياً: التفريق بين الخداع الحربي والأمان:

ويفرق العلماء تفريقاً واضحاً بين الخداع في الحرب باستعمال معاريض الكلام، والأمان الذي لا يجوز فيه الغدر. فالأمان تطمئن إليه نفس الكافر، والخديعة هي تدبير غوامض الحرب بما يوهم العدو الإعراض عنه أو النكول حتى توجد فيه الفرصة؛ فيدخل في الخداع: التورية، والتبييت، والتفريق بينهم، ونصب الكمين، والاستطراد حال القتال (?) .

ولقد بلغ الإسلام شأواً عالياً في الالتزام بالوفاء في استعمال هذه المعاريض والحيل الحربية والخداع، لا يدانيه أحدث القوانين الدولية. ومن روائع الأمثلة في ذلك ما رواه الإمام محمد بن الحسن أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى أحد قادته المحاربين للفرس قال: «بلغني أن رجالاً منكم يطلبون العِلْج (?) حتى إذا فرَّ العلج واشتدَّ في الجبل وامتنع، فيقول له الرجل المسلم: لا تخف! ثمَّ إذا أدركه قتله؛ وإني والله! لا يبلغني أن أحداً فعل ذلك إلا ضربت عنقه» (?) .

مقارنة:

وفي القانون الدولي العام يفرّق الشرَّاح القانونيون بين الحيلة التي تباح في الحرب كتضليل العدو واستدراجه، ومفاجأته بالهجوم ليلاً أو في مواقع لم يكن يتوقع الهجوم منها، وبث الألغام والحُفَر في طريق قوات العدو لتعطيل سيره، ونشر معلومات غير صحيحة عن حركات الجيوش ومواقعها، والحصول على معلومات عن قوات العدو، وبين الخديعة المحظورة التي تنطوي على الغدر كاستعمال علامات التسليم أو إشارات الصليب الأحمر لستر عمليات حربية، إلا أنهم لم يفطنوا إلى ذلك ولم تستيقظ ضمائرهم إلا في هذا العصر منذ اتفاقية لاهاي الرابعة عام 1907م التي قررت أنه ليس للمحاربين أن يختاروا دون ضابط الوسائل التي تضرّ بالعدو والقيود التي ترد على الوسائل، على ما هناك من تجاوزات عند التطبيق العملي؛ فقد لجأت ألمانيا في هجومها المضاد في فرنسا عام 1944 إلى استخدام الزي الرسمي الأمريكي (?) .

- الخاتمة:

وفي ختام هذا البحث تجدر الإشارة إلى الخلاصة أو النتيجة التي ننتهي إليها؛ فإن الحرب في الإسلام لها آداب رائعة، وتنظيم عالٍ، وأحكام ضابطة لسيرها وإدارتها، والقواعد العليا في قانون القتال يحكمها مبدأ الضرورة بضوابطها واستثناءاتها، وقد تناول العلماء ذلك كله بتفصيل واسع أبان عن سموِّ أحكام الإسلام وعدله وإنسانيته.

كما تجدر الإشارة أيضاً إلى بعض المبادئ الإسلامية التي انتقلت إلى الفقه الأوروبي وتأثرت بها بعض القوانين؛ حيث انتقلت إليهم عن طريق نقل الثقافة الإسلامية بواسطة الوافدين إلى المدارس الإسلامية في الأندلس وفي بالرمو، وعن طريق الاحتكاك بسبب عقود الأمان التي تمنحها دار الإسلام للحربيين للمبادلات التجارية ونحوها، وعن طريق الاحتكاك بهم أثناء الحروب الصليبية، ومن ذلك: التمييز بين القانون الدولي (علم السِّيَر) وبين السياسة، ومبدأ الإنسانية في الحرب وإبّان النزاعات المسلحة الداخلية (حروب البغي) ، ومبدأ الضرورة التي تقدر بقدرها في الحرب، والقواعد التي تحكم علاقات وامتيازات السفراء وإقرار المسؤولية الفردية، والاهتمام بالفرد ومخاطبته باعتباره من أشخاص القانون الدولي، وغيرها كثير.

وأخيراً تجدر الإشارة إلى الآمال التي يعلقها القانونيون الغربيون على الجهود الإسلامية في تطوير القانون الدولي وبعث الروح الأخلاقية والإنسانية فيه؛ حيث يرى كثير منهم أن أحكام الشريعة الإسلامية في المسائل الدولية يمكن الاستفادة منها وبخاصة في مجالين رئيسين:

(الأول) : تطوير أحكام القانون الدولي في شأن مركز الفرد فيه، والاعتراف به شخصاً من أشخاص القانون الدولي.

و (المجال الثاني) : إدخال المبادئ الأخلاقية في القانون الدولي.

فالشريعة الإسلامية غنية بالمسائل التي تتصل بهاتين المسألتين (?) .

والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015