د. عبد العظيم محمود حنفي
تركزت نظريات التنمية الغربية على الدولة باعتبارها المحرك الأساسي لعملية التنمية وعليها يقع أكبر العبء في تحقيقها والنهوض بالمجتمع. وسواءً أكانت تلك الدولة أداة في يد الطبقة البرجوازية، أو كانت تعبيراً عن صراع المصالح في المجتمع، أو كانت دولة بروليتاريا؛ فإنها في جميع الأحوال جهاز فوقي يدير المجتمع ويخضع لتفاعلات القوة أكثر من التزامه بقواعد الحق. والخبرة الأوروبية في بواكير نهضتها تؤكد هذا الدور للدولة؛ فهي التي قامت بالغزو والاستعمار سواء المباشر، أو الاستيطاني القائم على التطهير العرقي في الولايات المتحدة وأستراليا وكندا فيما عرف بالكشوف الجغرافية، وقد ساعد ذلك الدول الأوروبية على تحقيق التراكم الرأسمالي اللازم لبدء النهضة الصناعية وما صاحبها من تغيير اقتصادي واجتماعي وسياسي. ثم كان للدولة دور كبير في تأمين الأسواق اللازمة لتصريف المنتجات الأوروبية لتحقيق نمو الصناعة وتطويرها، وكذلك تأمين مصادر المواد الأولية والطاقة الضرورية لسير عجلة التصنيع.
أما في الخبرة الإسلامية فيلاحظ أن مفهوم الدولة ذاته يختلف؛ فالدولة تعني: عهداً سياسياً أو نظاماً حاكماً، ولا تعني الدلالات الأوروبية نفسها التي تشتمل على شعب وحكومة وإقليم؛ وذلك لأنّ الدولة في اللغة العربية مشتقة من التداول والتغير، وفي اللغات الأوروبية من الثبات والاستمرار والديمومة.
وقد قام المجتمع الإسلامي بالدور الأعظم في تحقيق النهوض الحضاري وبناء الأمة؛ حيث لم تكن الدولة سوى جهاز للأمن والجهاد وحماية الثغور، وإقامة العدل، وحماية الفقير والضعيف، وتأمين بعض الخدمات الأساسية كالطرق والبريد. أما باقي الفعاليات فقد كانت تتم من خلال المجتمع الذي مثَّل المُشيِّد الأول للحضارة الإسلامية، ولذلك عندما كانت تضعف الدول وتنهار أو تمر بفترة ركود طويلة، لم يكن هناك انهيار بالدرجة نفسها في المجتمعات الإسلامية؛ وذلك لأنَّ المجتمع كان قوياً محافظاً على ذاته واستمراريته بغض النظر عن قوة الدولة وضعفها.
وقد مثَّل الوقف ـ الذي هو حبس العين، والتصدق بالمنفعة على جهة من جهات البر ابتداءً أو انتهاء، وهو مؤسسة إسلامية لم تعرف قبل الإسلام ـ على مر العصور مصدر الحيوية والفعالية للمجتمع الإسلامي ووسيلة للحفاظ على غايته ومنهجه؛ حيث حقق الوقفُ استقلالَ العالِم في مواجهة السلطان، وحافظ على الكثير من الوظائف مستقلة ومستمرة، مما حافظ على استمرار كثير من القيم الإسلامية في الواقع العملي. وقد وُجِدَت أنواع عديدة من الأوقاف غطّت جميع نواحي الحياة من؛ تعليم، وصحة، ورعاية فقير ومسافر، إلى أوقاف الخدمة ورعاية الحيوانات مثل (وقف مساقي الكلاب) .
كذلك مثَّلت فروض الكفايات محركاً ودافعاً محفزاً للفعل الحضاري؛ لأنَّ فرض الكفاية غير فرض العين؛ إذ هو واجب على المجتمع حتى تقوم فئة تكفي لتحقيق الغاية من الفرض وتؤدي الوظيفة، هنا يسقط الإثم عن الأمة. ولذلك رأى الإمام السيوطي أن للقائم بفرض الكفاية ميزة على القائم بفرض العين؛ لإسقاطه الحرج عن المسلمين كافة. ويشهد العالم المعاصر العديد من صور الأوقاف في العالم الإسلامي لا يستطيع منصف أن ينكر دورها الحيوي في الحفاظ على هوية هذه الأمة وتطورها وتنمية شعوبها، بل إنها تمثِّل في بعض المجتمعات مجال الحيوية الحضارية الوحيد.
وهنا يلاحظ أن المجتمع الإسلامي مثَّل عنصر فعالية موازياً للدولة لم يتأثر كثيراً بضعفها وقوتها، حتى بداية حكم محمد علي باشا لمصر؛ الذي ألغى الفعاليات الاجتماعية كما ألغى الحسبة، وبدأ في تكريس نمط الحكم الذي يعطي الدولةَ الأولويةَ على المجتمع. وظل هذا النمط ينتشر أفقياً على مستوى العالم الإسلامي ويتمدد رأسياً في كل مجتمع، حتى أصبحت الدولة مهيمنة على المجتمع متحكمة في كل فعالياته، واحتكرت لنفسها كل شيء، مما أثقل كاهلها وأضعف قدرتها واستنزف مواردها؛ فكانت الدولة نفسها سبباً في التخلف وعاملاً مؤثراً في استمرار الركود وضعف الفعالية. هذا ناهيك عن كون بعض النُّخَبِ الممثلة للدول العربية المعاصرة متغربة، تتبنى نمطاً ثقافياً مغايراً لثقافة المجتمع؛ فتحولت مرة أخرى إلى مصارع للمجتمع مجهض لفعالياته. والعكس بالعكس؛ فانقسم المجتمع إلى متناقضين يجهض كل منهما فعالية الآخر.
وللخروج من حالة تغوُّل الدولة على المجتمع وتمددها لتحتكر معظم فعالياته التاريخية؛ مما أعجزها عن القيام بتحقيق التنمية أو العمران المحقق لرسالة الاستخلاف ـ ينبغي اعتماد مسلكين؛ هما:
1 ـ التأكيد على الدور الحضاري للمجتمع وفعالياته التطوعية التي كانت تقوم بالعبء الأكبر في التنمية والعمران، وذلك من خلال رصد فعاليات المجتمعات الإسلامية تاريخياً وتوضيح دورها الحقيقي مقارناً بدور الدولة في تلك الحقب التاريخية، وكيف أن المجتمع ومؤسساته القائمة على التمويل الذاتي ـ خصوصاً من خلال الأوقاف ـ قد استطاعت إنجاز الفعل الأساسي لتحقيق العمران والاستخلاف فيما يطلق عليه في عالمنا المعاصر مفهوم (التنمية) . ولعل إنشاء الجمعيات الخيرية والمؤسسات التطوعية وصناديق الأوقاف يمثِّل وسيلة مهمة في المجتمعات الإسلامية لإعادة الفعالية واليد الطولى للمجتمع في مواجهة الدولة.
2 ـ تهميش السلطة في الوعي الإسلامي المعاصر، وذلك من خلال إعادة تشكيل العقلية المسلمة التي أصبحت تقف من السلطة السياسية موقفين منتاقضين، أولهما: رفضها والرغبة في تغييرها، أو تعديل هيكلها ووظائفها. وثانيهما: حبها وتقديسها، والرغبة فيها على أنها أساس مدخل التغيير. هذان الموقفان جعلا العقل المسلم ـ في كل مستوياته، خصوصاً الجماعات الإصلاحية ـ لا يرى طريقاً للإصلاح إلا ويمر عبر السلطة، وأنّ السلطة هي الوسيلة الناجحة لبناء المجتمع المسلم. وهذا يؤدي بدوره إلى تحقيق إصلاحٍ غيرِ متجذر ومفروضٍ من أعلى لا يتسق ومنطقَ الفعل الحضاري الإسلامي المتعارف عليه في هذا التاريخ الممتد.