حسين عبد عواد الدليمي
منذ الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله عام 2003 ميلادية والإدارة الأمريكية تنفذ فصولاً متتالية على أرض الرافدين لكسب النصر المزعوم الذي تحلم به إدارة البيت الأبيض في واشنطن. إنها فصولٌ متسلسلةٌ أُعِدَّ قسم كبير منها بالتعاون مع بعض الساسة الذين وعدوا واشنطن بحلم النصر الأكيد يوم أن كذبوا عليهم بأنَّ شعب العراق سوف يستقبلهم بالورود؛ فضلاً عن سيناريوهات الفصول الأخرى التي لا تفتأ إدارة الاحتلال تعمل على إعدادها لتحقيق «المهمة» التي طالما تحدث عنها رأس الدولة الأمريكية (جورج بوش) .
وهكذا تتوالى الفصول ليكون فصل الحسم الأخير، في نظر كثير من المراقبين، ما يسمى بـ «الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في العراق» التي أُعلن عنها على لسان الرئيس الأمريكي بوش، وهي بلا شك يُنظَر إليها على أساس أنها حبل النجاة أو الهلاك إذا التف حول رقاب واضعيها، طبقاً لمدى نجاحها أو فشلها؛ لإنقاذ أمريكا من المستنقع الذي تعيشه قواتها المحتلة في العراق في ظل التصاعد المستمر للمقاومة العراقية والعمليات النوعية التي تقوم بها الفصائل الجهادية على اختلاف أسمائها في الأشهر الأخيرة الماضية، التي رأينا فيها العدو مهزوماً مكسوراً أكثر من اي وقتٍ مضى قبل ذلك.
وإذا كان المشهد العراقي متشابك الأطراف ولا يمكن التكهن بالمجريات السياسية الجارية فيه، في مقال إعلاميٍ قصيرٍ فإنَّ معرفة الفصل الأخير من فصول الفشل الأمريكي في العراق أمر ضروري للغاية؛ لأن تحالف الاحتلال الذي قاد حملته العسكرية لغزو العراق بحججٍ واهيةٍ بدأ يتصدع على ما يبدو، يوم أن اعترفت بريطانيا بهزيمتها ـ جهاراً أو إسراراً ـ وقيامها بسحب ربع جيشها المهزوم في فترة قياسيةٍ وجيزة، بمفاجأة غير معلنةٍ وقت ذاك.
وإذا كان هذا الانهزام ـ الذي لم يعلن عنه سابقاً ـ نصراً للمقاومة والمخلصين بحد ذاته؛ فإنَّ مرحلةً مّا بعد الهزيمة التي ستتلوها هزائم قريبة ـ على ما يبدو ـ توجب على كل الخيِّرين والوطنيين والشرفاء العراقيين التفكير الجدي بالعمل المشترك لاستثمار ذلك الانتصار. وقد تنبهت هيئة علماء المسلمين ـ وهي رائدة المشروع الوطني ـ لذلك منذ اليوم الأول لإعلان رئيس الوزراء البريطاني هزيمته بسحب ما يقرب من 1600 جندي بريطاني من جنوب العراق؛ حيث دعت في بيان لها يحمل الرقم (378) أبناء العراق المخلصين من الساسة والميدانيين إلى التفكير الجدي في مرحلة ما بعد هزيمة المحتل، معللة ذلك بأن مرحلة ما بعد هزيمة المحتل بحاجة إلى عمل مبكر وجهود مضاعفة، يلزم من خلاله اتفاق القوى الفاعلة على برنامج عمل موحد، يرسم الجميع من خلاله معالم مستقبل العراق على نحو يرضي الله أولاً ثم العراقيين جميعاً بكل أطيافهم ومكوناتهم، ويحقق المصالح العليا لأمتهم؛ مشيرةً إلى أن هذه الخطوة تُعَدُّ مؤشراً واضحاً على بداية التصدع في التحالف الأنجلو ـ أمريكي في قضية العراق، وبداية هزيمة متوقعة لمشروع الاحتلال في هذا البلد الصابر المحتسب المجاهد؛ في الوقت الذي صرحت فيه بأنَّ الانسحاب الأمريكي بات وشيكاً، وهذه هي النهاية الطبيعية لكل احتلال طال أمده أم قصر، وأن الفضل في تحصيل مثل هذه التطورات المبهجة بعد الله لأبنائنا البررة الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ومن أجل تحرير بلادهم.
وإذا كانت الخطة الأمنية الأخيرة في بغداد التي سميت بـ «خطة فرض القانون» قد أتت نتيجة جزئية للمساعي الأمريكية لحفظ ماء وجهها للخروج بأقل الخسائر من العراق في ظل الاستراتيجية الجديدة؛ فإنها تستوجب وقفات عديدة نلمس من خلالها الفشل المرتقب الذي سَتُمنى به، وما سيترتب عليه من تداعيات وتحالفات وموازنات جديدة على مستويات عديدة ستشهدها الساحة العربية والعراقية، ولن أبالغ إذا قلت: والعالمية، على المستوى السياسي والأمني؛ فضلاً عن تعامل السياسة الخارجية العالمية مع العراق، بما في ذلك تعامل الولايات المتحدة الأمريكية وفق ما يفرضه الواقع الذي لا نستطيع تجاهله.
إنَّ مجرد العودة للوراء قليلاً وتحديداً في تعامل الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة التخلص من شبح الموت الذي منيت به في غزوها لفيتنام آنذاك وما جرى من خلال تعاملها من تغيير للخطط العسكرية، وزيادة عدد قواتها، واعتمادها على تكثيف القصف الجوي بالطائرات، وتشكيل ميليشياتٍ وجيشٍ موالٍ للأحتلال؛ كل ذلك يوحي بتكرار السيناريو ذاته في العراق اليوم؛ فإنَّ الذي يجري في بلاد الرافدين ـ عموماً ـ هو عملية لاستعادة النَفَس الأمريكي بعد أن ضاق عليه الخناق جراء الخسائر الفادحة التي تكبدتها قوات الاحتلال في الأشهر الأخيرة الماضية عموماً بفعل المقاومة الباسلة، مع ضرورة التركيز على حجم الخسائر بالأرواح والمعدات، وبخاصة الطائرات العشر التي خسرتها تلك القوات الغازية في شهر شباط الماضي تحديداً.
3 خطة أمنية جديدة وواقع مؤلم:
وإذا كنا قد عرفنا بعض الدواعي التي قام من أجلها ما يسمى بـ (خطة أمن بغداد) فإنه من المناسب إلقاء الضوء على بعض المجريات التي صاحبت هذه الخطة، وتوقيت تنفيذها، ومدى إمكانية نجاحها أو فشلها.
ولا شك أن أي نظرة سريعة على الواقع الذي يعيشه العراق عموماً وبغداد خصوصاً يستطيع القارئ من خلالها معرفة حجم التآمر الذي تسعى كثير من القوى السياسية المشاركة في الحكومة إلى تنفيذه. ففي ظل التسريبات التفصيلية للخطة الأمنية والإفصاح عن حيثياتها للقوى المساندة للحكومة كـ (التيار الصدري) الذي نزح قياديوه نزوحاً جماعياً إلى إيران وعلى رأسهم (مقتدى الصدر) الذي كثر الكلام حول هروبه أو اختفائه في إحدى مناطق الشيعة في الجنوب، لنضع ألف علامة استفهام أمام مصداقية هذا التيار في الشارع العراقي في ظل التناقض العجيب الذي صاحب هروب (مقتدى) إلى إيران قبيل بدء الخطة الأمنية التي تنفذها قوات الحكومة بمساندة قوات الاحتلال، والتي لقيت تأييداً من قِبَل (التيار الصدري) نفسه قبيل وأثناء تنفيذها.
في ظل هذه التسريبات المفضوحة بدأت عوامل الفشل والهزيمة، تدب في أوصال هذه الخطة العسكرية، وبخاصة إذا عرفنا المواقف التي أفصحت عنها بعض الشخصيات التي تشارك في الحكومة والبرلمان أمثال طارق الهاشمي ـ أمين عام الحزب الإسلامي ـ الذي توقع الفشل ـ ضمناً ـ للخطة؛ لأنه لم يتوفر فيها عنصر المباغتة؛ ولأن خريطتها سُرِّبت قبل البدء بها إلى عناصر الميليشيات التي تُتهم بقتل العراقيين؛ مع أنه ـ وحزبه ـ من المؤيدين للخطة الأمنية في بغداد.
3 مواقف يجب معرفتها:
في ظل تنفيذ هذه الخطة الأمنية العسكرية التي مضى على البدء بها بضع أسابيع، ينبغي معرفة ما يلي:
أولاً: إنَّ الأمر أصبح واضحاً لكل مراقب أنها في طبيعتها تستهدف أهل السنَّة في بغداد، وهي على كل حال تأتي تطبيقاً لاتفاقات سابقةٍ عمل عليها تياران شيعيان هما: (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) و (التيار الصدري) في إطار تسوية تحدثت عنها بعض تسريبات الإعلام في اتفاق سري يقضي بالعمل على تسليم الجنوب لـ (عبد العزيز الحكيم) لتكوين إقليم فدرالي؛ على أن يتم إعطاء (التيار الصدري) مدينة السلام (بغداد) بعد إفراغها من أهل السنة.
وموضوع استهداف أهل السنة في بغداد أمر ظاهر للعيان، تحدث عنه مؤيدو الخطة الأمنية أنفسهم، والكل سمع (د. عدنان الدليمي) وهو يتحدث عن استهداف مناطق السنة ومهاجمتها من قِبَل الجيش الحكومي دون الاقتراب من مناطق الشيعة.
وقد تحدث (الشيخ الدكتور عبد السلام الكبيسي ـ مسؤول العلاقات العامة في هيئة علماء المسلمين) في بيان يحمل الرقم (373) تلاه أمام جمع من وسائل الإعلام حول الخطة الأمنية وتداعياتها على الساحة العراقية، مبيناً أنها إذا ما سارت على ما هي عليه من أساليب معلنة فلا يعني ذلك إلا أن الهدف المبيت هو «محرقة أهل السنة والجماعة الرافضين للاحتلال في بغداد» .
هذا في الوقت الذي طالبت فيه الهيئة الحكومة الحالية بترك مواقعها؛ لأنها لم تعد قادرة على حفظ الأمن، وأن عهدها غدا شؤماً على هذا الشعب الجريح، ومن ثم فإنَّ عليها أن تترك مواقعها؛ فإنما تُنَصَّب الحكومات في العادة على مواقع القيادة لتوفر الأمن والأمان للشعب، وتحول بينه وبين أعدائه؛ فضلاً عن تلبية متطلباته الضرورية الأخرى؛ فإذا لم تكن قادرة على ذلك كله فما جدوى بقائها؟!
ثانياً: ولذلك عملت الحكومة ـ جاهدة ـ على تطبيق سياسة الإيحاء الكاذب أو المخادع الذي تريد من خلاله إفهام العالم بأنَّ خطة أمن بغداد لا تستهدف السنة فحسب، بدليل ما ترونه من مداهماتٍ لمناطق شيعية كمدينة الصدر (الثورة) وغيرها، مع ما يرافقه من تصنُّع في مداهمة بعض مكاتب (التيار الصدري) في بغداد ومناطق الجنوب.
وسر هذه الفضيحة يكمن في أمور عديدة، منها:
(1) إعطاء الحكومة الضوء الأخضر لـ (مقتدى الصدر) وقادة جيشه للهروب من العراق إلى إيران، في بيان سري وجهه المالكي إلى مقتدى وجماعته.
(2) فشل نتائج مداهمات مناطق الشيعة ومكاتب الصدر من قِبَل قوات الاحتلال والحكومة؛ فلم نسمع أو نشاهد ـ على وجه اليقين ـ أن اعتقالات نالت عناصر التيار أو جيش الصدر الذي طالما اتُّهم بكثير من قضايا العنف الطائفي في البلاد بما لا يخفى على أحد.
(3) إنَّ عدداً كبيراً من منتسبي الجيش والشرطة وقوات الأمن التي تقود الخطة الأمنية هم في حقيقتهم أفراد فاعلون في جيش المهدي، وقد تحدثت دراسات غربية، ووسائل الإعلام عن ممارسة أفراد من الشباب مهام الشرطة أو الجيش نهاراً، إلى جانب الميليشيات الطائفية التي تقتل العراقيين ليلاً.
ومن نافلة القول أنه يمكن استجلاء الموقف الأمريكي من جيش المهدي الذي طالما خدم مصالح أمريكا في العراق، وخاصة تلك التي تعمل على بث روح الفرقة والطائفية في البلاد، معلنة الشعار الذي يقول: (فرق تسد!) . فهي بهذا المعنى حليف كبير ومشارك، بل مشجع لأعماله التي تصب في هذا الإطار؛ بدليل ما نراه من عدم تدخلها في كثير من الأحيان عندما تقوم ميليشيات هذا الجيش بقتل السنَّة وحرق مساجدهم على مرأى ومسمع من الاحتلال والحكومة وقواتهما.
إنَّ السياسة الأمريكية تمتاز بميزة التخفي والتستر، فهي في الوقت الذي تقلّب أوراق الضغط على الساحة العراقية على المستويين: الأمني والسياسي متى شاءت وكيفما شاءت؛ نجدها تعمل وفق سياسة غامضة مخفية، لا يمكن التنبؤ بها من أول وهلة.
وإذا كان الموقف المعلن للولايات المتحدة تجاه (ميليشيا جيش المهدي) معلناً على أساس أنه منظمة إرهابية يجب قتاله، وهو ما يدركه الصدريون أنفسهم ويتحدثون به في وسائل الإعلام؛ فإنَّ هذا التيار هو من خدم الساسة الذين تعاونوا مع المحتل، بل هو من أوصلهم إلى سدة الحكم والتربع على كرسي الرئاسة في العراق.
كما لا يخفى التحالف القائم بين حزب الدعوة والتيار الصدري الذي أوصل نوري المالكي إلى رئاسة الحكومة الحالية ـ التي هي في كل حال امتداد لحكومة الجعفري ـ وإبعاد لـ (عادل عبد المهدي) الشخصية الثانية في المجلس الاعلى للثورة الإسلامية الذي يترأسه عبد العزيز الحكيم.
وهنا يأتي التساؤل: ما موقف نوري المالكي من الضغوطات التي يتعرض لها التيار الصدري على الاقل في الظاهر؟
إنَّ احتمالين يقفان أمام هذا التساؤل، حسب مصداقية هذه الضغوط أو عدمها:
أولهما: أن يكون هذا التعرض والضغط حقيقياً، وعندها من المتوقع أن يقوم التيار الصدري بسحب ثقته من الحكومة وغل يده إلى عنقه التي طالما مدها لحكومة المالكي، ومن ثم سينال تلك الحكومة ويهدد بقاءها تهديداً كبيراً، وخاصة في ظل التقلبات السياسية التي يمارسها التيار، والتي تعوَّد الناس على سماعها منذ الغزو الأمريكي ولحد الآن.
وثانيهما: أن يكون هذا التعرض إعلامياً وهمياً، وعندها فإنَّ مصير العراق سيزداد سوءاً لو بقي (جيش المهدي) مستمراً بعمليات القتل العدائية ضد العراقيين المخلصين، وعندئذٍ لا نستبعد المنزلق الخطير للحرب الأهلية التي تتولد عن مزيد من الشحن الذي تمارسه الأحزاب الحاكمة في العراق اليوم. ولا شك أنَّ هذا الاحتمال سيجعل مصداقية الإدارة الأمريكية والعراقية تحت الصفر في نظر أصدقائهما قبل أعدائهما.
3 الخطةُ الجديدة وحلمُ البيت الأبيض:
إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى تحقيق النصر المزعوم في ظل خططها التي لا تقف عند حدٍ من الحدود؛ لأنها تأتي كنتائج لسياسة عوجاء عرجاء غير مخطط لها سابقاً باعترافات رجال البيت الأبيض أنفسهم، عندما أقروا بأنهم تفاجؤوا بشراسة المقاومة المتصاعدة التي أعادت إلى ذاكرتهم مقاومة فيتنام، بما لم يكونوا يتوقعونه في يومٍ من الأيام، حينما أقدموا على ولوج العراق وإشعال الحرب فيه.
أمام هذه الحقيقة خياران لا ثالث لهما ـ حسب ما أشار إليه الأستاذ طلعت رميح في مقال سابق في البيان ـ فاستراتيجية بوش الجديدة: إما أن تتضمن انسحاباً من العراق تحت غطاء عامل القوة والانتصار الموهوم، أو أن تبقى في جحيم المقاومة الذي سيأكل جيش الاحتلال مهما بلغ عدده وعدته إلى أن تقرر هذه القوات الهزيمة فتجبر على خيبة الانسحاب.
وهناك مؤشرات عديدة ترجح الخيار الأول في الوقت الذي توجد مؤشرات أخرى ترجح الخيار الثاني. ولعلَّ ما يبعثُ على التفكير بالخيار الأول هي تلك الوساطات التي تتحدث عنها بعض وسائل الإعلام، والتي تسعى قوات الاحتلال من خلالها للتفاوض مع الجماعات التي تقاومها في العراق، مع رفض كثير من تلك الجماعات ـ أصلاً ـ لمبدأ التفاوض؛ لأنه يفتقر إلى مزيدٍ من الجدية والجدوى؛ بالإضافة إلى ما حمله المستشار الأمني للرئيس الأمريكي جورج بوش عند زيارته الأخيرة لبغداد التي تتضمن نقاطاً عدة فيها حثٌّ للسياسيين العراقيين على شمول المقاومة والمعارضين بمبادرة المصالحة الوطنية، وإصدار عفو عام عن المقاتلين، مع ضرورة حل لجنة اجتثاث البعث التي اتُّخذت غطاءً لإقصاء كل الخيِّرين من المؤسسات العراقية، والعمل على حل الميليشيات وفِرَق الموت، وغيرها.
ولم يفتأ نوري المالكي يغازل معارضيه في مناسبات عديدة بناءً على دواعٍ يعرفها هو قبلَ غيره، ولعل آخرها دعوته لانضمام ضباط الجيش السابق إلى جيشه الجديد؛ مع غصن الزيتون الذي طالما لوَّح به للجماعات المسلحة مقابل أن تترك السلاح، وهو ما ترفضه جماعات المقاومة رفضاً قاطعاً.
هذا في الوقت الذي نشاهد فيه مؤشرات أخرى تشير إلى احتمال استمرار محاولات بوش والإدارة الأمريكية لإحراز النصر على المقاومة العراقية، في ظل ما نشهده من تصرفاتٍ همجية وحشية تتعرض لها مناطق وقرى ومدن كل المناهضين للاحتلال، لتعيش هذه المناطق أوضاعاً مأساوية بالغة الصعوبة كالرمادي وسامراء والبغدادي وحديثة وهيت والرطبة وراوة والزركة، وغيرها.
هذا إذا اخذنا بنظر الاعتبار تلك التحركات الحثيثة التي تواصلها قوات الاحتلال لإقامة قواعد عسكرية دائمة لها في مناطق مختلفة من العراق، جرى الحديث عن آخرها بإقامة القاعدة الأمريكية في كردستان العراق.
وإذا كانت الصعوبة تقف أمام ترجيح أحد الخيارين؛ فإنَّ من المتفق عليه أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى جاهدة لتحويل هزائمها المتكررة إلى عوامل نصرٍ وقوةٍ، تتخذ من خلالها غطاءً لشد رحالها ومغادرة العراق بوجه مشرِّف، كما سماه نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني) .
3 الفشل الأكيد ... وماذا بعد؟
إذا كان الفشل يتبادر إلى ذهن أي متابع للخطة الأمنية وأدواتها وأساليبها؛ فإنه من الضرورة بمكان معرفة ما يترتب على هذا الفشل، مع تأكيدنا على الحل البديل لمثل هذه الخطط التي ملَّ أبناء العراق منها ومن كثرتها دونما نتائج تذكر.
فإنَّ حكومة المالكي أضعف ما تكون في هذه الأيام بعد أن فضحت وانكشف وجهها لكل العالم، فضلاً عن فشلها في توفير الخدمات أو الأمن للمواطنين، وقد تسعى أطراف سياسية إلى تكتل كبير تقوم من خلاله بسحب الثقة من هذه الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، ربما يقودها علاوي أو غيره، وقد يكون الواقع مشجعاً على هذا الاحتمال خاصة بعد إعلان تكتل جديد يضم (كتلة علاوي) و (التوافق) و (الحوار) في إطار عمل موحد، ربما بإشارة من قوات الاحتلال، مع ما رافقه من تصدع كبير في جدار الائتلاف الشيعي الحاكم بعد الأنباء التي تواردت عن انسحاب (حزب الفضيلة) الذي يُعَدُّ من أهم مكونات هذا الائتلاف الذي يسيطر على العدد الأكبر من مقاعد الحكومة الحالية والبرلمان؛ وخاصة إذا علمنا أن العدد الذي يملكه حزب الفضيلة في البرلمان هو 15 مقعداً.
ولكنَّ الحكومة البديلة لا يمكن الارتياح إليها ـ أبداً ـ مهما كانت خلفيات تشكيلها، على أساس إنقاذ البلد من المنزلق الطائفي والمذهبي الذي قد يشعل حرباً أهلية في العراق. والكل يذكر أن (فلوجة الصمود) قُصفت ودُمِّرت، وقتل شبابها وأطفالها ورجالها ونساؤها، وشُرِّد أهلها، بإمضاء من (إياد علاوي) يوم أن كان رئيساً للحكومة آنذاك.
وهذا يدعونا إلى التفكير بالمعطيات الأخرى على الساحة العراقية، وهي المقاومة الجهادية والميليشيات الطائفية بعد الفشل الذي ستمنى به القوات المحتلة والحكومية.
وإذا كان القضاء على فرق الموت والميليشيات الطائفية أمر واجب، فإنَّ دعم المقاومة التي تعمل على تحرير العراق لا يقل وجوباً عن ذلك، وعلى فصائل المقاومة أن تدرك خطر التفرقة، فتعمل على توحيد كلمتها، ورصِّ صفوفها، وهي مدعوة لأن تعمل وفق منهجية شرعية واحدة؛ لأنَّ العدو بدأ يهلك، وهو يلتقط أنفاسه الأخيرة، وقد قرب الخلاص منه إن شاء الله.
إنَّ المقاومة من أجل أن تقطف ثمار الانتصار يجب أن تبتعد كل البعد عن روح المشاحنة أو الاختلاف؛ فإنَّ الانتصارات تزداد يوماً بعد يوم، والمقاومة الباسلة في تصاعد مستمر؛ ولله الحمد، وهذا ما يدعونا إلى التخطيط بجدية للمستقبل؛ فمن الحَيْف والجور أن يتحوَّل من جاد بنفسه في سبيل الله، وساهم في تحرير بلده من الاحتلال ليصبح غداً أو بعد غد مطارداً، ولا يشارك في بناء بلده من جديد.
وعلى جميع المخلصين من أبناء الرافدين ومعهم المسلمون الغيورون أن يقدموا الدعم المادي والمعنوي لهذه الفصائل المخلصة؛ لأنَّ المشروع الجهادي هو الذي أوقف المد الأنجلو ـ أمريكي الذي لم يكن ليقف عند حد احتلال العراق؛ وللمقاومة الفضل الكبير في إفشال المشروع الكوني الأمريكي وإلحاق الهزيمة به، وعليها أن تُبقي الإصبع على الزناد، وأن لا تتحول إلى خلايا نائمة، فينال منها العدو مأربه على حين غفلة من أمرها.
أما محاولات الإنقاذ التي لا تفتأ الإدراة الأمريكية تستخدمها؛ فإنها ستؤول إلى الفشل مهما خططت وأعدت لها. وليس متناغماً ما تفعله إدارة الحرب الأمريكية من دعمها المستميت لعملية متهالكة أثبتت فشلها على مدى سنوات الاحتلال الماضية وما تدعو إليه من مؤتمرات تبغي من خلالها الخروج من عنق الزجاجة الذي بدأ يضيق كلما توغلت في أعماق المستنقع العراقي جراء تزايد خسائرها في البعدين الميداني والسياسي؛ فمن الناحية الميدانية لم تكد قوات الاحتلال تعالج خسارتها لأكثر من مائة جندي خلال شهر واحد حتى ظهر لها سقوط تسع طائرات خلال اقل من شهر. أما من الناحية السياسية فهي الآن مدركة تماماً أنها لم تعد قادرة على الانفراد بالقرار الدولي مثلما فعلت إبّان غزو العراق.
لقد أغرى هذا التخبط الامريكي كثيراً من الدول سواء منها الكبرى أو الإقليمية على استغلال الثغرات للظهور على مسرح الأحداث كلاعبين بدلاء لهذا اللاعب الوحيد الذي بدا عليه التعب والإعياء؛ حيث لم تكن حسابات من خططوا له على درجة عالية من الدقة ومعرفة وثيقة بما سيجري على أرض الواقع من تقلبات.
ولتفادي هذه التداعيات عمدت الإدارة الأمريكية ممثلة بصقورها الذين يعشقون الدم إلى الترويج لمؤتمر تارة يسمونه إقليمياً؛ لأنه سيشمل سورية وإيران، وأخرى يطلقون عليه صفة الدولية، غير أن الحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن المتحاورين أو المؤتمرين وتحت أي سقف هي أن أمريكا لن ترضى في حواراتها ومؤتمراتها إلا بالحل الذي يؤكد سيطرتها وينتشلها من السقوط في الهاوية.
إنَّ اشتعال المنطقة بحرائق الديمقراطية الأمريكية المصدرة عبر بوابة خريطة الطريق وخريطة الشرق الأوسط الجديد أو الكبير دعت أمريكا هذه المرة إلى معالجات، ولكن المتابع للسياسة الأمريكية يرى أنها تقف كثيراً عند عوارض المشكلات، وتُعنى بمعالجتها متناسية أو متجاهلة الأسباب التي أفرزت هذه العوارض؛ فهي تعالج نتائج سياستها الهوجاء لا أسبابها.
وبعد كل ذلك: على السياسيين ـ وخاصة من تورط ممن يحسب على أهل السنة، إن كانوا كما يدَّعون انهم شاركوا لمصلحة أهلهم ووحدة العراق ـ أن يعترفوا صراحة بفشل المشروع السياسي الذي كانوا ولا يزالون جزءاً منه؛ لأنَّ انسحابهم اليوم ـ قبل غد ـ من عملية كُتِبَ لها الفشل بعد أن مضى عليها أربع سنين يحسب لهم قبل فوات الفرصة؛ وذلك لسبيين:
أولهما: أنهم سيكونون عندئذٍ ضمن الصف الوطني الذي نأى بنفسه عن أن يكون ضحية عمليةٍ سياسية تمتاز بالظلمة والمصير المجهول، بسبب السياسة الهوجاء للمحتل.
وثانيهما: لأن انسحابهم اليوم يعدُّ الحلقة الأخيرة من فصل المهزلة السياسية الجارية الآن في العراق، وهو بمنزلة النزع الأخير لكل متهالك متعاون مع المحتل وأذنابه؛ ومن عاند منهم وأبى الإنابة وارتضى أن يستمر في طريق مشروع الاحتلال فإنَّ عليه أن يكف لسانه عن مكونات المشروع الوطني العراقي الأصيل من هيئات ومنظمات وتجمعات وفصائل جهادية وغيرها؛ فإنَّ التاريخ يسير وهو يسجل كل موقف وكلمة، وقد علمتنا الدنيا أنها يوم لك ويوم عليك.
إنَّ المواقف غير المسؤولة التي يقوم بها بعض الساسة ممن يُحسَبون على السنَّة ضد القوى الوطنية المشرفة المناهضة للاحتلال، ستقدم حبل النجاة لأعداء الله والوطن من المحتلين وأعوانهم؛ في الوقت الذي نشاهد فيه عدونا وقد توجه نحو الاندحار وهو على وشك السقوط المدوي الذي سيهوي به في قعر الهزيمة والشنار.
نسأل الله ـ تعالى ـ أن يبصرنا بالحق، وأن يرزقنا اتباعه إنه سميع مجيب.