حسين الشيبة ناصر
حينما جلست ذات مرة على الشاطئ أنظر إلى الامتداد الشاسع للبحر وأستمع إلى صوت ارتطام الأمواج على الصخور تذكرت مرور الناس من هنا منذ آلاف السنين.. تمضي اللحظات ويغادرنا الزمن ونعيش حلاوة الذكرى ونسعد بالأحلام المسافرة نحو المجد القادم، ومن ظلمة الليل ينبلج الفجر فيرسل إلينا أشعته، وتتفتح الأزهار من حوالينا، وعندما نتأمل فيها نراها وكأنها تتبسم في وجوهنا وتلقي إلينا تحية الصباح محملة بالروائح العطرية.. وحينما نظرت إلى طيور النورس، التي طارت بعيداً في السماء حتى غابت في الأفق، تذكرت صديقي عبد الله الذي ودّعته ذات يوم وأنا على يقين أن في قلبه قطرات من ينابيع الأمل ونوراً من الإيمان، ويشع من ملامح وجهه ضياءٌ ومن عينيه صفاءٌ تغسله دوماً دموع الإيمان؛ فتنساب الدمعات دافئةً لتبلل لحيته، وتحمل معها مشاعر الخوف والرجاء والخشية من الله..
سافر مع أهله إلى بلدة أخرى.. كان زميلي في المدرسة أيام الطفولة والشباب.. ذاق مرارة البعد واليتم فصبر.. احتدمت المعركة الأولى مع نفسه فانتصر عليها.. عاش عابداً زاهداً كثير التأمل في مخلوقات الله العظيمة، ومن جوفه تنبعث معاني الصدق والوفاء والتضحية والرحمة القادمة من هدي الرسالات السماوية، مقتدياً بهدي وسيرة رسولنا العظيم - صلى الله عليه وسلم -؛ فكانت نبراس حياته ومسيرته نحو العلى. وعندما هزته المشاعر الإنسانية كغيره من الناس لما يراه من الأعمال الإجرامية كتب لي في إحدى رسائله يقول: «كيف يطيب لنا العيش وأطفالنا يموتون قتلاً وجوعاً، وصرخات الأمهات ترتفع إلى عنان السماء: (ياالله!) فلا مجيب؟! كيف يطيب لنا العيش ونحن نرى دموع الشيوخ على أولادهم تحت أنقاض المنازل المدمرة، ومناظر بكاء الأطفال على آبائهم القابعين خلف القضبان والأسوار في فلسطين الحبيبة؟! أخي، ماذا جرى لنا؟ الحروب في كل مكان تلتهم كل شيء؛ الإنسان والحيوان والنبات والحجر..! زمن يشيب فيه الأطفال من أهوال ما يرونه والصمت يسيطر علينا..؛ إلى متى؟! ليس أمامنا إلا التضرع إلى الله عز وجل، والخروج من دائرة الحصار الذي يحيط بنا ومجاهدة الأنفس، ومحاربة الشهوات، وإصلاح ما أفسده الزمان» .
مضت الأيام والسنون، وانقطعت بيننا المراسلة والأخبار.. علمت أنه سافر وقطع البراري وركب الأهوال نحو هدفه المنشود.. قصرت عنده المسافات والحلم يكبر تحت لواء (الله أكبر) وتسير القلوب المشتاقة للقاء الله.. تمر الدنيا في ذاكرته كالسحابة ويشتد به الابتلاء والتمحيص.. لَكَمْ تمنى أن يطير بأجنحة نورانية إلى عالم الخلود الأبدي ورضوان من الله! نبضات قلبه تزداد خفقاناً وهو يقترب من رحى الحرب ويشم رائحة الجنة، وينتابه شعور بأنه ولد من جديد وصار تقياً نقياً وطاهراً كقطرات الماء المتنزلة من السماء. وفي أحد الأيام كان ينظر إلى قرص الشمس وقت الأصيل وهو ينحدر نحو الغروب تاركاً وراءه الظلام يلف الأرض، والعصافير تتنقل بين الأشجار بحثاً عن مكان تؤوي إليه. وفجأة! يسمع من بعيد صدى نداء (الله أكبر) يتردد في الجبال بين الفينة والأخرى؛ فيكبِّر هو الآخر، لتمتلئ بتكبيرتهم الآفاق.
جلس في تلك الليلة على قمة تل صغير مع مجموعة من صحبه يرقبون العدو، حينها تساقط رذاذ من المطر على وجوههم فغشيتهم السكينة.. هزم الخوفَ في داخله بذكر الله.. اشتد وطيس المعركة مع الغزاة وقاتل في سبيل الله. لَكَم صغرت الدنيا في عينيه عندما اشتاق إلى نعيم الفردوس بعد أن ودع أمه الوداع الأخير، وسار في قوافل المجاهدين حاملاً روحه الطاهرة للفداء؛ فاستشهد في صبيحة ذلك اليوم.
مات مبتسماً وكأنه استشعر حلاوة اللقاء، وانتشرت في الهواء رائحة المسك تطيّب المكان والزمان، وأصحابه يلقون إليه نظرات المحبة والوداع، وأحسب أن الملائكة تحفّهم بأجنحتها.