د. عبد الكريم بكا ر
ذكرتُ في المقال السابق أن حلَّ مشكلات التعليم يحتاج إلى (رؤية مركَّبة) ، وذكرت بعض الأفكار حول تشخيص أوضاعنا التعليمية على نحو مقارب، واليوم أتحدث ـ بإذن الله تعالى ـ عن بعض الخطوط العريضة التي يمكن أن يُستفاد منها على صعيد بناء رؤية شاملة للارتقاء بالتعليم، وذلك عبر المفردات الآتية:
1 ـ لا ينبغي للرؤية المركبة أن تبدو وكأنها خلطة معقدة، تجعل صانعها بمثابة من قيل فيه: «تكلَّم كثيراً ولم يقل شيئاً» ، وهذا يحدث حين نتبع أسلوباً مبتذلاً في معالجة قضايا شديدة التعقيد، على ما نراه اليوم في مجالس سمرنا، حيث يتحدث من شاء فيما يشاء من غير أي معرفة جيدة ولا تخصص ولا استعداد مسبق ...
2 ـ لا ينبغي كذلك لطرح مشكلات التعليم ـ وكل المشكلات الأخرى ـ أن يبدو وكأنه (تفريق دمه على القبائل) ، وذلك حين نقول: المعلمون والأهالي والطلاب والحكومات والأثرياء وأصحاب المدارس الخاصة، والاستعمار وأصحاب المصانع والمؤسسات ... كل هؤلاء مسؤولون عن ضعف التعليم! لأننا في هذه الحالة نعلِّق الإصلاح على جهات كثيرة، لا يمكن التواصل والتفاهم معها حول قضية التعليم، حيث إن لكل جهة من تلك الجهات همومها الذاتية والشخصية التي تحجبها عن التفاعل المطلوب مع منظِّري إصلاح التعليم، كما أن بحث الأمور بهذه الطريقة يشجع الجميع على التهرب من المسؤولية، كما أنه يؤدي إلى شيوع القنوط واليأس من إمكانية التقدم، وهذا ما أشعر أننا قد ابتلينا به فعلاً في معظم مجالات الإصلاح، مع الأخذ بعين الاعتبار أن من يطرح الأمور بهذا الأسلوب ليس مخطئاً على مستوى المضمون، حيث إن المسؤولين عن ضعف التعليم فعلاً هم كل من ورد ذكرهم، ومعهم آخرون نذكرهم، لكن الخطأ يكمن في أسلوب المعالجة ومدى نجاعة خطة الإصلاح.
3 ـ من المهم أن نقول دائماً: كلما كثرت العناصر المؤثرة في خطة المعالجة صارت المجازفة فيها أكبر، وصار اليقين أقل، وذلك يعود إلى طبيعة عمل الدماغ وطبيعة تعامله مع المعلومات؛ ومن هنا فإن كل ما يقال حول إصلاح التعليم ينبغي أن يُتلقى على أنه شيء ظني تخميني اجتهادي، وعلينا أن نتوقع دائماً أن يشوبه شيء من الوهم والخلط والمبالغة، وإن الواقع يشهد على صحة هذا؛ فلو أردنا أن نزن أوراق الدراسات والبحوث والندوات والمؤتمرات التي أقيمت حول إصلاح التعليم في أي بلد؛ لوجدنا أنها تُحسب بالأطنان، ومع ذلك فإن هناك من يقول: إن التعليم يتدهور ويتراجع.. أكتب هذا من أجل عدم التعويل كثيراً على اجتهاداتنا وبحوثنا، ومن أجل المجاهدة للاحتفاظ بعقول مفتوحة تجاه من يخالفوننا الرأي في مسائل الإصلاح المختلفة.
4 ـ من المهم ونحن ننظِّر لعملية إصلاح التعليم أن نحدد بدقّة المكان والبلد الذي نتحدث عن مدارسه وجامعاته، فمع أن معظم المؤسسات التعليمية يعاني من مشكلات مشتركة إلا أن المطلوب ليس بحث ما هو مشترك، وإنما بحث ما هو خاص. وإنما أقول هذا لأن المعالجة الدقيقة تقتضي بالإضافة إلى الرؤية الشاملة أن نحدد مداخل الحركة الإصلاحية ونقاط الارتكاز فيها، وأن نحدد العوامل الأكثر تأثيراً؛ من أجل منحها اهتماماً وتركيزاً أكبر. ونحن نجد في هذا الإطار أن مدخل إصلاح التعليم يكون في بعض البلدان في تحسين سويّة المعلمين ووضع محفزات لاجتذاب أفضل العقول والكفاءات إلى هذه المهنة، كما هو الشأن في معظم الدول الفقيرة والفقيرة جداً. في كثير من بلدان إفريقيا تجد رغبة جامحة لدى الطلاب في التعلم، لكن التجهيزات المدرسية تقترب من العدم، أما في الدول الثرية والمتوسطة؛ فتجد أن ضعف الرغبة وفقد الحماسة للتعلم هي المشكلة الجوهرية. هناك دول تعاني من كل أشكال الضعف في المؤسسات التعليمية، إلا أن كل شيء يمكن أن ينهض ويتحسن إذا تحسنت الخطط التنموية والأداء الاقتصادي، وذلك كي يشعر الدارسون في المدارس والجامعات أنهم يجدون بعد التخرج فرصاً للعمل أفضل من الفرص التي يجدها (المهنيون) الذين لم يتلقوا إلا حظاً يسيراً من التعليم.
وهكذا نجد أن الوقوف على نقاط الضعف الأساسية في التعليم يتطلب فهم ما عليه الوضع في بلدٍ ما، وما عليه الوضع في بلد آخر، وإلا كنا أشبه بـ (الحلاّق) الذي يمارس الحجامة وقلع الأضراس وختان الأطفال.
5 ـ لا نستطيع ونحن نتحدث عن الرؤية المركبة في مجال التعليم إلا أن نتحدث عن (التعليم الأهلي) ، حيث إنه ينمو بصورة مستمرة، وله مستقبل كبير؛ هذا التعليم يملك إمكانات هائلة تؤهله من أن يقود عملية التغيير التعليمية على مستوى بلد بأكمله، كما أنه في الوقت نفسه يستطيع أن يقدِّم أسوأ النماذج في هذه المهنة الشريفة، إن له وضعاً مختلفاً فعلاً عن التعليم الحكومي، وهذا ما نشاهده اليوم؛ حيث نجد القليل من الجامعات والمدارس الأهلية التي تقدم النصح والتوجيه والتعليم الجيد، والكثير منها يتخذ من الطلاب سلعة للمتاجرة، ويهان فيها المدرِّسون ويظلمون على نحو يخجل الإنسان من الحديث عنه، ولهذا فإن أساس تطويره يقوم على المقولة التالية: «ادعمه وراقبْه» ، المزيد من الدعم من قِبَل الحكومات والمزيد من الضوابط الصارمة والمراقبة المستمرة.
6 ـ مهما طوّرنا وأصلحنا في مؤسساتنا التعليمية، فإنها ستظل تعاني من شيء من القصور، وذلك يعود أساساً لقصور القائمين على الإصلاح وقصور المنظِّرين له، ومن هنا فإنه لا بد من إيجاد نظام نستدرك من خلاله على قصور النظم التعليمية، وهذا النظام يتمثل في التعليم (الخيري) و (اللاربحي) ؛ حتى يجد الطالب الفقير والموهوب المدرسة الممتازة التي يدرس فيها بأقساط ميسرة أو من غير أن يدفع أيَّ شيء، وهذه الفكرة في منتهى الأهمية والحيوية؛ وهي فكرة إسلامية عريقة، حيث إن العمل الخيري في الفلسفة الإسلامية لا يقوم من أجل سدِّ حاجات الناس على نحو كلي، فهذا عسير للغاية، وليس فيه مصلحة، وإنما يقوم بوصفه كرَّة ثانية من أجل الاستدراك على عدالة اجتماعية منقوصة بسبب قصور النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وقد كان المسلمون في يوم من الأيام رواداً عظاماً في التعلم المجاني والخيري، ثم دار عليهم الزمان حتى أصبحوا في ذيل القافلة على صعيد هذا المجال المهم، ولا بد من استعادة ذلك الدور إذا ما أردنا للوضع التعليمي لدينا أن يسير في الاتجاه الصحيح.
والله ولي التوفيق.