أحمد فهمي
في أحد الفواصل الدعائية التي تقدِّمها قناة الجزيرة، تظهر صخرة شديدة الصلابة تفشل كل محاولات كسرها بالدقِّ أو الحفر أو الطرق، ولكن تنجح قطرة ماء فيما عجزت عنه الأدوات القوية، وتتفتّت الصخرة، وهي في الإعلان ـ طبعاً ـ ترمز لقناة الجزيرة، أعني: قطرة الماء.
أعتقد أن هذا الإعلان ينطبق تماماً على حركة حماس، فهي تتمسك بخيار المقاومة وتعدّه خيارها الإستراتيجي، ولكنها في مقابل صلابتها تتعرض لضغوط هائلة من أغلب الأطراف الداخلية والخارجية، بحيث إن الجميع بات يترقَّب قطرة الماء التي يمكنها أن تفتِّت موقف حماس كونها حركة مقاومة فلسطينية.
كان الرهان الغربي أن حماس عندما تنغمس في العمل السياسي سوف يتآكل جانبها المقاوم الرافض للكيان الصهيوني، لكن حماس أثبتت إمكانية الجمع بين التمسك بالمقاومة وممارسة العمل السياسي. وإذا كان كثيرون يتحدثون عن نهر التناقضات الذي وقعت فيه حماس، فالأمر نفسه ينطبق على الكيان، فقد بات (إيهود أولمرت) أمام سلطة بُنيت على قاعدة الاعتراف بالدولة الصهيونية، ولكنها لا تعترف بها، وحكومة فلسطينية تؤيد المقاومة، ساهمت تل أبيب في وضع نظامها، وبدلاً من تفرغ الأجهزة الأمنية لحصار فصائل المقاومة، أصبح أحد قياديي حماس وزيراً للداخلية، وأعتقد أنه الإسلامي الوحيد في العالم العربي الذي شغل هذا المنصب.
بخلاف الضغط الصهيوني المعروف؛ فإن على حماس أن تواجه ضغوطاً أخرى من أطراف إقليمية، فهناك إيران وسورية وبقية الدول العربية، وكل من يؤيد حماس بكلمة يطلب منها موقفاً معيناً حتى وإن تمَّ ذلك بأسلوب غير مباشر. باختصار تحولت حماس إلى ورقة في أيدي العرب يساومون عليها وبها، بدلاً من أن تصبح رمحاً يواجهون به عدوهم.
هذه الإشكالية في التوصيف العربي لدور حماس - ورقة مساومة أم رمح مواجهة - تنقلنا إلى بُعْد أعمق للأزمة، وهو تصور المخرج الحقيقي للصراع العربي الصهيوني، فبالنسبة لليهود هم يعدّون بقاء الأزمة العنصرَ الأهم في إدارة العلاقات مع الدول العربية، بينما يعدُّ العرب إنهاء الأزمة العنصرَ الأهم في إقامة العلاقات مع إسرائيل، هذا التفاوت بين التصورين يعيق مقاربات الحل المطروحة، وإن كان تسبَّبَ من ناحية أخرى في أرجحة عقدة الأزمة بين أمرين: حل القضية الفلسطينية أم تحقيق الاستقرار السياسي في المنطقة.
في هذا الوضع المعقد تحاول حماس أن تقدم مقاربات لفظية أو تكتيكية للجمع بين المتناقضات والأطراف الفاعلة، هذه المقاربات تسبَّبت في حدوث لغط وضبابية لدى مؤيدي حماس في العالم العربي، حول تراجع الحركة عن مواقفها وثوابتها. والأمر الخطير هنا أن تنشأ لدى الرأي العام العربي بتأثير هذه الضبابية اتجاهات استسلامية ترضى بالأمر الواقع تأثراً بموقفٍ لم تتخذه الحركة وتنازلٍ لم يثبت عنها.
إن من أهم واجبات الإعلام الإسلامي في هذه المرحلة أن يخصص جزءاً من نشاطاته للحديث عن ثوابت حماس وثباتها؛ حتى لا يتحول الرأي العام العربي بدوره إلى قوة ضغط إضافية في اتجاه التنازل، ولا يبخل قادة الحركة بتقديم ما يثبت ويبين موقفهم الحقيقي ويجلي ضبابية التصريحات السياسية. وفي احتفال أُقيم في خان يونس بقطاع غزة قبل أيام قليلة قال (محمود الزهار) وزير الخارجية السابق بوضوح: (موقف حماس والحل النهائي والإستراتيجي بالنسبة لها هو تحرير فلسطين.. كل فلسطين) ، وقال: (هناك بشرى قرآنية لنا بأننا سندخل المسجد الأقصى. ودخول المسجد يعني دخول العنوان أي كل فلسطين، فهذه البشرى لا يستطيع أحد أن ينكرها، ومن ينكرها فليراجع إيمانه وإسلامه) . (الوطن السعودية، 6/3/1428هـ) .
هذا الموقف الواضح لحماس من أبرز قيادييها جاء على لسان (ديفيد بن جوريون) مؤسس دولة الكيان الصهيوني الذي عدَّ الموقف العربي الرافض للتصالح مع الدولة الصهيونية أمراً طبيعياً، فقال: (لماذا ينبغي للعرب التوصل إلى السلام؟ لو قدِّر لي أن أكون زعيماً عربياً لما تصالحت مع الدولة الصهيونية على الإطلاق.. هذا أمر طبيعي.. هم لا يرون إلا شيئاً واحداً، هو أننا جئنا إلى هنا وسرقنا بلادهم، فلماذا ينبغي عليهم قبول هذه الحقيقة؟!) فعلاً؛ لماذا ينبغي علينا قبول من سرق بلادنا؟!!