مصطفى محمود محمد عبد العال عبد السلام
الكثير من الكُتَّاب لا يفرق بين الفقر والتخلف رغم وجود فوارق جوهرية بينهما؛ إذ إن هناك بعض الدول المتقدمة يوجد فيها فقراء وهو ما يعتبر دليلاً هاماً على سوء توزيع الدخل القومي. ورغم هذا لا توصف بأنها دولة فقيرة أو دولة متخلفة. وبالمثل هناك دول الجنوب يوجد فيها أغنياء كثيرون غير أن ذلك لا ينفي حقيقة كونها دولاً فقيرة أيضاً. إن وجود فقر في دولة غنية لا يجعلنا نعتبر هذه الدولة متخلفة؛ والعكس صحيح.
ويهتم هذا البحث بدراسة الفَرْق بين الفقر والتخلف؛ مع التركيز على مقاييس التخلف غير متجاهلين لمقاييس الفقر في الفكر الاقتصادي التقليدي، ثم معرفة الفروق الجوهرية بين الفقر والتخلف ومقاييس التخلف في الاقتصاد التقليدي. ويتعرض البحث أخيراً لمعرفة الفرق بين الفقر والتخلف في المفهوم الإسلامي.
أولاً: الفرق بين الفقر والتخلف، وكيفية قياس التخلف في الاقتصاد التقليدي:
التخلف الاقتصادي ـ مفهومه ـ كيفية قياسه:
في البداية يجب أن نشير إلى أن التخلف الاقتصادي ظاهرة مركبة متعددة الأبعاد؛ ومعنى ذلك أنها ظاهرة تتفاعل في إيجادها جميع جوانب المجتمع بدرجة أو بأخرى حيث إن التخلف الاقتصادي لا يوجد في مجتمعٍ ما بمفرده متعايشاً مع تقدم سياسي واجتماعي، وإنما يوجد التخلف الاقتصادي وسط تخلف سياسي واجتماعي وثقافي؛ ومن ثم فإن توفير نظام سياسي واجتماعي وثقافي رشيد يمكن أن يحقق مستوىً اقتصادياً متقدماً.
والتنمية الاقتصادية، وهي مطلب غالب الدول النامية، لا تتم في صورة أحادية؛ حيث إنها عملية إنسانية شاملة تتطلب متغيرات اقتصادية وكذلك عوامل نفسية واجتماعية (?) .
ومن ثَمَّ فإن الانصراف نحو التركيز على المتغيرات الاقتصادية وحدها دون أن نضع في الاعتبار الأهمية النسبية لباقي المتغيرات الأخرى الثقافية والاجتماعية والسياسية هو تشويه لحقيقة ومعنى التخلف الاقتصادي.
1 ـ مفهوم التخلف الاقتصادي:
لفظ (العالم الثالث) يطلق على الدول المتخلفة والتي تتمثل في الدول التي يقل متوسط الاستهلاك والرفاهية المادية لسكانها عن البلاد المتقدمة؛ وذلك على الرغم من إمكان تحسين الأوضاع الاقتصادية فيها بوسائل معروفة وواضحة (?) .
ومن خلال هذا التعريف فإن مفهوم التخلف الاقتصادي يفترض وجود موارد كافية يمكن استغلالها والاستفادة بها، ولكن لا يتم استغلالها؛ ومن ثم فهذا التعريف يميز بين الدول الفقيرة التي تقل فيها الموارد والثروات. وقد تكون هذه الدول الفقيرة راغبة في التقدم، ولكن فقر إمكانياتها المادية يقعدها عن النمو. أما الدول المتخلفة فسبب تخلفها لا يرجع إلى محدودية الموارد الإنتاجية كما هو في الدول الفقيرة بقدر ما يرجع إلى الاستخدام الرديء للموارد الاقتصادية؛ وهذا الاستخدام الرديء قد يأتي في صورة إهمال الموارد تماماً أو الاستخدام الجزئي لها أو سوء استخدامها؛ كأن تستخدم في نشاط صحيح بنسبة مخطئة أو تستخدم في نشاط خاطئ من الأصل؛ هذا إلى جانب أسباب أخرى قد تأتي من خارج العملية الإنتاجية كالبيئة المحيطة بالعملية الإنتاجية وآثار خصائصها السلبية عليها، وكذلك الآثار السلبية للعلاقات الاقتصادية الدولية كالاستثمارات الأجنبية وطبيعة المنتجات المتبادلة.
والتخلف الاقتصادي ينشأ في بيئة مختلة اجتماعياً وحضارياً؛ حيث إن الدول المتخلفة اقتصادياً متخلفة حضارياً أيضاً.
ومما سبق نخلُص إلى أن التخلف الاقتصادي ليس مرادفاً للفقر، وإنما هو خلل اقتصادي وحضاري واجتماعي ساعدت على نشوئه عوامل عديدة. وتتميز الدول المتخلفة بوجود موارد ضخمة مع توفر إمكانيات بشرية ومادية لازمة للارتفاع بمستوى المعيشة؛ يرافق ذلك تخلف في طرائق الإنتاج والتنظيم الاجتماعي والتطبيقات الاقتصادية لاستغلال هذه الموارد ومن ثم النهوض بالدولة المتخلفة والوصول بها إلى درجات عالية من النمو الاقتصادي.
2 ـ مقاييس التخلف الاقتصادي:
استُخدمت في قياس ظاهرة التخلف الاقتصادي وتحديد مداها ومستوى أو درجة التقدم أو التخلف بين الدول المختلفة معايير متعددة.
فمثلاً: معيار مستوى متوسط نصيب الفرد من الدخل العام للدولة اتُّخِذ معياراً مناسباً للتفرقة بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة وترتيب الدول المتخلفة بنسبة بعضها لبعض، ويعتبر بعض الباحثين أن الدول المتخلفة هي التي يقل فيها متوسط دخل الفرد في السنة عن مقدار معين من الدولارات، أو أن الدول النامية لا يتجاوز فيها دخل الفرد في السنة عن رُبع متوسط دخل الفرد الأمريكي (?) .
كما تقسَّم دول العالم المختلفة إلى مجموعات تبعاً لمستويات متوسطات الدخل، هذه المجموعات هي: الدول الشديدة التخلف، والمتخلفة نوعاً ما، والدول المتقدمة نسبياً، والدول المتقدمة.
ويعتري هذا المقياسَ قصور واضح؛ حيث لا يكفي وحده كمعيار دقيق للدلالة على الأوضاع الاقتصادية ومستويات المعيشة في الدول المتخلفة وطرق التوزيع فيها، كما أنه على الرغم من انخفاض مستويات الدخول الفردية في الدول النامية بصفة عامة إلا أن هناك من هذه الدول دولاً نفطية يزيد فيها متوسط دخل الفرد عن متوسط الدخل الفردي السائد في كثير من دول العالم تقدماً.
ولتلافي القصور في هذا المقياس فإن بعض الاقتصاديين يرى أن يضاف إلى هذا المقياس بعض المقاييس الأخرى التي تعبر عن مستوى الاستهلاك في سلع أساسية وبعض سلع الرفاهية الاجتماعية كالمياه والكهرباء والتلفزيون والمستوى التعليمي للسكان، ومستوى الرعاية الصحية المتوفرة لهم (?) .
وهذه جوانب هامة توضح نواحيَ من معيشة السكان؛ إلا أنها لا تعبر عن كافة النواحي التي يتعين التعرف عليها للحكم على مدى تقدم دولة أو تخلفها كإهماله لنواحي هامة كالإنتاجية والعمالة، ومستوى الأداء الإنتاجي والادخار والاستثمار، ومدى توفر الموارد الإنتاجية للاقتصاد، وطبيعة استغلال الموارد المتاحة، ومدى التناسق بين قطاعات ومؤسسات الاقتصاد المختلفة.
وقد أدى ذلك إلى وضع أكثر شمولية للتفرقة بين الدول النامية والدول المتقدمة وهو مدى قدرة الدولة على توفير احتياجات السكان الاقتصادية والاجتماعية والبيولوجية والنفسية وغيرها من سائر الاحتياجات الإنسانية. ووفق هذا المعيار فإن «الدولة المتخلفة هي التي توفر لسكانها من احتياجاتهم قَدْراً أقل مما توفره الدول المتقدمة» (?) .
إلا أنه معيار غير قابل للقياس في حد ذاته، ولا يوجد هناك طريقة لترجمته إلى مقياس عملي لتقدير مدى إشباع هذه الحاجات، ولعدم وجود معايير موضوعية لتقدير هذه الاحتياجات والتي تختلف باختلاف الأفراد والبيئات والفترات الزمنية وغيرها من عوامل أخرى عديدة، ولأنه أيضاً لا يبين الموارد المتاحة للمجتمع ومدى استغلال هذه الموارد وأساليب هذا الاستغلال أو تكلفته.
ونخلُص مما سبق إلى أنه من الصعب الوصول إلى تعريف جامع مانع لا يعتريه القصور لمقياس التخلف الاقتصادي، وليس معنى ذلك إسقاط أدلة هذه المعايير التي أبرزت درجات التخلف. ولكن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن هذه المعايير تتبع مدارس فكرية تختلف عن واقع الدول المتخلفة، ولذا فإن هذه الدراسات التي تنبع من تلك المدارس عادة ما توصي بعلاج لهذه المشاكل من خلال سياسات وإستراتيجيات إنمائية قد لا تناسب ظروف هذه الدول النامية وحاجتها إلى وسائل معينة للعلاج، أو أنها تفرض عليها من خلال مؤسساتها الاقتصادية طرقاً لا تتناسب مع بيئتها الاقتصادية، ولا تتفق مع قوميتها الاقتصادية، ومن ثَم تقع فريسة لحالة من التبعية الفكرية والاقتصادية.
ثانياً: الفرق بين الفقر والتخلف في المفهوم الإسلامي:
1 ـ المفهوم الإسلامي للفقر:
الإسلام يرى أن الفقر هو: «عدم القدرة على الحصول على الاحتياجات الضرورية لعدم توفر أسباب العيش الكريم الرغد، وهو ما يعني العِوَز والتعرض للجوع والحرمان والإملاق» (?) .
ومن ثَم فجهود التنمية وعمارة الأرض في الإسلام تهدف إلى رفع مستوى المعيشة وتحسينه بانتظام بما يكفل توفير حد الكفاية لجميع الأفراد، أي إغناء كل فرد بحيث يكون قادراً على الإنفاق على نفسه وعلى من يعول؛ وذلك تمييزاً له عن حد الكفاف الذي يعد الحد الأدنى للمعيشة.
ولا يقتصر توفير حد الكفاية على ضرورات الحياة اليومية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، بل يمتد إلى ما يلزم لتهيئة حياة كريمة للفرد مثل توفير الرعاية الطبية والتعليم الأساسي وسبل الزواج، أي كل ما يجعل الفرد يلحق بالمستوى المعيشي السائد في المجتمع.
والفقير في المفهوم الإسلامي هو من لا يملك قوت يوم وليلة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سأل وعنده ما يغنيه؛ فإنما يستكثر من النار، فقيل: وما حد الغنى يا رسول الله؟ قال: شِبَعُ يوم وليلة» رواه أبو داوود (?) .
2 ـ المفهوم الإسلامي للتخلف الاقتصادي:
إن الناظر في القرآن الكريم والسنة النبوية وأفعال الصحابة ليدرك أن الإسلام ينظر إلى التخلف على أنه تراخٍ عن العمل، وتراخٍ في السعي في طلب الرزق وعمارة الأرض بشكل فعال؛ فإن الله قد أعطى للإنسان العديد من الثروات والنعم التي لا تحصى، وطالبه بعمارة الأرض. يقول ـ تعالى ـ: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] ، وإن الإسلام يساعد الفقراء من مال الصدقة، ولا يساعد المتخلفين أو القاعدين عن العمل بغير عذر.
وهكذا فرق الإسلام بين الفقر والتخلف، واعتبر أن للفقير حقاً معلوماً في الزكاة وموارد بيت المال.
وعمارة الأرض ـ وهي مطلب شرعي ـ غير مقصورة على البعد المادي المتمثل في إنتاجٍ ما من المنتجات، بل يشمل أبعاداً أخرى اجتماعية وثقافية وأخلاقية؛ حيث تهدف عمارة الأرض إلى إقامة مجتمع المتقين الذي يتمتع بمستوى معيشي طيب يصل إليه بزيادة الإنتاج إلى أقصى حد مع استشعار تقوى الله في ذلك. فإذا أصيب المجتمع بمصيبة التخلف؛ فإن هناك ثلاثة معايير يمكن النظر إليها على أنها تفرقة بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة؛ وذلك في المفهوم الإسلامي:
1 ـ وجود الموارد الطبيعية الملائمة.
2 ـ وجود الجهد البشري الفعال الذي يتعامل مع تلك الموارد أو يحيلها إلى منتجات نافعة.
3 ـ وجود القيم التي تضمن بصفة مستمرة تفاعل الجهد البشري مع الموارد، ومن ثم دوام عملية الإشباع المتزايد للحاجات.
إذا وجدت تلك العناصر مجتمعة فإن المجتمع يعتبر مجتمعاً متقدماً، أو بالتعبير القرآني: مجتمعاً يحيا حياة طيبة تجمع بين رغد العيش واطمئنان النفس. يقول ـ تعالى ـ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] .
وتعد عمارة الأرض من أهم الأعمال الصالحة.
وإذا تخلف عنصر من العناصر السابقة فَقَدَ المجتمع طيب الحياة؛ فإذا خلا من الموارد الطبيعية المناسبة فعليه أن يبذل قصارى جهده في تعويضها وإلا كان فقيراً وليس متخلفاً ما دامت بقية العناصر قائمة.
وإذا فُقِدَ الجهد البشري في عمليات الإنتاج مع توفر الموارد فإنه في تلك الحالة يعتبر متخلفاً؛ إذ كان في إمكانه التقدم ولم يفعله، وإذا فقد مجموعة القيم الصالحة التي تضمن دوام التلاحم ونمو الإنتاج وعدالة توزيعه فإن ضخامة إنتاجه الاقتصادي لن تستمر طويلاً، وإذا كان متقدماً فهو تقدم وقتي سرعان ما يزول. يقول ـ تعالى ـ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] .
ومما سبق نخلُص إلى أن الإسلام ربط المشكلة بالإنسان وبما هو عليه من قيم، أي ربط المشكلة بجذورها الثقافية والاجتماعية العميقة مع عدم تجاهل عنصر المال ولا عنصر النشاط الاقتصادي للإنسان، أي العنصر المادي في التقدم.
3 ـ ظاهرة التخلف الاقتصادي في المجتمعات الإسلامية وكيفية قياسها:
إن جميع البلدان الإسلامية تعاني اليوم من التخلف الاقتصادي؛ فهذا لا خلاف حوله؛ حيث وقعت هذه الدول في حالة من التخلف الاقتصادي، كما أن معظم تلك البلدان قد أخفقت في أن تكون لها آلية نمو ذاتية نابعة من داخلها؛ فقد نتج التخلف الاقتصادي من تمزق النظام الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية بسبب الهيمنة الأجنبية الطويلة، وأدى شلل المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى عجزها عن الوفاء بحاجات الناس وإحداث تطور حقيقي؛ حيث ربط الاستعمار اقتصاده باقتصاديات الدول الإسلامية كتكملة له كارتباط التابع بالمتبوع؛ حيث حرص الاستعمار على عدم السماح للمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية أن تلعب دوراً في إحداث عملية نمو ذات جذور محلية، بل على العكس؛ فقد حرص على أن تحدث التنمية الاقتصادية على يد أنواع من المؤسسات الغربية.
وترتبط ظاهرة التخلف الاقتصادي بالقيم والمعتقدات؛ وذلك أن سبب التخلف الاقتصادي هو انحراف قيم ومعتقدات المجتمع الإسلامي وضعف بنيانه الاجتماعي، ولو أن المجتمعات صححت معتقداتها والتزمت بالقيم السليمة لأعطاهم الله بركات السماء والأرض على شكل ثروات مائية ومعدنية ومنتجات ودخول مباركة (?) .
ومن ثَم فهذا التخلف الاقتصادي الحادث في العالم الإسلامي هو بسبب الإعراض عن تعاليم وأوامر الله؛ فالأرض هي الأرض، والموارد هي الموارد، والإنسان هو الإنسان، ولكن السبب هو زوال القيم الصالحة التي يريدها الله أن تسود فترتقي الحياة وتتقدم (?) .
4 ـ قياس التخلف الاقتصادي في المفهوم الإسلامي:
ركز المنهج التقليدي على معدل تزايد الدخل الفردي الحقيقي كمقياس للتنمية والتخلف الاقتصادي، وزاد عليه مؤشرات أخرى مثل معدل البطالة والعدالة في توزيع الدخل وغيرها، إلا أن هذا المقياس لا يصلح وحده لقياس التخلف في المفهوم الإسلامي؛ حيث يرى أحد الباحثين أن المقياس الصحيح يجب أن يتعدى استخدام كل نماذج النمو الإجمالية المبسطة والتي تهتم بالتركيز على الحد الأقصى لمعدل النمو على أنه المؤشر الوحيد للتنمية، وأن عدم تحقيقه يمثل صورة للتخلف؛ إذ إن هناك المقياس الاجتماعي ومدى توزيع ناتج التنمية على مستحقيها (?) .
ويقترح بعضهم مقياساً آخر للتخلف الاقتصادي بعد رفض مقياس دخل الفرد في المتوسط، ويسمى (المقياس الإسلامي) وهو الوضع الحقيقي لكل فرد في المجتمع في صورته الحقيقية المتمثلة في السلع والخدمات التي يمكن الحصول عليها (?) ؛ على أنه لم يتضح الفرق بين هذا المقياس ومعدل الدخل الفردي الحقيقي الذي بسطته كتابات التنمية الاقتصادية في المنهج التقليدي.
ويقترح آخرون مقياساً للتخلف والتقدم من خلال مدى الالتزام بالإسلام عقيدةً أو شريعةً، ويمكن في ذلك استخدام مؤشرات معينة مثل مدى الأخذ بالأصول والمبادئ الدستورية في نظام الدولة، ومدى إقامة المؤسسات الإسلامية، ونشر الدعوة، وتوفير المساجد، وأجهزة البر وجهاز الحسبة، وما إلى ذلك (?) .
ومما سبق نخلُص إلى أن محاولة تفسير ظاهرة التخلف التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية من منظور إسلامي تحتاج منا إلى وقفة للتعرف على ماهية هذه المجتمعات؛ وذلك لأن ظاهرة التخلف لها سمات عامة تشترك فيها الدول المختلفة بغض النظر عن الدين. والذي يجعل لظاهرة التخلف في الدول الإسلامية سمات خاصة بها هو أن كثيراً من المجتمعات الإسلامية في زمننا قد ورثت الإسلام كدين تؤدي فرائضه الدينية على أحسن تقدير؛ أما ما يتعلق بما يتطلبه الدين الإسلامي من ممارسات يومية وأنظمة وغيرها فلا وجود له؛ ولهذا فإن تفسير ظاهرة التخلف التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية الحالية لا تختلف عن ظاهرة التخلف التي تعاني منها الدول غير الإسلامية بما تشتمل عليه من سمات، ولكن تزيد في حدة العقاب الذي ينزله الله ـ عز وجل ـ على شعوبها لبعدها عن تعاليم الإسلام وانبهارهم بالتقدم المادي للآخر ومحاولاتهم اليائسة والفاشلة للحاق بركب الآخر كمبتغى لأهدافه التنموية.
والمسألة لم تعد مسألة انتقال الجنوب من حالة التخلف إلى مصاف الشمال المتقدم؛ على الرغم من أن هذا الانتقال شبه مستحيل، بل إن المسألة هي: كيف يمكن تحقيق نموذج عالمي بديل يتجاوز الأزمة الحضارية التي بلغتها تجارب الدول المتقدمة نفسها؟ وهي تجارب قامت على مفهوم للسيطرة ذي حدين: سيطرة الإنسان على الإنسان، وسيطرة الإنسان على الطبيعة، وهو مفهوم كانت نتيجته تفاوتاً في المشهد بين بلدان أو طبقات غنية تتمتع بمستوى معيشي واستهلاكي مرتفع، وبين بلدان أو طبقات ما زالت تشكو من الجوع والحرمان والفقر والجهل والبؤس والتخلف من جهة، وإخلال رهيب في النظام الطبيعي إلى حد بات يهدد مستقبل الحياة على الأرض من جهة أخرى.
ومن هنا تبقى الحاجة إلى نموذج بديل يتجاوز هذه النماذج، ومنظومة أخرى تحقق المصالحة بين الإنسان والإنسان من جهة، والإنسان والطبيعة من جهة أخرى؛ وكله لا يأتي إلا من خلال العودة إلى تعاليم الله وشريعة السماء، وصدق الله العظيم القائل في محكم التنزيل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَي آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]