أحمد فهمي
تقصر قامة إيران عن بلوغ حافة طموحها السياسي في المنطقة؛ فهي لا تملك القدرات الكافية، كما أنها تعاني من معوقات سكانية واقتصادية وسياسية كثيرة، ودائماً احتاجت إيران إلى حليف خارجي يدعم خطواتها ويعضد طموحها.
وكان شاه إيران يعاقب الأمريكان بانفتاح على السوفييت، ويعاقب السوفييت بانفتاح على الأمريكان.
إلا أنه لم يصل إلى درجة الاستغناء عن كليهما في آنٍ واحد، وتظل تلك هي عقدة إيران بعد الثورة، البحث عن حلفاء يدعمون المسيرة الهلالية ويعوضون النقص الذاتي.
لكن هناك فرقاً بين الحليف الإستراتيجي والحليف التكتيكي؛ فالأول يدوم تحالفه، والثاني تحالفه مؤقّت بالمصلحة المترتبة عليه، ومثال الأول: حزب الله في لبنان، ومثال الثاني: الولايات المتحدة.
منذ قيام الثورة الخمينية عام 1979م لم يُعرف عن واشنطن قيامها بجهد مركّز وفعّال من أجل إسقاط النظام في طهران، ورغم انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ عام 1980م إلا أنَّ التعاون بينهما والتفاوض السرّي مستمران، وحتى الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت قرابة تسع سنوات لم تقدِّم أثناءها أمريكا ومن ورائها الدول الأوروبية للعراق الدعمَ الذي يكفي لتحقيق انتصار حاسم على إيران، وعندما قصفت طهران ناقلات النفط في الخليج العربي ردَّ الأسطول الأمريكي ردوداً عقابية محسوبة بدقّة ولا تؤثر على سير المعركة.
وقد توترت العلاقات الظاهرية بينهما في السنوات الأخيرة لتصل إلى مستوى توقُّع هجمة أمريكية نحو ثلاث مرات في رئاسة جورج بوش الابن فقط، لكن لم تنفذ هجمات في أيٍّ منها، بل كانت الاتصالات الأمريكية الإيرانية السرية متواصلة رغم ذلك.
إنَّ اختزال العلاقة بين طهران وواشنطن في ضربة عسكرية محتملة تحولت إلى أحجية يتضخم فيها المكون الإعلامي أكثر من السياسي، هذا الاختزال يشتِّت الأذهان عن ثوابت العلاقة، وأبرزها: أن واشنطن أكثر حرصاً على تماسك إيران الدولة ـ وليس النظام بالضرورة ـ باعتبارها (محوراً جيوبوليتيكاً مهماً) حسب تعبير مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق (زبجنيو بريجينسكي) ، بمعنى: أنها تمثل محور أطماع دولية ومعبراً إستراتيجياً إلى منطقة أكثر أهمية هي الخليج العربي، ودولة كهذه ليس من السهل الحديث عن إسقاطها أو تفكيكها، وخاصة أنه منذ ستين عاماً ـ تقريباً ـ كانت إيران لا تزال ممزقة بين سيطرة سوفييتية على شمالها، وهيمنة بريطانية على جنوبها، ولم يخلِّص طهران من هذه القسمة إلا استنجاد الشاه بالرئيس الأمريكي (روزفلت) الذي أزاح تأثير الدولتين لحساب الولايات المتحدة.
وتمضي العلاقة بين البلدين في مسارات بالغة التعقيد، فـ (شاهُ إيران) كان حليفاً مميزاً لواشنطن إلا أن خطط قلب نظامه كانت تُعدّ في أروقة البيت الأبيض في الوقت الذي كانت صفقات السلاح «المليارية» يوافق عليها البنتاجون وتُشحن إلى طهران، ومع أن الدلائل على الدور الأمريكي في الثورة الخمينية أكثر من أن تُحصى أو تنكر، فإن العلاقات بينهما مقطوعة منذ 27 عاماً.
ويمكن تحديد مستويات العلاقة بين طهران وواشنطن في ثلاثة مستويات، أولها: المستوى العلني الدعائي، وهو للاستهلاك المحلي والدعائي ويتبدَّى في مصطلحات مثل: «محور الشر» و «الشيطان الأكبر» .
والمستوى الثاني: نصف معلن، ويتمثل في جهود غير منتظمة ووساطات وتطمينات، ومن ذلك إعلان جلال طالباني الزعيم الكردي عن قيامه بوساطة بين إيران وأمريكا قبل غزو العراق عام 2003م، ونقله للمسؤولين الإيرانيين أن أمريكا (لن تُقْدِم على أي عملية ضد إيران أثناء الأزمة) .
والمستوى الثالث: سرِّي غير معلن، ويتضمن تنسيقات ومصالح مشتركة ومساومات، كانت قمة تنسيق المصالح بين الطرفين إبّان غزو أفغانستان والعراق. وبعيداً عن حكومة خاتمي ووزرائه كان ممثلو خامنئي ورفسنجاني يعقدون مباحثات ومفاوضات مع المسؤولين الأمريكيين في عواصم أوروبية، مثل: لندن وأثينا. وتعلم طهران جيداً أن صراعها مع واشنطن ليس صراع وجود بل مصالح، ولذلك يقول رفسنجاني: (الولايات المتحدة هي البلد الأهم في العالم، وإيران هي البلد الأهم في المنطقة، ومن المنطقي أن يسويا مشاكلهما) .
عوداً إلى أحجية «الضربة العسكرية» ؛ إذ يقدم وزير الخارجية الأمريكي الأسبق (هنري كيسنجر) تلميحاً مفيداً فيقول: (تضطر عملياً لاستخدام القوة مرة واحدة من كل عشر تلوِّح فيها باستخدام القوة، ولكن التهديد يجب أن يبدو دائماً حقيقياً وذا مصداقية) .
لكن أبا الحسن بني صدر ـ الرئيس الإيراني الأسبق ـ يزيد الوضع تعقيداً باعتباره أن طهران نفسها بحاجة إلى ضربة عسكرية لتجمع شتاتها، فيقول: (الحكومة الإيرانية التي تعاني من أزمات عديدة تحتاج إلى تعزيز وضعها من خلال تلقِّي ضربة عسكرية؛ لكي تستمر وتعزز وضعها الداخلي ومصداقيته) ، فهل توجه أمريكا ضربة عسكرية لإيران؟ أم أنها لن تضربها؟!