عبد الجواد الحمزاوي
كان كل شيء في الغابة يدعو للتفاؤل والبهجة؛ شمس ساطعة، ونسيم جميل، وأشجار قد اكتست بزينتها، والأهم من ذلك أن ميثاق حقوق الحيوانات قد أُعلن، وأن الذئب ـ كبير الغابة بعد أن انقرض الأسد والنمر ـ أعلن أنه شخصياً معنيٌّ بالحفاظ على هذا الميثاق وتطبيقه، إذاً؛ ممَّ يخاف ذلك الكبش؟! لماذا لا يذهب إلى الغدير الكبير ليشرب؟! ولماذا لا يعلن رضاءه لكل الكائنات عن هذا القرار الحكيم؛ الذي جعل غدران الغابة كلها غديراً واحداً؟!
نعم؛ هو حرٌّ في قراره، ويمكنه أن يصبر أكثر، وأن يبحث عن الماء في المرتفعات؛ ليشرب بعيداً عن هذا الغدير الكبير الذي تشرب منه كل الحيوانات وكل الوحوش. ولكن؛ لماذا لا يجرّب؟ سيذهب اليوم إلى الغدير ليشرب في وضح النهار، أمام أعين كل الحيوانات وكل الطيور، لا يمكن ـ حينئذ ـ أن يغدر الذئب، وساعتها إن غدر سوف يعلم الجميع أنه كاذب، وسيهبّون لمقاومته، وسيسقط ميثاق حقوق الحيوانات.
أخيراً؛ ارتفع صوت الكبش بالثغاء.. ماء.. ماء..
أخذ يجري خارجاً من مكمنه إلى الغدير، لم يراعِ اتجاه الريح في جريانه كما كان يفعل من قبل، لم يعدْ يهتم أن تحمل الريح رائحته إلى الوحوش، هو كبش محترم، ملتزم بكل القوانين، وهو ذاهب ليشرب من غدير الحيوانات الجديد، ولكن؛ لماذا توقف كبشنا عن الثغاء وعن الجريان؟! لماذا انبهرت نفسه وارتعشت مفاصله وازدادت دقات قلبه؟! هل يكون هذا لأنه رأى الذئب نفسه يشرب من الغدير؟ نعم؛ هذا هو السبب، الذئب يبدو جائعاً، ولا أحد بجانبه يشرب من كل الحيوانات، هل يعود أدراجه إلى حيث كان؟ لم يعدْ يفيد، لقد رآه الذئب وسمع صوته، لا بد أن يذهب رابط الجأش ويخفي كل مشاعره، لو جرى فسيعتبر الذئب ـ سيد الغابة الجديد ـ أن هذا سوء أدب منه، وسيعتبره مروّجاً للإشاعات التي تقول: إن الذئب لا يحترم وعوده وعهوده، ولا يحترم ميثاق الحيوانات الجديد، كما فعل من قبل مع تلك الغزلان التي لم تكن تملك نفسها حين تراه فتجري خائفة منه، لم يكن يُؤْويها عندئذ مكان، ولم يكن يساعدها حيوان، وفي النهاية تكون طعاماً للذئب؛ عقاباً لها على عدم تصديقها لوعود الذئب وإيمانه بالنظام الحيواني الجديد.
لا يدري هذا الكبش نفسه كيف قاوم مشاعر الخوف فيه؟ سيطر على كل جوارحه ومشى بخطى وئيدة، كان يرسم على وجهه ابتسامة كبيرة، ثم قال وهو ينطلق نحو الغدير: طاب صباحك يا سيد الغابة!
لم يردّ الذئب على تحية الكبش، نظر إليه فقط ثم أقبل على شرب المياه وهو يقول في نفسه: (أيها الخروف! ستكون فطوري اليوم لا محالة، سوف أجد حجة لآكلك بها، لو لم تكن هذه الطيور على هذه الأشجار تشهد ما يحدث لأكلتك على الفور، دون أن أكلِّف نفسي عناء البحث عن حجة سخيفة، ولكني سأصبر، وسوف أجد الحجة السخيفة أو المقنعة لا فرق، وفي النهاية سآكلك.. ها.. ها.. ها..) .
واصل الكبش سيره، لم يستطع أن يسير كثيراً، هو خائف ومرتعد، وهو يبذل قصارى جهده للسيطرة على نفسه، كان يريد أن يبتعد أكثر وأكثر لكنه لم يستطع، وقف ليشرب، فجأة صكَّ سمع كبشنا صوت الذئب يقول: أيها الخروف! ألم تكن تستطيع أن تنتظر حتى أنتهي أنا من شربي؟ ألا تعلم أنك بصنيعك هذا قد عكرت عليَّ الماء؟
تسمَّر الكبش مكانه، وازداد خفقان قلبه، اقترب الذئب وعيناه ترسلان شواظاً وبريقاً، ولكن الكبش قال: يا سيد الحيوانات! إن الماء يجري من ناحيتك، فكيف أعكّره أنا عليك؟
من فوق الأشجار ارتفع صوت عدد من الطيور؛ ترفرف وتقول: نعم أيها الذئب؛ كلام الخروف صحيح، لو كان هناك تعكير للماء فيجب أن يكون منك أنت؛ لا منه هو!
رغماً عنه توقف الذئب، نظر إلى أعلى الأشجار فوجد الأطيار واقفة تترقب، نظر إليها وضحك، ترك الكبش وأقعى مكانه، ينظر للكبش وهو يشرب ويقول في نفسه: (أنا معجب جداً بشجاعتك ـ أيها الخروف ـ وبثبات فؤادك، وهذا يزيدني رغبة في التهام لحمك، الذي يبدو ألذّ من لحم كل الخراف التي أكلتها، لا بأس؛ سأجد حجة أخرى آكلك بها..) .
وقتها؛ كان الكبش قد شرب وقرَّر الرجوع، لم يكن قد روى ظمأه تماماً، ولكنه رأى أن يبتعد عن الذئب. لم يتركه الذئب يمشي، أمسكه وهو يقول: ألستَ الذي شتمتني العام قبل الماضي؛ دون إساءة مني إليك؟ سأقتلك وأجعلك عبرة لكل من تسوّل له نفسه إهانة الناس بدون ذنب.
ثانيةً ضحك الكبش وهو يقول: إن عمري أيها الذئب لا يتجاوز العام إلا قليلاً؛ فلا يمكن أبداً أن يكون الذي شتمك هو أنا.
لم يترك الذئب الخروف من يده، ظل ممسكاً به ولكنه كان ساهماً يفكر (نعم أيها الخروف الشجاع؛ غلبتني هذه المرة أيضاً، كل من يراك يعرف أنك صغير السن، لماذا تسرعت أنا وقلت أن ذلك كان العام قبل الماضي؟ ولكن الحجج لا تفنى، وسآكلك) !
قال الذئب بصوت يُسْمع الأطيار فوق الأشجار: كلامك صحيح أيها الخروف؛ فأنت صغير السن، ولكن إذا لم تكن أنت الذي شتمتني فلا بد أنه أحد أقاربك؛ لأن شكله يشبهك تماماً؛ له قرون، وعلى ظهره صوف.
لم يستطع الكبش حينئذ إلا أن يجمع قوته في ساقَيْه الأماميتين، ثم يضرب بكل خوفه وجه الذئب وهو يقول: سأموت بكرامة أيها الذئب!
كانت المفاجأة على الذئب شديدة، ظل برهة مدهوشاً لا يصدق، كسر الكبش له سنّاً وجرحه في وجهه، وكانت الأطيار واقفة فوق الأشجار منقسمة على نفسها؛ فريق يرى الحق مع الذئب، وفريق يرى الكبش هو صاحب الحق، وفي النهاية مات الكبش، وحمله الذئب ومشى.