أدب الاختلاف
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
في ظلال الصحوة المباركة التي تعيشها الأمة الإسلامية في أقطار المعمورة
انتعشت الحركة العلمية، وأقبل كثير من الشباب -ولله الحمد والمنة - على طلب
العلوم الشرعية المختلفة - وهذا بلا شك مؤشر من مؤشرات الخير - ولكن أصيب
بعض طلاب العلم بآفتين خطيرتين:
الآفة الأولى: تسرع بعض طلاب العلم بالفتوى وهم لا يحملون من أدواتها إلا
القليل. وقد قال الإمام ابن القيم: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم
بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات
والعلامات، حتى يحيط به علماً.
والثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو
على لسان رسوله في هذا الواقع.
ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم
أجرين أو أجراً، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله
ورسوله» [1] .
والآفة الثانية: أن بعض طلاب العلم إذا بذل وسعه وقاده اجتهاده إلى تبني
رأي في مسألة من المسائل، يرى بأن ما توصل إليه هو عين الحق الذي لا حق
غيره، وكل ما خالف قوله ليس مرجوحاً فحسب، بل هو باطل..!
ويقوده هذا إلى أنه يريد أن يلزم الآخرين بالنتيجة التي توصل إليها، ويوالي
في ذلك ويعادي، فمن وافقه كان المحبوب المقرب، ومن خالفه كان المقلد الجاهل! وقد يؤدي هذا - في بعض الأحيان - إلى التنازع والتقاطع وتفرق الكلمة.
وسوف أبين منهج أهل السنة والسلف الصالح في هذا الباب، وعملي فيه هو
الجمع والترتيب، ولكن قبل الدخول في لب الموضوع وعند بيان موقف هؤلاء
العلماء تجاه بعضهم في مسائل الاجتهاد لابد من الإشارة إلى ملحوظتين:
1 - إن علماء الأمة ما كانوا يختلفون تشهياً، بل كان اختلافهم مبنياً على
اجتهاد.
2 - أن العلماء هم أقرب الناس إلى الله وأكثرهم خشية له، قال تعالى: [إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] [فاطر: 28] ، وقد ظهرت آثار هذه الخشية
في فتاويهم وتورعهم عنها، قال سفيان: «أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا
في المسائل والفتيا حتى لا يجدوا بداً من أن يفتوا» .
أولاً: ذم الفرقة والاختلاف:
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم
مُّسْلِمُونَ (102) واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا] [آل عمران: 102-
103] ، وقال تعالى: [إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ ومَا اخْتَلَفَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ
إلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ] [آل عمران: 19] .
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن
الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم [2] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:» تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا « [3] .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:» ألا أخبركم بأفضل من درجة
الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «صلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن: تحلق
الدين!» [4] .
ثانياً: منهج الصحابة في مسائل الاجتهاد:
اختلف الصحابة - رضي الله عنهم - في مسائل كثيرة، مع أنهم: (أبر
الأمة قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وأصحهم مقصوداً، وأكملهم نظرة، وأتمهم إدراكاً
وأصفاهم أذهاناً، الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد
الرسول [5] ، ولم يؤد هذا الاختلاف في يوم من الأيام إلى التباغض أو التقاطع، بل كان يعذر بعضهم بعضاً مع بقاء الألفة والمحبة) .
أخرج البخاري عن عبد الرحمن بن يزيد قال: «صلى بنا عثمان بن عفان
-رضي الله عنه - بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود - رضي الله
عنه -، فاسترجع ثم قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى
ركعتين، وصليت مع أبي بكر - رضى الله عنه - بمنى ركعتين، وصليت مع
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات
ركعتان متقبلتان [6] ، وزاد أبو داود:» قال الأعمش: فحدثنى معاوية بن قرة
عن أشياخ: أن عبد الله صلى أربعاً. قال: الخلاف شر « [7] ، وفي رواية
للبيهقي:» إني أكره الخلاف « [8] .
قال ابن تيمية:» وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها، على أن إقرار
كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات، والمناكح،
والمواريث، والعطاء، والسياسة، وغير ذلك. وحكم عمر أول عام في الفريضة
الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني التشريك في واقعة مثل الأولى، ولما
سئل عن ذلك؟ قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي. وهم الأئمة الذين
ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على
وجوب متابعتهم. وتنازعوا في مسائل عملية اعتقادية، ك: سماع الميت صوت
الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه قبل
الموت، مع بقاء الجماعة والألفة ... « [9] ..
وقال أيضاً:» ... وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا
تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: [فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]
[النساء: 59] ، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما
اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين،
نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة
خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع ... وأما الاختلاف في
الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم
يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ... « [10] .
ثالثاً: منهج السلف الصالح في مسائل الاجتهاد:
اختلف السلف الصالح - رضي الله عنهم - في مسائل كثيرة جداً، ولم يكن
ينكر بعضهم على بعض في مسائل الاجتهاد، بل كانت قلوبهم الكريمة السورة تتسع
لمثل هذه الأمور، وإليك بيان منهجهم:
قال يحيى بن سعيد الأنصاري - وهو من أجلاء التابعين:» ما برح أولو
الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله،
ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه « [11] .
وقال سفيان الثوري أيضا:» ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني
أن يأخذ به [12] .
وقال يونس الصدفي: «ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون
إخواناً وإن لم نتفق في مسألة» [13] .
قال الذهبي تعليقاً على كلام الإمام الشافعي: «هذا يدل على كمال عقل هذا
الإمام، وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون» .
وقال أحمد بن حنبل: «من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على
مذهبه ويشدد عليهم» [14] .
ومن لطيف ما أثر عن الإمام أحمد بن حنبل في هذا الباب قوله: «لم يعبر
الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن
الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً» [15] .
وقال ابن قدامة المقدسي: «لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه، فإنه لا إنكار على المجتهدات» [16] .
قال ابن تيمية: «مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر
عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه» [17] .
وقال أيضاً: « ... فأما أن هذه المسألة - يعني: الاختلاف في ذبائح أهل
الكتاب - أو نحوها من مسائل الاجتهاد يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر
على الآخر بغير حجة، فهذا خلاف إجماع المسلمين ... فقد تنازع المسلمون في
جبن المجوس والمشركين، وليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر على صاحب
القول الآخر إلا بحجة شرعية.
وكذلك تنازعوا في متروك التسمية، وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سموا عليها
غير الله، وفي شحم الثرب والكليتين، وذبحهم لذوات الظفر، كالإبل والبط ونحو
ذلك مما حرمه الله عليهم، وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا، ونحو ذلك من
مسائل.
وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين، فمن صار إلى قول مقلداً
لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلداً لقائله. لكن إن كان
مع أحدهما حجة شرعية وجب الانقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت» [18] .
وقال شمس الدين الذهبي: « ... ثم إن الكبير من أئمة العلم إذ كثر صوابه
وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه: يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته
وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك» [19] .
وقال ابن قيم الجوزية: «.. ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن
الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله
بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز
أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين» [20] .
رابعاً - عدم الإنكار لا يؤدي إلى ترك البيان وإظهار الحجة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: « ... إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر
باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية،
فمن تبين له صحة أحد القولين: تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار
عليه» [21] .
وقال أيضا: «ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة،
وإيضاح المحجة، لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد، فإن هذا فعل أهل
الجهل والأهواء» [22] .
خامساً - الاجتهاد السائغ لا يؤدي إلى التفرق والبغي:
قال ابن تيمية: «.. ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع
البغي لا لمجرد الاجتهاد، كما قال تعالى: [ومَا اخْتَلَفَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إلاَّ مِن
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ] [آل عمران: 19] . وقال: [إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] [الأنعام: 159] ، وقال: [ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ] [آل عمران: 105] .
فلا تكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ، بل مع نوع بغي» [23] .
وقال أيضاً: «قاعدة: في صفات العبادات التي حصل فيها تنازع بين الأمة
في الرواية والرأي، مثل: الأذان، والجهر بالبسملة، والقنوت في الفجر،
والتسليم في الصلاة، ورفع الأيدي فيها، ووضع الأكف فوق الأكف، ومثل التمتع
والإفراد والقران في الحج، ونحو ذلك، فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة
والشعائر أوجب أنواعاً من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون:
أحدها: جهل كثير من الناس أو اكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه
الله ورسوله، والذي سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته والذي أمرهم
باتباعه.
الثاني: ظلم كثير من الأمة أو اكثرهم بعضهم لبعض وبغيهم عليهم، تارة
بنهيهم عما لم ينه الله عنه، وبغضهم على من لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما
أوجب الله من حقوقهم وصلتهم -لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه، حتى
يقدمون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات من يكون مؤخراً عند الله
ورسوله، ويتركون من يكون مقدماً عند الله ورسوله لذلك.
الثالث: اتباع الظن وما تهوى الأنفس حتى يصير كثير منهم مديناً باتباع
الأهواء في هذه الأمور المشروعة، وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة من
الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن أهل السنة والجماعة،
كالخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم.
وقد قال تعالى في كتابه: [ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَذِينَ
يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ] [ص: 26] .
وقال في كتابه: [ولا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وأَضَلُّوا كَثِيراً
وضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ] [المائدة: 77] .
الرابع: التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف، حتى يصير
بعضهم يبغض بعضاً ويعاديه، ويحب بعضاً ويواليه على غير ذات الله، وحتى
يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللمز والهمز، وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي
والسلاح، وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة، حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض،
وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله، والاجتماع والائتلاف من
أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله.
وهذا الأصل العظيم وهو: الاعتصام بحبل الله جميعاً وأن لا يتفرق، هو من
أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت به وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في
مواطن عامة وخاصة.. وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة، بل وفي غيرها،
هو: التفرق والاختلاف، فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها
وغيرهم من ذلك ما الله به عليم، وإن كان بعض ذلك مغفوراً لصاحبه لاجتهاده
الذي يغفر فيه خطؤه، أو لحسناته الماحية، أو توبته، أو لغير ذلك. لكن يعلم أن
رعايته من أعظم أصول الإسلام، ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من
هذه الأمة بالسنة والجماعة، ويذكرون في كثير من السنن والآثار في ذلك ما يطول
ذكره، وكان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به هو
الإجماع، فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة ... » [24] .
سادساً: وقال في أن الاختلاف في المستحبات لا يؤدي إلى التفرق بل ينبغي
تركها تأليفاً للقلوب:
«.. وإذا كان النزاع إنما هو في الاستحباب علم الاجتماع على جواز ذلك
وإجرائه، ويكون ذلك بمنزلة القراءات في القرآن؛ فإن جميعها جائز، وإن كان
من الناس من يختار بعض القراءات على بعض، وبهذا يزول الفساد المتقدم، فإنه
إذا علم أن ذلك جميعه مجزئ في العبادة لم يكن النزاع في الاختيار ضاراً، بل قد
يكون النوعان سواء، وإن رجح بعض الناس بعضها، ولو كان أحدها أفضل لم
يجز أن يظلم من يختار المفضول ولا يذم ولا يعاب بإجماع المسلمين، بل المجتهد
المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين. ولا يجوز التفرق بذلك بين الأمة، ولا أن
يعطى المستحب فوق حقه، فإنه قد يكون من أتى بغير ذلك المستحب من أمور
أخرى واجبة ومستحبة أفضل بكثير، ولا يجوز أن تجعل المستحبات بمنزلة
الواجبات يمتنع الرجل من تركها ويرى أنه قد خرج من دينه أو عصى الله ورسوله، بل قد يكون ترك المستحبات لمعارض راجح أفضل من فعلها، بل الواجبات كذلك. ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظم في الدين من بعض هذه المستحبات، فلو
تركها المرء لائتلاف القلوب كان ذلك حسناً، وذلك أفضل إذا كان مصلحة ائتلاف
القلوب دون مصلحة ذلك المستحب، وقد أخرجا في الصحيحين: عن عائشة أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها:» لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية
لنقضت الكعبة ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها باباً يدخل الناس منه وباباً
يخرجون منه « [25] . وقد احتج بهذا الحديث البخاري وغيره على أن الإمام قد
يترك بعض الأمور المختارة لأجل تأليف القلوب ودفعاً لنفرتها، ولهذا نص الإمام
أحمد على أنه يجهر بالبسملة عند المعارض الراجح، فقال: يجهر بها إذا كان
بالمدينة، قال القاضي: لأن أهلها إذ ذاك كانوا يجهرون فيجهر بها للتأليف وليعلمهم
أنه يقرأ بها، وأن قراءتها سنة، كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة
الجنازة.
فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته، وبهذا يزول الشك والطعن، فإن الاتفاق إذا
حصل على جواز الجميع وإجزائه علم أنه داخل في المشروع، فالتناوع في
الرجحان لا يضر، كالتنازع في رجحان بعض القراءات وبعض العبادات وبعض
العلماء ونحو ذلك، بل قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلاً من القراء أن
يقرأ كما يعلم، ونهاهم عن الاختلاف في ذلك، فمن خالف في ذلك كان ممن ذمه
الله ورسوله، فأما أهل الجماعة فلا يختلفون في ذلك [26] .
سابعاً - المسائل التي يسوغ فيها الإنكار والمسائل التي لا يسوغ فيها الإنكار:
تنقسم المسائل التي اختلف فيها إلى قسمين:
القسم الأول: ما يسوغ فيها الإنكار، بل يجب في بعض المسائل، وذلك إذا
خالف القول نصاً - من كتاب أو سنة - قطعي الدلالة، أو إجماعاً صحيحاً، كمن
يقول بتحليل الربا، أو شرب الخمر، أو ينحرف عن منهج أهل السنة والجماعة
في باب العقائد المجمع عليها.
والقسم الثاني: المسائل التي لا يسوغ فيها الإنكار، كمسائل الاجتهاد التي لا
تتوفر فيها نصوص قطعية الدلالة، أو لا يوجد فيها نصوص بالكلية، وليس فيها
إجماع صحيح، ومن أمثلة ذلك:
1 - اختلاف العلماء في الذهب الملبوس هل تجب فيه الزكاة أم لا؟
2 - عدد ركعات صلاة التراويح.
3 - النزول إلى السجود هل يكون على اليدين أم على الركبتين؟
وغير ذلك من الأمثلة التي اختلف فيها السلف الصالح فما وسعهم يسعنا.
قال الإمام ابن القيم:» وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس
بصحيح. فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى، أو العمل.
أما الأول: فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً،
وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله.
وأما العمل: فإن كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب
درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها؟ !
والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة
وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء.
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على
من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل
الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم،
والصواب: ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به
وجوباً ظاهراً، مثل: حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ فيها - إذا
عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به - الاجتهاد لتعارض الأدلة، أو لخفاء
الأدلة فيها « [27] ..
الخاتمة:
في هذا العصر الذي تكالبت فيه قوى الشر من الشرق والغرب على المسلمين
يحتاج أهل السنة والجماعة إلى رص الصفوف وتكاتف الأيدي وتآلف القلوب ...
وإلى نبذ جميع أسباب الفرقة الوهمية التي ليس لها حظ من الأثر أو النظر، ونبذ
الأهواء والتعالي على حظوظ النفوس.. ينبغي أن تتسع صدورنا لمسائل الاجتهاد،
وأن لا تستهلكنا الاختلافات اليسيرة، وأن نترفع عن القيل والقال والجدل العقيم
الذي يقسي القلوب ويورث ضغائن القلوب، وقد قال المصطفى - صلى الله عليه
وسلم -:» ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل « [28] ، وإن أمانة
حمل هذا الدين وتبليغه للناس أمانة عظيمة، سوف نسأل عنها بين يدي جبار
السموات والأرض، [يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ ولا بَنُونَ (88) إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ] [الشعراء: 89] .