د. علوي بن عبد القادر السَّقَّاف
قصيدة البردة من القصائد الشهيرة في المديح النبوي، هامَ فيها أهل التصوف فشرحوها عشرات المرات وبلغات مختلفة (?) ، وشطَّروها، وخمَّسوها، وسبَّعوها، وعارَضوها، ونظموا على نهجها (?) ، وغَلَوْا فيها حتى جعل بعضهم لأبياتها بركة خاصة وشفاء من الأمراض (?) ، بل إن من كَتَبَةِ الأحجبةِ والتمائم من يستخدم لكل مرض أو حاجة بيتاً خاصاً: فبيتٌ لمرض الصرع، وبيتٌ للحفظ من الحريق، وآخر للتوفيق بين الزوجين، وهكذا (?) .
وكانت البردة وما تزال عند بعض الناس من الأوراد التي تُقرأ في الصباح والمساء في هيبة وخشوع (?) ، وأبياتها تُستعمل إلى اليوم في الرُّقَى وتتلى عند الدفن (?) ، وقد وضعوا لها شروطاً عند قراءتها كالوضوء واستقبال القبلة، وغير ذلك (?) . وزعموا أن سبب تسميتها بالبردة أنَّ صاحبها ألقاها أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فألقى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بردته كما ألقاها على كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ يقظة، مع أن قصة كعب بن زهير هذه لم تثبت بإسناد صحيح. وزعموا أنه كان مريضاً بالفالج فشفي بها ولذلك سميت بالبُرْأة (?) ، وبلغ غلوُّهم فيها أن زعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاركه في نظمها وأنه كان يتمايل عند سماعها؛ فلما انتهى الناظم إلى قوله:
(فمبلغُ العلمِ فيه أنه بشرٌ) ... توقف، فأضاف النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وأنه خيرُ خلقِ الله كلهمِ) (?) .
هذه القصيدة انتقدها كثيرٌ من أهل العلم (?) في أبيات معينة تعدُّ من أكثر الأبيات غُلُوّاً عندهم، ودافع عنها آخرون وردُّوا ما وُجِّه إليها من نقد، معلِّلين كل بيت منتَقَد فيها بما ينفي علة النقد. ومن هذه الأبيات المنتقَدة التي دافع عنها أتباع البوصيري وزعموا أن منتقديها لم يدركوا مراده، في قوله:
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلَّةَ القدمِ
وقوله:
يا أكرمَ الخلق ما لي من ألوذُ به سواكَ عند حلولِ الحادثِ العَمِمِ
وقوله:
فإنَّ من جودك الدنيا وضرَّتها ومن علومك علم اللوح والقلمِ
فأصبح كثير من الناس لا يعرفون غلوَّ البوصيري إلا من قصيدته البردة، ولا يعرفون ما في البردة من غلوٍّ إلا من هذه الأبيات؛ فإذا كانت هذه الأبيات مفسَّرة ومبرَّرة، سلِمتِ البردة وسلِم البوصيري، فينتقل اللوم إذاً إلى منتقديه المتشددين!
والرجل ـ كما يزعمون ـ إمامٌ عالمٌ عاملٌ صالحٌ زاهدٌ ... ، وقصيدته البردة زهراء غراء يتبرك بها الناس، وفيها شفاء لأمراضهم إلى آخره، وهذه الأوصاف مذكورة في كتبهم (?) .
فهل صحيح أن بردة البوصيري ليس فيها من الغلو إلا هذه الأبيات؟ بل هل صحيح أن البوصيري إمامٌ عالمٌ عاملٌ، وقصائده، سواء البردة أو غيرها، تخلو من الغلو؟! هذا ما أردت بيانه في هذه المقالة.
أما البوصيري فهو أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري، مصري النشأة، مغربي الأصل، شاذلي الطريقة (?) .
ولد سنة 608 هـ وتوفي سنة 696 هـ، والرجل لم يكن عالماً قط، ولم يعدَّه أحدٌ من المترجمين له في عداد العلماء، بل عدُّوه من الشعراء (?) ، ومن عدَّه كذلك من المعاصرين لم يستطع أن يثبت ذلك، وإنما هي ألقاب تكال كيلاً كما هي عادة القوم (?) .
والبوصيري كان ممقوتاً لإطلاق لسانه في الناس بكل قبيح، وذكره لهم بالسوء في مجالس الأمراء والوزراء (?) ، سيئ الخُلُق مع زوجته وغيرها، شحَّاذاً، مضطرباً في شخصيته، فتارة يمدحُ النصارى ويذُمُّ اليهود، وتارة يمدح اليهود إرضاءً للنصارى، وتارة يذم الاثنين معاً (?) ، وكان كثير المدح للسلاطين طمعاً فيما عندهم؛ وهذا ليس غريباً على الشعراء لكنه ليس من صنيع العلماء، أضف إلى ذلك أنَّ له أبياتاً كثيرة في البردة والهمزية وبقية قصائده الواردة في ديوانه، فيها من الغلو ما يصدِّق قول منتقديه فيه، وإليك جوانب مما ذُكر:
أما سوء خلقه مع زوجته فقد ذمَّها وأشار إلى اتهامها بالفاحشة في قصيدة طويلة، وفي القصيدة من الفحش والفجور والفسق ما فيها، نسأل الله السلامة:
وَبَليَّتي عرسٌ بُليت بمقتها والبعل ممقوت بغير قيامِ
جعلت بإفلاسي وشيبي حجة إذ صرت لا خلفي ولا قدامي
بلغت من الكبر العِتيِّ ونُكِّست في الخلق وهي صبية الأرحامِ
إن زرتُها في العام يوماً أنتجت وأتت بستة أشهر بغلامِ
أوَ هذه الأولاد جاءت كلها من فعلِ شيخٍ ليس بالقوَّام؟!
وأظن أنهمُ لعظم بليتي حملت بهم لا ش في الأحلامِ
أوَ كلَّ ما حَلِمت به حَمَلت به؟ من لي بأن الناس غير نيامِ؟
يا ليتها كانت عقيماً آيساً أوْ ليتني من جملة الخدامِ
أوْ ليتني من قبل تزويجي بها لو كنت بعت حلالها بحرام!
أوْ ليتني بعض الذين عرفتهم ممن يحصِّن دينه بغلام! (?)
والبوصيري كان شحَّاذاً يستخدم شِعره في استجداء ما عند الناس ـ وهذا ليس من صنيع العلماء ـ فها هو يشكو للصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن حنا حاله وكثرة عياله بقوله:
أيها الصاحب المؤمل أدعو كَ دعاء استغاثة واستجارهْ
أثقلتْ ظهري العيال وقد كنتُ زماناً بهم خفيف الكارهْ
ولو أنني وحدي لكنت مريداً في رباطٍ أو عابداً في مغارهْ
أحسب الزهد هيِّناً وهو حربٌ لست فيه ولا من النَّظَّارهْ
لا تكلْني إلى سواكَ فأخيارُ زماني لا يمنحون خيارهْ
ووجوهُ القُصَّاد فيه حديد وقلوبُ الأجوادِ فيه حجارهْ
فإذا فازت كفُّ حرٍّ بِبُرٍّ فهو إما بنقضةٍ أو نشارهْ
إن بيتي يقول قد طال عهدي بدخول التِّلِّيس لي والشكارهْ
وطعامٌ قد كان يعهده النا سُ متاعاً لهم وللسيارهْ
فالكوانين ما تعابُ من البردِ بطباخةٍ ولا شَكَّارهْ
لا بساطٍ ولا حصيرٍ بدهليزٍ ولا مجلسٍ ولا طيارهْ (?)
ويطلب من غيره كنافة في شهر الصوم فيقول:
ما أكلنا في ذا الصيام كنافهْ آه وا بُعدها علينا مسافهْ
قال قوم إنَّ العماد كريم قلت هذا عندي حديث خرافهْ
أنا ضيفٌ له وقد مت جوعاً ليت شعري لِمَ لا تعد الضيافهْ
وهو يطعم الطعام فما يُطْعِمُه إلا بسمعةٍ أو مخافهْ (?)
وقال يهجو أناساً سرقوا حمارته، وبالغ في ذلك جداً من أجل حمارة! فقال:
أرى المستخدمين مشوا جميعاً على غير الصراط المستقيمِ
معاشر لو وُلوا جناتِ عدن لصارت منهمُ نار الجحيمِ
فما من بلدة إلا ومنهم عليها كل شيطان رجيمِ
فلو كان النجوم لهم رجوماً لقد خلتِ السماءُ من النجوم (?)
وكان مضطرب الشخصية يسير مع هوى نفسه وطمعها؛ فلما لم يهدِ له النصارى طعاماً في عيدهم عيد المسيح هجاهم ومدح اليهود نكاية فيهم، فقال:
يهود بلبيس كلَّ عيدٍ أفضل عندي من النصارى
أما ترى البغل وهو بغلٌ في فضله يفضل الحمارا (?)
فلما هدَّده النصارى تراجع ومدحهم وذم اليهود، فقال:
ما للنصارى إليَّ ذنبٌ وإنما الذنب لليهودِ
وكيف تفضيلهم وفيهم سرُّ الخنازير والقرودِ (?)
أما مدحه لسلاطين زمانه مستجدياً ما عندهم، فحدِّث ولا حرج، وديوانه مليءٌ بذلك (?) ، ولا تخلو كثيرٌ من قصائده من الغلو في الممدوح، وإليك نزراً يسيراً منها:
فمن ذلك قوله يمدح الوزير زين الدين الصاحبي بقوله:
أهل التقى والعلم أهل السؤددِ فأخو السيادة أحمد بن محمدِ
الصاحب بن الصاحب بن الصاحب الحبر الهمام السَّيِّدِ ابن السَّيِّدِ
لا تشركن به امرأً في وصفه فتكون قد خالفت كلَّ موحدِ (?)
ويقول مادحاً الصاحب بهاء الدين ويطلبه حمارةً، ويذم آخرَ مقرباً من الصاحب حسداً له:
صاحبٌ لا يزال بالجود والأفضال طلق اليدين حلو العبارهْ
كم هدانا من فضله بكتاب معجز من علومه بأثارهْ
إنما يذكر العطية من كانت عطاياه تارة بعد تارهْ
سيدي! أنت نصرتي كلما شن عليَّ الزمان بالفقر غارهْ
شابَ رأس وما رأست كأني زامر الحي أو صغير الحارهْ
وابن عمران وهو شرُّ متاع للورى في بطانة وظهارهْ
حسَّن القربُ منكم قبحَ ذكراه كتحسين المسكِ ذكر الفارهْ
فهو في المدح قطرةٌ من سحابي وهو في الهجو من زنادي شرارهْ
ما له ميزةٌ عليَّ سوى أنَّ له بغلة وما لي حمارهْ (?)
ويمدحه مرة أخرى ويشكو له حاله، فيقول:
يا أيها المولى الوزير الذي أيامه طائعة أمرهْ!
ومن له منزلة في العلا تكلُّ عن أوصافها الفكرهْ
أخلاقك الغرُّ دعتنا إلى الإدلاء في القول على غرهْ
إليك نشكو حالنا إننا عائلة في غاية الكثرهْ
صاموا مع الناس ولكنهم كانوا لمن يبصرهم عبرهْ
فارحمهمُ إن أبصروا كعكةً في يد طفلٍ أو رأوا تمرهْ
تشخص أبصارُهم نحوها بشهقةٍ تتبعها زفرهْ
والبوصيري اشتهر عنه شعره في المدائح النبوية وهو من أرقى الشعر وأجوده لولا غلوٌّ فيه، ومن قرأ قصائده كما في البردة الميمية والقصيدة الهمزية وبقية قصائده في ديوانه ظهر له اطِّراد الرجل في غلوِّه، وأبياته المجملة المحتملة لأكثر من معنى في قصيدةٍ، تفسرها أبياتٌ أخرى في قصيدة أخرى فلا مجال لتبرئته منه، وهاكم بعض الأمثلة:
قوله في البردة:
فإنَّ من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلمِ (?)
يؤيده البيت الخامس من الهمزية:
لك ذات العلوم من عالم الغيب ومنها لآدم الأسماءُ
لذلك قال الهيتمي في شرح هذا البيت:
(إن آدم لم يحصل له من العلوم إلا مجرد العلم من أسمائها، وأن الحاصل لنبينا هو العلم بحقائقها، ومسمياتها، ولا ريب أن العلم بهذا أعلى وأجل من العلم بمجرد أسمائها؛ لأنها إنما يؤتى بها لتبيين المسميات؛ فهي المقصودة بالذات، وتلك بالوسيلة، وشتان ما بينهما، ونظير ذلك أن المقصود من خلق آدم إنما هو خلق نبينا - صلى الله عليه وسلم - من صلبه؛ فهو المقصود بطريق الذات، وآدم بطريق الوسيلة. ومن ثم قال بعض المحققين: إنما سجد الملائكة لأجل نور محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي في جبينه (?) .
والبوصيري كغيره من غلاة الصوفية الذين يعتقدون أن الدنيا بمن فيها لم تُخلق إلا من أجل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونور محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ذكره في البردة وغيرها. قال في البردة:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورةُ منْ لولاه لم تخرجِ الدنيا من العدمِ
وقال:
وكل آيٍ أتى الرُّسْلُ الكرامُ بها فإنما اتصلت من نوره بِهِمِ
وقال:
فاق النبيين في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ ولم يدانوه في علمٍ ولا كرمِ
وكلُّهم من رسول الله ملتمسٌ غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ
وقال في الهمزية مؤكداً هذا المعنى:
كلُّ فضلٍ في العالمين فمِنْ فضلِ النبي استعاره الفضلاءُ
قال الهيتمي في شرح البردة: (فإنما اتصلت من نوره بهم: أي وصلت منه إليهم بطريق الاستمداد؛ وذلك لأن نوره - صلى الله عليه وسلم - كان مخلوقاً قبل آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بل قبل سائر المخلوقات من السموات وما فيها والأرض وما عليها، وغير ذلك) (?) وهذا من خرافات الصوفية؛ فالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ولدُ آدم وخُلِق بعد آدم؛ فكيف يكون نوره خلق قبله؟! عليه صلوات ربي وسلامه.
وقال في شرح الهمزية: (لأنه - صلى الله عليه وسلم - الممد لهم؛ إذ هو الوارث للحضرة الإلهية، والمستمد منها بلا واسطة دون غيره؛ فإنه لا يستمد منها إلا بواسطته - صلى الله عليه وسلم -، فلا يصل لكامل شيء إلا وهو من بعض مدده وعلى يديه؛ فآيات كل نبي إنما هي مقتبسة من نوره؛ لأنه كالشمس، وهم كالكواكب؛ فهي غير مضيئة بذاتها وإنما هي مستمدة من نور الشمس؛ فإذا غابت أظهرت أنوارها فهم قبل وجوده - صلى الله عليه وسلم - إنما كانوا يظهرون فضله، وأنوارهم مستمدة من نوره الفائض ومدده الواسع) (?) . كلام لا دليل عليه لا عقلياً ولا نقلياً، إنما هو كلام في كلام، لا زمام له ولا خطام.
وفي البردة الاستجارة والاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك عند قوله:
ما سامني الدهرُ ضيماً واستجرت به إلا ونلتُ جواراً منه لم يضمِ
ولا التمستُ غنى الدارين من يده إلا التمستُ الندى من خير مستلمِ
ومعنى ذلك: أي ما ظلمني أهل الدهر في وقت من الأوقات وطلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخلني في جواره ليحميني من ضيم الدهر إلا وقربني منه (?) .
والاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة في شعر البوصيري ـ وهي أشنع من التوسُّل، وإن خلط بينهما بعضُ الناس جهلاً أو تلبيساً ـ ولم تقتصر على البردة فقط، بل هي في غيرها أكثر غلواً، ومن ذلك قوله كما في (الديوان) :
يا نبي الهدى استغاثةُ مَلْهُوفٍ أضرتْ بحاله الحوباءُ
يدَّعي الحب وهو يأمر بالسوءِ ومن لي أن تصدق الرغباءُ
إلى أن قال:
هذه عِلَّتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داءُ
ومن الفوز أن أبثك شكوى هي شكوى إليك وهي اقتضاءُ (?)
وأشد من ذلك دعاؤه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصفح عنه وأن يقبل عذره بقوله:
يا من خزائنُ جودهِ مملوءةٌ كرماً وبابُ عطائه مفتوحُ
ندعوك عن فقرٍ إليك وحاجةٍ ومجالُ فضلك للعُفَاة فسيحُ
فاصفح عن العبد المسيء تكرماً إن الكريمَ عن المسيء صفوحُ
واقبل رسولَ الله عذرَ مقصِّرٍ! هو إن قبلت بمدحك الممدوحُ
في كلِّ وادٍ من صفاتك هائمٌ وبكلِّ سرٍّ من نداك سبوحُ (?)
وأقبح منه غلوُّه في الشريفة نفيسة بنت الحسن بن زيد ابن الحسن بن علي ـ رضي الله عنهم ـ بقوله:
سليلة خير العالمين «نفيسة» سمت بك أعراقٌ وطابت محاتدُ
إذا جحدت شمسُ النهار ضياءها ففضلك لم يجحده في الناس جاحدُ
بآبائك الأطهار زينت العلا فحبات عقد المجد منهم فرائدُ
ورثتِ صفاتِ المصطفى وعلومَه ففضلُكما لولا النبوةُ واحدُ! (?)
وفي البردة أخطاء أخرى نمر عليها مروراً سريعاً حتى لا يظن ظان أنها مقصورة على بيتين أو ثلاثة؛ فمن ذلك:
قوله:
أقسمتُ بالقمرِ المنشقِّ إنًّ له
من قلبه نسبةً مبرورةَ القسمِ
وهذا قسم بغير الله لا يجوز.
وقوله:
دَع ما ادَّعَتهُ النصارى في نَبِيِّهِمِ واحكُم بما شئتَ مَدحاً فيه واحتَكِمِ
وكأن الناظم يقول: امدحه بما شئت من المدح لكن لا يصل بك المدح إلى تأليهه كما فعلت النصارى مع عيسى عليه الصلاة والسلام؛ وهذا باطل، وليس معنى حديث: «لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم» أي أطروني لكن لا يصل إطراؤكم إلى ما وصل إليه النصارى من أنه ابن الله وثالث ثلاثة! بل معناه: لا تبالغوا في إطرائي كما بالغ النصارى في إطراء نبيهم حتى أداهم ذلك إلى تأليهه.
ومن ذلك قوله:
فإنَّ لي ذِمَّةً منه بتَسمِيَتِي مُحمَّداً وهُوَ أوفَى الخلقِ بالذِّمَمِ
وهذا غير صحيح، فليس كل من تسمى بمحمد صارت له ذمة بهذه التسمية؛ فما أكثر من تسمى بمحمد وهو في عداد الفسقة، ولكن للأسف تجد كثيراً منهم يرددون هذا البيت وغيره وهم لا يفهمون معناه.
وقوله أيضاً:
لا طيبَ يَعدِلُ تُرْباً ضَمَّ أعظُمَهُ طوبى لمُنتَشِقٍ منه وملتَثِمِ
الانتشاق: الشم، والالتثام: التعفر أو التقبيل، والناظم يدعو لأن ننتشق ونلتثم تراب قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من الغلو أيضاً.
وقوله:
لعَلَّ رَحمَةَ رَبِّي حينَ يَقسِمُهَا تَأتِي على حَسَبِ العِصيَانِ في القِسَمِ
وهذا خطأ أيضاً، ورحمة الله تأتي على حسب الطاعة لا المعصية ـ كما يرجو البوصيري ـ وإلا لاستكثر الناس من المعاصي.
والحاصل أن البوصيري كان من غلاة الصوفية الشاذلية، ولا ينفع الذين دافعوا عنه التماسهم العذر له في بعض الأبيات أو توجيهها وجهة حسنة؛ فهذا إنما يقال لمن كان سليم المعتقد سليم المنهج والطريقة ثم تزلُّ قدمُه في مسألة أو مسألتين؛ فهذا يُلتمَس له العذر فيها، أمَّا من كانت هذه طريقته، وهذا معتقده، وهذا ديدنه، فمهما التمسنا له العذر في بيت أو بيتين؛ فماذا عن الباقي؟! وماذا عن شرَّاح هذه القصائد الذين يؤكدون هذه المعاني ويتتابعون عليها في شرح قصائده؟!
وهذا كله لا يمنعنا أن نشيد بقوةِ شِعْره وجزالته، سواء كان من شعر مديح المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أو ما فيه من حِكَمٍ ودُرَرٍ، فمن مليح المديح قوله في البردة:
أكرِمْ بخَلْقِ نبيٍّ زانَهُ خُلُقٌ بالحُسنِ مشتَمِلٌ بالبِشْرِ مُتَّسِمِ
كالزَّهرِ في تَرَفٍ والبدرِ في شَرَفٍ والبحرِ في كَرَمٍ والدهرِ في هِمَمِ
وقوله واصفاً الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ:
هُمُ الجبالُ فَسَلْ عنهُم مُصَادِمَهُم ماذا لَقِي منهمُ في كُلِّ مُصطَدَمِ
وَسَلْ حُنَيْناً وَسَلْ بَدْراً وَسَلْ أُحُداً فُصولُ حَتْفٍ لَهم أدهى مِنَ الوَخَمِ
كأنَّهُم في ظُهورِ الخَيْلِ نَبْتُ رُبىً مِن شِدَّةِ الحَزْمِ لا مِن شَدَّةِ الحُزُمِ
وفيها من الحكم الكثير، كمثل قوله:
والنفسُ كالطفلِ إن تهمله شبَّ على حبِّ الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
فاصرف هواها وحاذر أن توليه إن الهوى ما تولى يُصْمِ أو يَصِمِ
وراعِها وهي في الأعمالِ سائمةٌ وإن هي استحلتِ المرعى فلا تَسِمِ
كم حسَّنَتْ لذةً للمرءِ قاتلةً من حيثُ لم يَدْرِ أنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ
قد تُنكر العينُ ضوءَ الشَّمس من رمَدٍ ويُنكر الفمُ طعمَ الماءِ من سقمِ
وخالفِ النفسَ والشيطانَ واعصِهِما وإن هما محَّضاك النُّصْحَ فاتهمِ
ولا تُطِعْ منهما خَصْماً ولا حَكَماً فأنت تعرفُ كيدَ الخصمِ والحَكَمِ
ومن بديع شعره:
ذهبَ الشبابُ وسوف أذهبُ مثلما ذهبَ الشبابُ وما امرؤ بمخلَّدِ
إنَّ الفناء لكلِّ حيٍّ غايةٌ محتومةٌ إن لم يكن فكأنْ قَدِ (?)
هذا، وأسأل الله ـ عز وجل ـ أن يهدي ضال المؤمنين، وأن يردَّه إلى الحق رداً جميلاً.
وصلى الله وسلم على حبيبنا وسيدنا ونبينا محمدٍ عبدِ الله ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين.