د. يوسف بن صالح الصغير
لا يمكن لأيِّ إنسان أن يمنع نفسه من التفاعل مع محيطه الذي اتّسع مع ثورة الاتصالات ليشمل الكون؛ فلا بد له من التأثر والتأثير. ولم يعد بمقدور الإنسان التفاعل مع كل مفردات المحيط؛ فاختصت كل فئة بمؤثر؛ فمن يتابع الفنَّ والرياضة أغرق نفسه بالكمِّ الهائل من الأحداث والمناسبات والرموز المحلية والعالمية، وملكت قيادَه القنواتُ المرئية والمسموعة والمطبوعات المتخصصة، ولا يعدم أحدهم أن يجد له رمزاً ومثلاً أعلى يشدّ الرحال إليه، ويسعد بالنظر إليه، ويطير فرحاً لو وقَّع له على كرة أو ورقة، كل هذا مع كون الرمز لا يبادله الشعور، ولا يتفق معه، بل غالباً يخالفه في المعتقد واللسان والجنس؛ فكم من الناس مات إثر هزيمة فريق، أو موت مطرب! وكم من الناس لا يمدّ يده بمال إلا لدعم فريق رياضي، أو لسدِّ خلة لمطربة عجوز! إنها مظاهر تدلُّ على حالة من التعطش للبحث عن الذات، وإرضاء النفس بالانتماء.
إننا أمة يوجد فيها من يُعجب بـ (مايكل جاكسون) و (ريفيلينو) لإبداع يراه مع شدة الاختلاف الثقافي والديني، فلا غرابة ـ إذاً ـ أن نجد أن كثيراً من الأمة يتخذ موقفه من (أحمدي نجاد) بناءً على تصريحات حول المحرقة اليهودية المزعومة، ويمجّد (حسن نصر الله) ويرفع صوره لمعركة خاضها مع اليهود نحن فيها ضمن الغنائم والأسلاب وضحية لكل منتصر؛ فلا ننسى أن تحالفهم يكون علينا، واختلافهم من أجلنا.
ولأن الأمة متعطشة للرموز؛ فهي تبحث عن كل من يمكن أن يكون رمزاً لها، بل وتتبنَّى كل من يستهدفه العدو؛ باعتباره رمزاً لها، وعلى هذا الأساس تفاعلت الأمة مع محاكمة ومن ثمَّ تصفية أو اغتيال أو إعدام الرئيس السابق (صدام حسين) ، وسأحاول في هذه العجالة فَهْم دوافع الأمة الفطرية لترميز (صدام حسين) .
إذا كانت حياة صدام مليئة بالمواقف والأحداث؛ فإن مرحلة حكمه تميزت باختزال العراق وحزب البعث بشخص (صدام حسين) ؛ فهو الذي قرَّر بالتنسيق مع الغرب محاربة إيران (الخميني) ، وهو الذي قرَّر بضوء أخضر من أمريكا دخول الكويت، وهو الذي قرَّر إعادة هيكلة الحزب، وأطلق ما يسمى بـ (الحملة الإيمانية) وفرض على البعثيين حفظ آيات وأحاديث، وهو الذي أضاف (الله أكبر) للعلم العراقي، وهو الذي أصرَّ على تصفية قيادات الحزب من الشيعة الذين خططوا لانقلاب بالتنسيق مع الأسد، وهو الذي أعدم كلَّ من تمرد على سلطته، ولم يتسامح حتى مع أزواج بناته.
والسؤال المهم: أنَّ البلد تعرَّض لغزو خارجي، تدعمه قوى إقليمية وداخلية، اتفقت على تحطيم العراق القديم، وبناء عراق جديد، يمثِّل فيه السُّنّة دور الهنود الحُمر، وتمَّ تسريح الجيش والأمن، وفُصل الموظفون السُّنّة بدعوى اجتثاث البعث، ومن بقيَ تكفّلت به فِرَق الاختطاف والتصفية شبه الرسمية، وتدمير مدن الفلوجة، وتلعفر، وعمليات الحصار، والتفتيش، والاعتقال، والتصفية المستمرة في المناطق السُّنّية، كل هذا والخبر الأول غالباً هو عن جلسات محاكمة صدام ورفاقه، والتهمة هي إعدام مجموعة من الشيعة الأكراد في الدجيل، اتهموا بمحاولة اغتيال رئيس الدولة لحساب إيران.
ويمكن وصف المحكمة أنها أمريكية؛ فهو في سجنهم وعهدتهم، ولكن القاضي فيها كردي، والادِّعاء شيعي، أما الدفاع فسُّنّة؛ تَعَرض بعضهم للاغتيال أثناء المحاكمة، وفي كل يوم يقتل الحكام الجدد أكثر ممن نُصبت المحاكمة من أجله، وكان عنوان العدالة الوحيد هو طول المحاكمة، ومجيء وزير العدل الأمريكي السابق ليمثل دور الدفاع عن صدام، وبين ذلك تعرّض صدام للطرد والضرب ومحاولة الإذلال بنشر صورة في زنزانته وهو بملابسه الداخلية يغسل ملابسه بنفسه، وباختصار كانت المحاكمة تمثِّل صورة مصغرة للعراق؛ السجّانُ فيها أمريكي، والسجين فيها سُنّي، والأدوات أكراد وشيعة، أما السُّنّة فهم يمثلون الدفاع الصوري؛ سواء في قاعة المحكمة أو في البرلمان والحكومة.
وأخيراً: صدر الحكم المسبق بإعدام صدام مع الحديث المحموم عن الخطة الأمنية الجديدة، وبتسارع عجيب بدأت مسرحية الإعدام من تسريب الاحتمال إلى نبأ التنفيذ، في مسرحية غابت عنها الدولة المزعومة، فلم يوقِّع الرئيس، ولا نائبه، ولم يتم التنفيذ على يد أجهزة الدولة، لقد تفرّد الشيعة بالتوقيع والحضور والتنفيذ، وكان الدور الأمريكي تسليم الضحية، واستلام الجثة.
لقد ضُحِّي به في صباح عيد الأضحى، وكانت مشاهد الإعدام التي سُرِّبت تكشف أنه لم يُقتل من أجل الدجيل؛ فالقتلة كانوا يردِّدون اسم (محمد باقر الصدر) ، وكان هو يردِّد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله، وكان كاشفاً وجهه وهم مقنَّعون، وبينما أحضر معه مصحفه أحضروا معهم الكاميرات، لقد فهم السُّنّة أنها رسالة لهم تبين ملامح الخطة الأمنية التي يبدو أنها ستكون تكراراً لمسرحية صباح يوم العيد، لقد أرادوا احتقار السُّنّة وتخويفهم، وأراد الله إفهامهم واستنهاضهم، وبغض النظر عن تقويم صدام والحكم عليه، لكنني لا أكتمكم أنني لما رأيت مشاهد الإعدام تذكرت (باسم ربِّ الغلام) .