مجله البيان (صفحة 578)

أهمية الزراعة وخطر الزهو والخيلاء والزينة (اقتباس)

قديم جديد

أهمية الزراعة

وخطر الزهو والخيلاء والزينة

علي مبارك [1]

أسباب تأخر الزراعة:

كان لتأخير الزراعة أسباب كثيرة، وأقواها: تأثير الاحتقار بأهل الفلاحة،

وعدم الالتفات إليهم، وترك التبصر في أحوالهم، وارتكاب ما تضيع به ثمرات

الفلاحة، من تسخير أهلها بالعسف والقهر، والتعدي عليهم بما يقهقر حالهم، ويفسد

عليهم أعمالهم، وكالتغالي في الزينة والزهو والإكباب على اللعب واللهو، خلافاً لما

يزعمه أخساء العقول من أن ذلك من لوازم الثروة، فإن بطلانه لا يخفى على كل

ذي بصيرة.

أضرار التفاخر والزينة:

فضرر حب الزهو والفخر كضرر المحاربة، بل أضر، لأن المحاربة، وإن

كانت تضر بأرض الزراعة لا تضر بالأمة، وإن أضرت فضررها وقتي، ومما

يؤيد ذلك أنك ترى بعض الجهات وقع فيها محاربات كثيرة وهي الآن أحسن مما

كانت قبل الحرب، لأن الغالب أن الحرب إذا كانت في جهة وأتلفت منها شيئاً زاد

عمار الأخرى بقدر ما تلف من الأولى، وقد ينتبه الجميع بعد انقضائها فيتركون

الرفاهية فيعودون إلى أحسن مما كانوا. فعلمنا من ذلك أن الحروب وكذا الأمراض

الوبائية ليست السبب في تدمير الأمم أصلاً، بل السبب في حب الزهو والزينة

ليس إلا، لأنا لو فرضنا أن فرساً واحداً دخل مدينة للخيلاء به، لا لعمله، لم تشك

أنه يأخذ من ريع تلك المدينة لمؤنته ما يعدل مؤنة أربعة من نوع الإنسان، وهذا

فرس واحد، فما بالك بأفراس؟ ! أو ما بالك بغيره من الحيوانات التي لا فائدة فيها

إلا النظر لذاتها؛ أو التأمل في ألوانها وهيئاتها؟ !

ولا يقال: إن اقتناء الحيوانات - وإن كثرت مؤنتها-لاضرر فيه، لما يترتب

عليه من تسميد الأرض بروثها، فتزيد في محصولها بقدر مؤنة الدواب والحيوانات

التي بها؛ لأن ذلك إنما يقال في الدواب والحيوانات التي بالقرى وأرض الزراعة،

وأما الحيوانات التي بالمدن فلا، لأن روثها بها لا قيمة له، بل قد يصرف عليه

دراهم لإخراجه من محله، مع ما يلزم لذلك من تعطيل أشخاص من أهل الفلاحة

لخدمتها وجلب مؤنتها.

معيار الثروة:

وقد توهم بعضهم أن كثرة الأمة وقلتها تابع لما يستهلك؛ قلة وكثرة أعني أنه

كلما كثر المستهلك كثرت الأمة وكلما قل قلت، وهذا التوهم لا يسلم به إلا لو

اقتصر على ما لا بد منه، والواقع غير ذلك، فإنا نرى القليل من الأمة يصرف

أضعاف ما يصرفه الكثير منها، فإذا تأملنا ذلك وجدنا أن معيار الثروة وعدمها تابع

لكثرة المشتغلين بالزراعة وقلتهم، فكلما كثروا أخصبوا، وكلما قلوا أجدبوا، فأي

قوم لم يشتغلوا بأمر الزراعة وتوابعها؛ كانوا وبالاً على الأمة عموماً، وعلى

المشتغلين بها خصوصاً، فحينئذ يجب على ولاة الأمر التنبه لذلك، وحمل أهل

البطالة على العمل، ولا سيما الشحاذين الذين اتخذوا التكفف صنعة، فإنهم يتفننون

في الحيل ويتعللون بما تسوله لهم أنفسهم من العلل، فلا يمضي على الواحد منهم

زمن قليل إلا وتحصل على جزء من المال. فمثل هؤلاء يجب منعهم وأمرهم

بالتكسب لئلا يقتدي بهم من يميل إلى البطالة والكسل، ليستغني بهذه الصنعة

الخبيثة عن التكسب بالعمل.

واجب الدولة تجاه الزراعة:

فإذا تمهد هذا علمنا أن فن الفلاحة والزراعة هو الأصل، بل هو أساس ثروة

البلاد وعمارها، وأصل رفاهية أهلها، فيجب على كل حاكم احترام المشتغلين بها

والالتفات إليهم كل الالتفات، ومساعدتهم بأنواع المساعدات، وتطييب قلوبهم

والرأفة بهم، وإلا كان كمن هدم أساس بيته بفأسه، لأن مثل كل ملك مع رعيته

كمثل شكل هرمي، الملك كرأسه والرعية كقاعدته وأسه، ورجال الدولة ما بين

ذلك على قدر درجاتهم، فكما أن كل جزء من أجزاء هذا الشكل حامل لثقل ما فوقه

وهكذا إلى الطبقة السفلى فتكون هي التي عليها ثقل الجميع، كذلك أرباب الحكومة

السياسية على اختلاف درجاتهم كلما فسدت درجة سرى ضررها إلى من دونها

وهكذا، حتى تجتمع جميع المضار على الضعفاء وأهل الفلاحة، فلو قصر الملك

نظره على من يليه من رجال دولته، وصرف عمن دونهم نظره، فسد نظامه،

واختلت مملكته وأحكامه، فكما أنه لا بقاء للشكل إلا بقواعده، كذلك لا بقاء لملك إلا

برعيته، فإن تنبه الحاكم وأنصف من نفسه عرف كيف يصون ولايته من الخلل،

بأن يشمل بنظره جميع رعيته، لا يفرق بين الأجانب منهم وذوي قرابته، ولا بين

ضعيف منهم وقوي، وخص جميع أهل الفلاحة عندئذ بالعناية والالتفات، لأنهم

الحاملون لأثقاله، القائمون بمصالحه وأعماله، إذ لولاهم ما كان للملك قوام ولا تم

له نظام، وحيث كانت الأرض لا تفيد إلا بقدر ما تستفيد، لا فرق عندها بين عظيم

فتكرمه ولا فقير فتحرمه، بل إن قام صاحبها بما يجب لها وخدمها انتفع بها وإلا

عدمها، وهي على اختلاف أنواعها؛ لا يخلو شيء من أجزائها عن فائدة، حتى

الرمل الذي لا يصلح للزراعة لو وضع منه شيء في الأرض السبخة، أو البرك

المالحة لأصلحها، وكذلك أخراس [2] الأرض لو نقيت مما فيها وحرثت، لكانت

أصلح من غيرها، وكذلك الأرض الحجرية يؤخذ منها أحجار للمباني العظيمة ذات

الأسوار، فما من إنسان في أي مكان وتيسرت له أسباب الراحة وانتفت عنه

الموانع إلا تيسر له منه أضعاف قوته، وتحصل على ما لا يتحصل عليه غائص

البحر لياقوته، فلو فرض أن فداناً غرس أشجاراً لا تثمر؛ وترك إلى نحو عشرين

سنة لكان فيه من الخشب والفحم ما يقوم بمال عظيم مع أنه لم يلزم له إلا قليل من

العمل والعمال، فما بالك لو غرس أشجاراً ذات ثمر، فلو فرضنا أن ذلك الفدان

بعينه كان في المدة المذكورة، يزرع حبوباً لكانت فوائده أكثر منها في الحالتين

السابقتين، فعلم من ذلك أن الناس تابعة للزراعة، كثرة وقلة، ولو كان ذلك الفدان

بعينه في ضاحية من ضواحي المدن قد هيأ له صاحبه محابس لريه، وغرس فيه

أشجاراً، وأجرى إليه أنهاراً وجعل فيه عروشاً أما كان بذلك يساوي أضعاف مثله

من أرض القرى والأرياف؟ وما ذاك إلا لكثرة عماله واحتفاف الناس به، فهذا

دليل على أنه كلما كثرت الناس بأرض زاد محصولها، وأن الإنسان لو خلي ونفسه

لجعل من الأرض الحجرية بساتين وكروماً.

( ... ) فلو أحصينا عدد قرية وفرضنا أنهم قائمون بخدمة أرضهم حق القيام

كان عددهم دائماً فى زيادة، لأن المجمع عليه عند أرباب الفلاحة أن الأرض كلما

خدمت زاد محصولها، فليس محصول المحروث مرة كمحصول المحروث مرتين،

ولا محصول الأرض التي تسقي بماء المطر كالتي تسقى بماء العيون، ولا

محصول الأرض التي سقيت كمحصول الأرض التي لم تسق، وهذا من محسنات

الزراعة.

فالفلاحة لا شك أنفع الصنائع، إذا توفرت أسبابها، وانتفت الموانع عن

أربابها، خلافاً لقوم ذموها واستقبحوها، وعدلوا إلى دماء الناس وأموالهم

فاستباحوها، مع علمهم بأن فوائد الفلاحة لا تعدلها فوائد، وإدرار أرزاقها دائماً

متزايد، وهم الأثينيون وسكان آسيا، فكانوا يزعمون أن الفلاحة والتجارة مما يوهن

القوى البدنية، ويورث الذل للذرية، فتركوا الصنائع ولم يلتفتوا لما فيها من المنافع، وعدلوا إلى نهب الأموال، وأسر ما قدروا عليه من نساء ورجال، وعم ذلك

جميع أوربا فأنتج خرابها، وأفسد العمار الذي كان بها، وكان المنقطع للفلاحة وقتئذ

الأرقاء، ومن يأوي إليهم من الغرباء، فارتحلت عنهم حينئذ الفضائل الدثرية [3] ،

وقد كانت بقعتهم عين منبعها ومرج مرتعها، وانظر إلى الرومانيين وما كانوا فيه

من الخمول والتوحش، فلما أفاقوا من خمولهم وتفننوا في الفلاحة علت شهرتهم

وقويت شوكتهم، ثم تقادم بهم الزمن وأهملوا أمر هذا الفن واشتغلوا بالمحاربات فآل

أمرهم إلى الخراب، وضعفت دولتهم وانحطت صولتهم، وانتهى بهم الحال إلى أن

تقاسم أرضهم المتبربرون. وبالجملة فلم نر جهة أهملت فيها الزراعة إلا حل بأهلها

القحط والمجاعة.

مدار الازدهار على الأمن والاستقرار:

إلا أنه بغير العدل لا يتم صلاح، إذ لولاه ما قدر مصل على صلاته، ولا

عالم على نشر علمه، ولا تاجر على سفره، وهو صفة في الذات تقتضي المساواة، وهذه الصفة أكمل الفضائل، لشمول أثرها، وعموم نفعها، وإليها الإشارة بقوله

-صلى الله عليه وسلم-: «بالعدل قامت السموات والأرض» .

وتوضيح الكلام يحتاج إلى مقدمة في هذا المقام، ذلك أن الله تعالى لما خلق

الأرض ودحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، وبث فيها من كل دابة، فكان فيما

خلق نوع الإنسان، ولعلمه أنه ليس كغيره من سائر الحيوان، أحوج بعضه إلى

بعض في ترتيب معاشه ومؤنه وتحصيل ملبسه ومسكنه، لأنه ليس كسائر

الحيوانات التي تحصل بنفسها ما تحتاج إليه من غير صنعة، بل خلقه ضعيفاً لا

يستقل وحده بأمور معاشه.

ثم مست الحاجة بينهم إلى سائس عادل، وملك عالم عامل، يضع فيهم ميزاناً

للعدل وقانوناً للسياسة توزن به حركاتهم وترجع إليه معاملاتهم، وكان مباشرة هذا

الأمر من الله تعالى بنفسه من غير واسطة على خلاف ترتيب المملكة وقانون

الحكمة، فاستخلف عليهم من الآدميين، خلائف، وضع في قلوبهم العلم والعدل

ليحكموا بهما بين الناس، حتى يصدر ترتيبهم على قانون مشروع، وتجتمع كلمتهم

على أمر متبوع، ولا تتحقق العدالة إلا بعد العلم بأوساط الأمور، المعبر عنها

بالصراط المستقيم، ولا تؤثر عدالة الشخص في غيره إلا إن أثرت في نفسه، إذ

التأثير في البعيد قبل القريب بعيد، قال تعالى: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنسَوْنَ

أَنفُسَكُمْ] [البقرة: 44] ، فمن عدل في حكمه وكف عن ظلمه نصره الحق وأطاعه

الخلق، وصفت له النعماء، وأقبلت عليه الدنيا، فهنئ بالعيش واستغنى عن الجيش، وملك القلوب وأمن الحروب، ولم يخلق الله تعالى أحلى مذاقاً من العدل، ولا أمرَّ

من الجور، لأن أُس الملكة وأركانها، وثبات أحوال الأمة وبنيانها: العدل

والإنصاف، سواء كانت الدولة إسلامية أو غير إسلامية، فهما قاعدة كل مملكة،

وأصل كل سعادة ومكرمة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015