د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
ظهرتْ في العصر الحاضر مذاهب الإلحاد من شيوعية وبعثية ووجودية وليبرالية ونحوها، فانبعثتْ الصحوة الإسلامية تدافع هذه الأهواء والمقالات، وتدعو الأجيال إلى الانتماء إلى الإسلام والتمسك به، فلقد كان ظهور أولئك الزائغين من أسباب ظهور هذه الصحوة المباركة.
ثم إن هذه الصحوة ازدادت نضجاً وسداداً، فلم تكتفِ بعموم الدعوة إلى الإسلام، بل ضمّنت برامجها وأدبياتها الاعتصام بالسُّنّة، والتمسك بمنهج أهل السُّنّة والجماعة عقيدةً وسلوكاً، ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وخلّفت ـ بتداعياتها وآثارها ـ مراجعات وتراجعات، فاختزل بعضهم همّه في الحديث عن مرونة الإسلام وسماحته ويُسْره، وانتكس آخرون فطعنوا في ثوابت الشريعة وشعائرها، وآثر البعضُ الانكفاء فاعتزلوا واقع الناس؛ إذ لم يستبن لهم سبيل التعامل مع تلك المتغيرات والأحداث.
وغابَ في زحمة الوقائع وتراكم النوازل المسلك العدل تجاه تلك القضايا، ومن هذه القضايا: سُبُل التعامل مع أهل القبلة، وحجم التعاون معهم في قضايا مشتركة سواء أكان في مواقف علمية أم عملية.
والناس إزاء هذه القضية على طرفي نقيض؛ فمنهم من ينادي بالاتحاد والالتحام مع أهل القبلة، ويطالب بطرح الفروق ونبذها، والدعوة إلى التقريب مع سائر المنتسبين للإسلام بلا قيد أو شرط، ويقابلهم بعض المتسنّنة الذين لا يقيمون لهذه المسألة اهتماماً، فلم يعنوا بها بحثاً وتقريراً، فضلاً عن تحقيقها وتطبيقها.
ولعل هذه المقالة تكون لبنة في هذا الموضوع الكبير، ونرجو من أرباب الشأن أن يسهموا في هذه القضية.
ـ فنقول ابتداءً: المراد بأهل القبلة: أهل الإسلام ـ وإن كانوا قد تلبّسوا ببدعة أو فجور ـ وهم المذكورون في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمّة الله وذمّة رسوله، فلا تُخْفروا الله في ذمّته» (1) .
وقد يطلق عليهم وصف «الإسلاميين» أو أهل الصلاة، وكما هو ظاهرُ عنوان كتاب أبي الحسن الأشعري: «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين» .
ـ يبدو جلياً عناية أهل السُّنّة بالتعاون مع أهل القبلة على البرِّ والتقوى، وموالاتهم والقيام بحقوقهم، وفق ما جاءت به الأدلة الشرعية والمصالح المرعية.
ومن ذلك: صلاة الجمعة والجماعة خلف كل برّ وفاجر من أهل الإسلام؛ فقد قرر أئمة أهل السُّنّة ذلك في عقائدهم، حتى قال سفيان الثوري في عقيدته: «يا شعيب! لا ينفعك حتى ترى الصلاة خلف برٍّ وفاجر» (2) .
ويقول ابن تيمية: «وتجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين» (3) .
كما بيّن أئمة السُّنّة مشروعية الصلاة على من مات من أهل القبلة، فقال قوام السُّنّة أبو القاسم الأصفهاني (ت 534 هـ) ، مقرراً لهذه المسألة: «فمن مذهبهم الصلاة على من مات من أهل القبلة» (4) .
وشملت عقائد أهل السُّنّة مشروعية الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ مع أولي الأمر من المسلمين برّهم وفاجرهم إلى قيام الساعة.
قال أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين (ت 399 هـ) : «ومن قول أهل السُّنّة أن الحج والجهاد مع كل برّ أو فاجر من أهل السُّنّة والحق، وقد فرض الله الحج فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ، وأعلمنا بفضل الجهاد في غير موضع من كتابه، وقد علم أحوال الولاة الذين لا يقوم الحج والجهاد إلا بهم، فلم يشترط ولم يبيّن، وما كان ربك نسياً» (5) .
ـ وقد حوى تاريخ الإسلام وقائع تحكي تعاوناً بين أهل القبلة ـ سواءً كانوا فجّاراً أو مبتدعة ـ، ومن ذلك: أن يزيد بن معاوية غزا بلاد الروم سنة تسع وأربعين من الهجرة، وبلغ قسطنطينية، وكان معه سادات الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبي أيوب الأنصاري (6) .
فلم يكن ظلم يزيد وجوره مانعاً لهؤلاء الصحب الكرام أن يجاهدوا معه ضد الروم النصارى.
ومن جهود أهل القبلة تجاه الكفار والمرتدين ما فعله الخليفة العباسي القادر بالله (ت 422 هـ) في سبيل مواجهة المدّ الباطني العبيدي، إذ استفحل نفوذ العبيديين ـ في عصر القادر بالله ـ فنشط دعاتهم في نشر المذهب الباطني، وانتشروا في أطراف البلاد، فاتخذ القادر بالله سنة 402 هـ ـ من أجل مواجهة العبيديين ـ محضراً يتضمن الطعن في أنسابهم، ويكشف حقيقة مذهبهم، وأنهم زنادقة كفّار، وخلاصة المحضر أن الفاطميين ملوك مصر، منسوبون إلى (ديصان الخرّمي) ، فليسوا من أهل البيت، وأنهم كفار ملحدون زنادقة، وللإسلام جاحدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبّوا الأنبياء، ولعنوا السلف (7) .
وقد كُتِب هذا المحضر، وأقرّه جمع من الأشراف والقضاة والفقهاء والعدول.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود، هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وأهل الحديث، وأهل الكلام، وعلماء النسب، والعامة، وغيرهم» ، إلى أن قال: «وهؤلاء بنو عبيد القداح ما زالت علماء الأمة المأمونون علماً وديناً يقدحون في نسبهم ودينهم..» (8) .
كما أن جهود الخليفة القادر بالله ـ ضد الباطنية ـ شجعت علماء الإسلام في الرد على الباطنية، فكتب (الباقلاني الأشعري) : «كشف الأسرار وهتك الأستار» وبيّن فيه قبائحهم، كما صنف (علي بن سعيد الاصطخري) ـ أحد شيوخ المعتزلة ـ للقادر بالله كتاب «الرد على الباطنية» فأجرى عليه جراية سنية (9) .
وبالجملة: فتاريخ الإسلام حافلٌ بجهود متعددة لعلماء الإسلام تجاه النوازل والوقائع المشتركة، مثل: جهاد أهل الإسلام ضد الصليبيين والتتار ونحوهم، والاهتمام بتميّز المجتمع الإسلامي وحفظ خصائصه، وذلك من خلال التحذير من التشبه بالكفار، وإقامة الشروط العُمَرية على أهل الذمّة، ونحوها.
ـ ويمكن في هذا العصر الاجتماع والتعاون مع سائر أهل القبلة؛ فما أكثر القضايا التي هي محل اجتماع واتفاق بين أهل الإسلام، ومن ذلك: مواجهة الطغيان الأمريكي، ومقاومة التغريب والتفلّت الأخلاقي، ومدافعة العلمانية المتمردة، وكذا مدافعة التنصير، والاحتساب على المنظمات والمؤتمرات الدولية في مواقفها العدائية للإسلام، ومناصرة المجاهدين في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان.. إلخ.
ـ إنّ إبراز هذه القضايا ـ ونظائرها ـ والقيام بها يحرِّك أهل الإسلام عموماً، ويدفعهم إلى نصرة دين الله ـ تعالى ـ والذبِّ عن شعائر الإسلام، وعندئذ تتسع دائرة الدعوة والإصلاح والتغيير.
كما أنّ تبني تلك القضايا المشتركة يخفف الفرقة والنزاع بين أهل الإسلام، ويحقق الألفة والأخوة الإيمانية.
وقد أشار ابن تيمية إلى ذلك بقوله: «فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع؛ فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم، وألّف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم، وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذّبهم الله بأن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض..» (1) .
لكن التعاون مع أهل القبلة لا يعني أن يتخلّى أهل السُّنّة عن شيء من خصائصهم الاعتقادية والمنهجية، كما لا يعني التهاون في إنكار منكرات المبتدعة ومناصحتهم بالحجة والبرهان، كما أن المنتسبين إلى أهل القبلة ليسوا سواءً؛ فهم متفاوتون في هذا الباب، فمنهم: من لا يرجى نفعه ولا يؤمن أذاه، كالرافضة ـ مثلاً ـ الذين فارقوا أهل الإسلام سواء من جهة التلقي أو الاعتقاد، وقد كانوا مع التتار والصليبيين ضد المسلمين، ولا يزالون مع المستعمر ـ في هذا الزمان ـ ضد أهل الإسلام، فلا سبيل إلى التعاون مع قوم أُشربوا عبادة الأئمة وحبّ «التقيّة» وبُغْض الصحابة رضي الله عنهم.
ويراعى ـ أيضاً ـ نوعية التعامل وحجم التعاون مع طوائف أهل القبلة، فالقضايا متنوعة، والتعاون يختلف حسب النوازل والأحوال، وتقدير ذلك من أبواب السياسة الشرعية التي تتطلب فقهاً وورعاً من أهل العلم، كما تتطلب تشاوراً بين أهل الرأي حتى يُقدَّر لكل حالة قدرها.
ولا بدّ من استقراء وقائع التاريخ الماضي والحاضر، والاستفادة من التجارب الناجحة والمتعثرة؛ فإذا كان اجتماع أهل القبلة في الردّ على العبيديين، وجهاد الصليبيين ـ زمن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ـ من التجارب الرائعة والمفاخر الظاهرة، فإن جهاد أهل السنة ـ ومعهم علماء المالكية في القيروان بالمغرب ـ سنة 333هـ مع أبي يزيد الخارجي من التجارب الموجعة؛ فمع أن الخوارج «أصدق الناس وأوفاهم بالعهد» (2) . إلا أن أبا يزيد الخارجي أظهر الخيانة وغدر بأهل السُّنة، فإن علماء المالكية جاهدوا مع أبي يزيد الخارجي ضد العبيديين باعتبار أن الخوارج من أهل القبلة، وأما العبيديون فكفار مرتدون.. فلما خرج أولئك العلماء مع أبي يزيد الخارجي، وظهرتْ بوادر النصر على العبيديين، قال أبو يزيد لأصحابه: إذا لقيتم القوم فانكشفوا عن علماء القيروان حتى يتمكن أعداؤهم منهم، فَقُتِل جمعٌ كثير من الفقهاء والصالحين، وتغلّب العبيديون (3) .
وعلينا أن نتفطن إلى أن هذا التعامل والتعاون لا يعني تزكيةً مطلقة لأولئك الإسلاميين، أو تساهلاً في بيان أخطائهم، وأن لا يكون ذلك سبيلاً إلى تسلّطهم على أهل السُّنة أو إظهار بدعتهم بين الناس.
وأخيراً؛ فإن الاجتماع مع أهل القبلة لا يتحقق إلا باتّباع نصوص الوحيين؛ فالمصالح الوطنية أو العرقية وما أشبهها لا تورث اجتماعاً ولا تعاوناً، كما هو مشاهد ومجرّب.
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: «ولست تجد اتفاقاً وائتلافاً إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث، وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقاً واختلافاً إلا عند من ترك ذلك وقدّم غيره عليه، قال ـ تعالى ـ: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] ، فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولاً وفعلاً ... » (4) .
(*) أستاذ مشارك في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.
(1) أخرجه البخاري، رقم (391) .
(2) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنّة (154/1) .
(3) مجموع الفتاوى لابن تيمية (542/4) .
(4) الحجة في بيان المحجة (477/2) .
(5) أصول الدين لابن أبي زمنين، ص (288) .
(6) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، (32/8) .
(7) انظر: المنتظم لابن الجوزي، (82/15 ـ 83) ، والبداية لابن كثير (345/11) .
(8) مجموع الفتاوى (128/35 ـ 131) باختصار.
(9) انظر: البداية لابن كثير (346/11 ـ 352) .
(1) مجموع الفتاوى (44/15 ـ 45) .
(2) مجموع الفتاوى (484/28) .
(3) انظر تفصيل ذلك في: ترتيب المدارك للقاضي عياض (/2 29 ـ 31) .
(4) مجموع الفتاوى (52/4) .