عبد الله بن محمد السعوي
لو ألقينا نظرة تأمُّلية تبحث عن العوامل الفعّالة التي تقف خلف كثير من التحولات الفكرية الحادة عند بعض النماذج والتي تنتقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على نحو يستعصي معه الفهم والتحليل؛ لألفينا أنها لم تنبثق من فراغ بقدر ما هي أثر حتميّ أفرزته بواعث متنوعة بينها تسلسل سببي وروابط عليّة متبادلة ومتفاعلة أسجّل باعثين هنا منها على سبيل الإجمال، مقتصداً جهد الطاقة حتى لا أثقل على ذاكرة القارئ الكريم:
أولاً: القراءة المكثفة في كتب أهل الأهواء مع ضآلة العلم الشرعي في منحاه العقدي خاصة:
إن الفضول المعرفي بطبيعته يدفع إلى مزيد من النّهم القرائي اللامنضبط ـ أحياناً ـ مما يدفع بالفرد إلى قراءة كل ما يقع في متناول يديه من أطروحات فكرية قراءةً غير موجهة بحكم عدم استنادها إلى قدرات علمية عليا، ولذا فهي تولد الاتجاه السلبي أكثر مما تعزّز التوجه السلفي كإفراز حتميّ ناشئ عن ضمور مكتسبه المعرفي في جانبه العقدي على وجه الخصوص.
إن هشاشة الوعي ومحدودية القدرات العلمية تجعل من البنية الذهنية أرضاً خصبة مهيّئة لاستقطاب الأبنية المفاهيمية والمعاني المزيفة والرُّؤى الممعنة في التضليل باعتبارها أفقاً للوعي لا يسع المرء إلا الامتياح منه والتماهي مع معطياته.
إن إثارة الشبهات والتشكيك في العقائد والإطاحة بالتصورات الإيجابية هو الهدف المحوري الذي تتغيّاه كتب ومقالات أهل الأهواء، الشأن الذي جعل رسول الله # يتمعّر وجهه عندما شاهد صحيفة من صحف أهل الكتاب مع عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو الفاروق المبشَّر بالجنة، ونهاه عن قراءتها. ولقد كان سلفنا الأفاضل يحرِّمون علم الكلام ويشدّدون في عدم السماع من أهل الأهواء أو النظر في مؤلفاتهم حتى ولو احتوت على شيء من الحق؛ لأن هذه الأطروحات تورّث شُبهاً تضلّل المتلقِّي وتستهويه وتؤثِّر على قناعاته، وهذا التأثير عائدٌ ـ في تصوّري ـ لعاملين:
أحدهما: أنها تعتمد في بنائها التعبيري والفكري آليات فلسفية ترتكز على الفذلكة الكلامية والحذاقة اللفظية لتستهوي الفكر وتأخذ بلباب العقل وتلبس عليه وتسيطر على مساربه فيتلقف بعض الشبهات دون وعي، يتلقاها بلا غربلة ولا تمحيص، تتلبّسه الفكرة ويتلبّس بها، ترتسم في عقله ويتفاعل مع أدقِّ تفاصيلها ويغنى بها عن غيرها، تكبِّله بقيودها وتحجبه عن معاينة ما باينها، وتزجُّ به في دائرة مغلقة خانقة فيسيطر عليه شعور بصوابية ما يعتنقه بل يعتبره هو الحق المطلق، ومن ثم تتعسر عليه المراجعة، وتحت هذا الضغط النفسي الشديد تستبدُّ به الفكرة فلا يرى إلا ما يتقاطع معها، فيندفع للعمل بمقتضاها دون وعي، إنه يعيش في غيبوبة أفضت به إلى عزلة لا مادية خانقة نائية به عن مدِّ جسور التواصل والتماس والتفاعل الحيوي مع الأفكار المغايرة لها، قد ملكت عليه لُبّه ووجدانه على نحوٍ بات معه مفتقداً للرؤية الموضوعية النافذة مثله كما المحاط بألسنة اللهب، فرؤيته محدودة محصورة في ذاته وما يحيط بها من دخان كثيف.
العامل الثاني: أنها تملك مهارات عالية وكفاءة بارعة في تمرير مشروعها الفكري، وذلك من خلال ضخِّ المعاني ذات الطابع المادي التي تدغدغ حوائج الناس وتستجيب لعواطفهم، ومن هنا تصرفهم عن الحق بهذه المداخل الباطلة التي تتظاهر بالعلمية وتدّعي الموضوعية، الشأن الذي يهدينا إلى تبيّن السر الكامن خلف اتِّساع القاعدة الجماهيرية المتناغمة مع أهل الأهواء، حتى صاروا بجملتهم أكثر كمية من أهل السُّنّة والجماعة، وهذا مؤشر يبرهن ـ بجلاء ـ على أن التماهي الوجداني مع المضامين الدلالية لهذا الخطاب ليس حقيقة شعورية منبعثة من رؤية منهجية وصياغة فكرية صائبة بقدر ما هي نتيجة للانسياق للمحركات الوجدانية.
إن القارئ المتسطح الذي يعاني من الهزال في بنيته المعرفية يتعسّر عليه ـ إن لم يتعذّر ـ أن يقرأ بروح تمحيصية ناقدة، فهو لا يملك القدرة على سبر أغوار الروح العامة وتفكيك البنية الشاملة التي ينهض عليها هذا الخطاب، ولذا يقع فريسة سهلة للأفكار السالبة بكافة ضروبها، ويسيطر عليه ما يشبه عمى الألوان، فيتجاوب مع المادة المطروحة، ويتذوّقها، وتنطبع لديه في أعماق الضمير، والمصيبة الأعظم تكمن في عدم شعوره بما ينطوي عليه من إشكال معرفي حادّ سهّلَ من اختطاف عقله ومن ثم مصادرته في بُعْده الإنساني.
إن قصور الاستعدادات المعرفية لدى المتلقّي يفضي ـ بالضرورة ـ إلى إضعاف شخصيته الثقافية، ولذا؛ فإنه بمجرد اطِّلاعه على مجموعة مقالات أو بضعة كتب من الكتب الفارغة إلا من الغُثَاء التراكمي فإنها كفيلة بإحداث هزّة عنيفة في كيانه تعصف بما تأصّل لديه من قناعات على نحو يجعله يتنكّر لما نشأ عليه من قيم، ولا ريب أن هذا يبرهن ـ بجلاء ـ على عمق الانفصال بينه وبين الفقه العقدي من جهة، وعلى أساليب الطرح الماكرة القادرة على التسلل بسهولة إلى التركيبة الذهنية للمتلقِّي من جهة أخرى.
تُعدّ العزلة الشعورية، والنَّأْي عن النهل من العلم المؤطر بالمنهج الرباني، وعدم التفاعل المثمر مع قادة الفكر وأرباب المعرفة وذوي الحسّ الحي في الأمة، والتجافي عن المصادر المعتبرة التي تشكل الفكر الموضوعي؛ من أكبر العوامل الموهنة للتماسك العقدي والمؤسسة لتداعي المسلَّمات القطعية، والتي تحيل الفرد إلى هدف سهل المنال لمختلف الوافدات والمؤثرات الثقافية المناهضة لمكوّناته الأساسية، والمناقضة للسلّم القيمي الذي تشكّل وفق دلالاته، والمخالفة للأدوات المعيارية التي على ضوئها يقيم أحداث الحياة. هذه البواعث تعرِّض كثيراً من الأسس المفاهيمية إلى التزعزع والتآكل الداخلي.
إن هذا المتلقِّي بفعل ما يحتوي عليه من فقر علمي وجهل عميق لديه ضرب من السلوك الازدواجي الذي يتجلَّى على نحو واضح في تباين تعاطيه مع الأفكار المجسّدة والمجرّدة وتباين مواقفه إزاء كل منها، مما يشي بإمَّعية فكرية ضُربت بعمق في أعماق أغواره فأضعفت عناصر المقاومة في ذهنه فضلَّ عن الحق وتاهَ في بَيْداء الوهم والخيال كأثر حتمي لتزاوج الهوى الحاجب لصفاء الحقيقة والجهل اللامحدود الذي بفعله باتت رؤيته سطحية هامشية فاقدة للرؤية النقدية التي تعتمد التجرد والموضوعية أبرز أدواتها.
إن مما يبعث الأسى هو أن المتلقّي السالف الذِّكْر قد يكون أحياناً ممن يساهمون ـ في تصوّره ـ بإثراء الحركة العقلية ودفعها ـ لا لتأهيله لذلك، وإنما لاحتلاله مكاناً أكبر بكثير من مقاساته المعرفية والعقلية ـ وهنا تعظم المأساة، حيث إن جملة الأفكار التي تسرّبت إلى جنانه واستقرت في حسِّه وتراكمت في عقله الباطن هو الآن يتبنّى العمل على تصديرها وإنتاجها يستهدف بها متلقّياً ـ هو الآخر بالمواصفات ذاتها ـ يستلهمها فتعانق وعيه وتكتسح لُبَّه فيتقولب بمضامينها التي تتغلغل فتلامس كل جزئية من وجدانه، وهكذا تجري عملية التسويق عن طريق الاجترار بتبادل الأدوار على نحو يثير الشعور بالأسى والشّجن.
إن هذا الطرح ذا النزعة الليبرالية يعكس ـ بنقاء كامل ـ الصورة عن عقول مصادرة تتظاهر بالتحرّر والانفتاح الذي لا يتحقق ـ من وجهة نظرها ـ إلا بالخروج عن منطق التجانس الجمعي، واستفزاز الساكن، ومخالفة السائد، وتحريك الراكد، واختراق (التابو) ، والتمرد على المقاييس والأعراف المعتبرة، واستدبار النصوص، وإسقاط مكانة العلماء، والتقليل من خصوصية المجتمع، والمبالغة في السقوط الأخلاقي بحجة التطوير والتجديد.
إن الحقيقة التي يجب أن تكون حاضرة في أذهاننا دائماً هي أن التجديد لا يكمن في الإقصاء لأخلاقٍ واستدعاءِ أخرى على الضدِّ منها، وإنما يتم التجديد من خلال توسيع مدى الأبعاد الدلالية لبعض الأبنية المفاهيمية الأخلاقية، وابتكار الآليات الفعّالة لعولمتها وجمهرة ممارستها وتكثيف الدعاية لها والإعلاء من قيمتها في النَّسَق الأخلاقي العام ودفعها نحو نقلة ارتقائية تحتلُّ جراءها موقعاً أعلى في درجات السلّم القيمي.
إن ثمَّة ثلة من الكُتّاب لديهم تصور ذاتي وهمي، فهم يرون ذواتهم أنهم طليعة هذه الأمة والناطق بلسانها والمعبِّر عن آلامها وآمالها، وهم فقط الذين يملكون عناصر الترشيد الضرورية للنسيج الاجتماعي الذي استقرَّ في وعيهم أنه بخاصته ودَهْمَائه (1) وبسُراته وبُسطائه وبتنويعاته وتعبيراته وبمكوّناته وقياداته الدينية وبفعالياته الثقافية وبرموزه العلمية؛ عبارة عن قطيع غوغائي ومزيج نَتِنٍ من الإمَّعات والسطحيين الذين يعيشون في واقع استاتيكي سكوني يغلب عليه طابع النمطية والاطّراد العشوائي على نحو يدفع هؤلاء الكُتّاب ـ من وجهة نظرهم ـ إلى الاشتغال على تهيئة بنية هذا المجتمع لخصائص جديدة، وذلك من خلال تطوير أنماط سلوكهم وتوسيع آفاقهم بعَصْرنة مفاهيمهم ولَبْرلة توجّهاتهم.
الفلسفة التي يصدر عنها الطرح الليبرالي تكمن في اختزاله كافة أشكال الرقي في البُعْد المادي المحض، وتتجلّى في طبيعته الموضوية الرافضة للماضوي والعاملة على تجسيد القطيعة المعرفية معه تمهيداً لمحوه من الأذهان ومن ثم تهميشه في عالم الواقع الفعلي، وفي سبيل هذه الغاية فإنه يلحُّ ـ وعلى نحو مستمر ـ على جملة معانٍ محددة يتغيّا استقطابها لإذاعتها وجمهرتها على أرض الواقع العملي.
تحرير المرأة، إلغاء تعدد الزوجات، الحرية المطلقة، الثورة على التراث السلفي، تحرير العقل من سلطة النقل..إلخ؛ كلها مفردات تكتظُّ بها هذه الأطروحات على تباين جليٍّ في مستوى شفافيتها وتغاير واضح في القوالب المستخدمة لتسويق تلك الرُّؤى على نحو يضمن لها القبول والانتشار والتمدد.
إذا تبلور ما سلف وصلنا إلى نتيجة راسخة مفادُها أن رفع منسوب العلم الشرعي ـ وفي بُعْده العقدي خاصة بوصفه هو الذي يهندس الشخصية الإسلامية ويوجِّه طاقاتها ويرشد حركة معرفتها ـ شرطٌ موضوعي يلزم توفّره في كل فرد بحسبه.
وتتأكد أهمية توفّره في كل من ينزع إلى التواصل القرائي مع مختلف الأطروحات المنتمية إلى منظومات فكرية مغايرة أخرى؛ لأن العلم الشرعي بحسبه يمثِّل بنية معرفية عميقة بالنسبة للعلوم الأخرى هو الذي يكسب حامله حسَّاً نقدياً ورؤية نافذة قادرة على إزاحة الستار وإدراك ما يحتجب خلفه من منطلقات وما يكمن من خيوط دقيقة ضامرة في أعمق أغواره.
إن الإلمام بالعلم الشرعي والتشبّع بالفقه العقدي وفق منهج سلفي مطلبٌ جوهري في غاية الأهمية والإلحاح، مطلبٌ يمنح صاحبه حصانة فكرية، ويزوِّده بمناعة نفسية، ويورِّثه عزّةً وقناعة تامة بصوابية توجّهه، ويمدّه بحيوية ذهنية وقدرة فذّة على القراءة النقدية التي تضعه أمام الحقيقة الموضوعية لهذه الأفكار الوضعية التي تغذِّي أخيلة مستهلكيها بالمفاهيم الكاسدة والمتشابكة مع أسسنا الفكرية لسلّمنا القيمي المستوحى من نصوص الوحيين.
إن العمق المعرفي الشرعي هو الذي يمنح المتلقِّي عقلاً متحرّراً من علائق التبعية لكل فكر متوتر معزول عن وحي السماء، ويمكِّنه من الصيرورة إلى تملّك أفق شمولي واسع يمنحه أعظم صور البلورة النقيّة التي توقفه على حقيقة مقروئه فيعرِّي سوأته ويجلي ثغراته ويعي مدى ما تولّده من مفاسد في البنية العقلية وحجم ما تقرّه من خلل في الكينونة الثقافية.
إن التأهيل وبقدر كافٍ للذات ـ من خلال توثيق الاتصال الفعّال بمنابع الثقافة الإسلامية ـ شرطٌ يجب استدعاؤه لاستثمار معطياته بحسبانها هي من يزوّد الفرد بالنظرة العميقة المخترقة لحدود الإدراك الظاهر والسابرة لأغوار المقروء وغربلته، ومن ثم مواراة الأفكار المولدة للتصورات المغلوطة في الزوايا المظلمة من الذاكرة ليجري استحضارها في الظرف الملائم، وذلك عند إرادة تجلية مساحات التفوق وإظهار القيم الجمالية وإبراز خطوط التميّز في الفكر السلفي، والذي تتجلّى روعته الأخّاذة عند مقارنته بضدِّه، وكما قال الأول: وبضدِّها تتميّز الأشياءُ.
ثانياً: المبالغة في إيراد الأسئلة والاستفهامات على العقل وتحميله ما لا يحتمل بجعله الإطار المرجعي الأول بعيداً عن النص:
إن الحضور الفعّال للبُعْد التساؤلي في حسِّ الفرد يُعدّ من أهمِّ الشروط اللازمة لتفتيح ملكاته الفطرية ونموّ كينونته المعرفية وتكوين نظرته الشمولية. ولذا؛ فإن تطلّع الفرد إلى استكناه المجهول وإيراده للتساؤلات الهادفة ـ التي تطرح أبعاداً غائبة لم تُمنح ما تستحقه من عناية ـ وتشوّفه إلى معرفة الخيوط التي نُسج منها الواقع، وبحثه عن إجابات تمكّنه من فرز التباسات الآني المعقد وتبيّن تشابكاته وتداعياته ومن ثم تحسس المسارات الآمنة ينمّ عن عمق في الوعي، واستنارة في العقل، وتحسّن في مستوى الإدراك، وانعتاق من قيود النمطية والتقليد، وثمّة بَوْنٌ ذهني لصالحه يكشف المساحة الشاسعة بينه وبين الأذهان الببغاوية التي لا تتقن سوى التقليد والمسكونة بكافة ضروب البلادة والتسطح لما تنطوي عليه من افتقار مطلق للبعد العقلاني المرتكز على العلم الموسوعي والتفكير الإبداعي الجادّ، والذي توفّره مربوط إلى حدٍّ كبير بوجود التساؤلات بكثافتها الكمِّية من ناحية، وبطبيعتها النوعية من ناحية أخرى، وقديماً أجاب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عندما سُئل عن السرّ الكامن خلف ما يتوفر عليه من رصيد علمي هائل بقوله: (.. بقلب عقول ولسان سؤول) .
إذاً؛ فثقافة التساؤل من حيث المبدأ هي ثقافة ينبغي تفعيلها وإشاعتها، ولكن ثمَّة ملحظ يجب استحضاره في هذا السياق، مؤدّاه أن الأسئلة تتباين باعتبار طبيعتها الماهية، فثمَّة أسئلة لها عوائد إيجابية وثمَّة استفهامات لها مردودها المكتظّ بالسلبية، كما هو الحال في الاستفسارات ذات النزعة الفلسفية المتمحورة حول ذات الخالق ـ جلَّ وعلا ـ وأسمائه وصفاته وأفعاله.
إن ثمَّة أموراً يجب أن يقف عندها العقل موقف التسليم والخضوع أُشير إلى جزء منها على نحو مجمل كما يلي:
أولاً: القدر، فهو سرّ الله في خلقه، والرب ـ تبارك وتعالى ـ يعلم الأصلح للخلق الذين لم يتعبَّدوا بالبحث عنه، وإنما تعبَّدوا بالرضى الوجداني والتسليم المطلق والامتثال اللامشروط، ولقد كان سلفنا الأوائل نموذجاً مثالياً يجدر الاحتذاء به في هذا الشأن، وكانت مواقفهم حازمة إزاء من يتمادى في إثارة الأسئلة والإشكالات في القدر، كما نرى في موقف الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ تجاه بعض أهل الذمة؛ كـ (قسطنطين) الذي سلَّم مفاتيح بيت المقدس لعمر ـ رضي الله عنه ـ وقد أفصح عن شعور يخالجه بالاعتراض على القدر، فتوعّده عمر ـ رضي الله عنه ـ حتى فاء إلى الحق. وكذلك قصة ذلك الشاب الذي أفرط في التفاعل مع الخواطر العارضة التي ترد على ذهنه، فجاء به والده إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فزوّده بجرعات تعليمية حتى آبَ إلى النهج السوي، وكذلك أيضاً قصة (صبيغ التميمي) وهي مشهورة في هذا السياق.
ثانياً: الغيبيات عموماً سواء منها ما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله بكيفياتها، أو ما يتعلق بأخبار الغيب الأخرى كأحوال الآخرة أو عالم الشهادة الذي ليس بمقدور مداركنا تناوله، فهذا كله يجب الكف عنه وتجنّب البحث في تفاصيله.
ثالثاً: بعض حِكَم التشريع؛ لأن حِكَم التشريع متباينة، فثمَّة جملة منها قد يُدرك من قِبَل عامة الناس، وجزء آخر قد لا يدركه إلا العلماء، وهناك جزء يختص الخالق ـ جلَّ وعلا ـ بمعرفته، وهو سرٌّ من أسراره الخفية المغيبة عن البشر.
إن الإفراط في طرح المزيد من التساؤلات سلوك له إفرازاته السلبية؛ لأن للسؤال قدرة هائلة على التشعب والتكاثر والسير في كل اتجاه، فالسؤال السابق يفضي إلى السؤال اللاحق الذي بدوره يستدعي إجابة تكتظ بمواطن الأسئلة اللامتناهية، وهكذا تتواصل الأسئلة على نحو توالدي يعي العقل ويرفعه إلى مشارف الهاوية، فتتنازعه مشاعر متناقضة تعصف به وتحيطه بدائرة من الكآبة المقلقة والتوترات النفسية المرشحة للتفاقم والاستفحال.
إن ضغط الأسئلة اللامشروعة على الطاقة الذهنية هو في حقيقته ليس إعمالاً للعقل بقدر ما هو إهمال له وشرعة لاغتياله. تفعيل العقل يكمن في عقلنته بالدلالات المضمونية للنصوص الشرعية، لا بالقفز على هذا البُعْد الشرعي بالاعتماد على الرُّؤى المشوَّهة والطرح المُرْبك للوعي الإنساني.
إن الذي أوجد العقل حدّد له دائرة عمله، ووضع له الأُطر التي يجب أن لا يتجاوزها، وجعل منه قاعدة ينطلق منها الفرد في وعيه عن الله وأحكامه ومراده ومرامي تشريعاته، وهو بتآزره مع النص يشكل تصورات الفرد لأهداف الحياة والغاية من الوجود الإنساني.
لقد ضلَّت طوائف شتَّى بفعل جهلهم بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده، وإقحامه في غير ميدانه، كما نلحظ ذلك جليّاً عند الفلاسفة، حيث أنفقوا طاقاتهم العقلية في سبيل أن يدرك المحدودُ غيرَ المحدود، فتاهوا في محيط من الجدل المتناقض الذي لا يركن إلى قرار، وقالوا: إن وجود الخالق وجود مطلق بشرط الإطلاق، فجرّدوه من الوجود الذاتي، وحصروه في الوجود الذهني الذي لا حقيقة له في الخارج، والمعتزلة قدّسوا العقل وجعلوا النص يدور في فلكه، فأدَّى بهم ذلك إلى القول بخلق القرآن، وقال بعضهم: بمنع التسلسل في صفات الخالق جلَّ شأنه، وأوجبوا عليه فعل الأصلح، والصوفية بفعل انحسار دور النص قالوا: بوحدة الوجود، واعتمد بعضهم على (حدّثني قلبي عن ربي) ، والجهمية منحوا العقل مكانة لم يُؤهل لها، ونقلوا قدراته من النسبي إلى المطلق، فقالوا: بنفي النقيضين عن الله، ومنهم من قال: بالحلول، ومنهم من قال: بالاتحاد، وجملة منهم حصروا الإيمان بالمعرفة المجردة فحسب، والقدرية جعلوا للعقل الهيمنة الكاملة والمرجعية المطلقة، فقالوا: بأن العبد خالق أفعاله وأن الله لم يقدّرها، والمرجئة جعلوا السيادة للعقل وعملوا على إقصاء النقل فقالوا: بنفي الكفر عمن تلبّس به والتاث بسلوكياته.
والثنوية ألّهوا العقل وخرجوا به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب التصور والإدراك والحكم، فقالوا: بوجود خالقين لهذا العالم، والخوارج وسّعوا دائرة صلاحيات العقل وأَعْلوا من وظائفه فرَمَوا بالكفر من هو منه بَراءٌ، وسلكوا منهج العنف ذي الطابع الراديكالي، والدهرية جعلوا العقل هو الصانع المنتج للوعي والمحدد لإطاره فأنكروا وجود الخالق جلَّ في علاه، والأشاعرة والماتريدية جعلوا العقل هو الركيزة الأساسية التي يصدرون عنها، فقالوا: بظنّية الدلالات الشرعية ويقينية القواطع العقلية، ووصفوا الخالق بالنقص عندما قالوا بعدم ظهور آثار أسماء الخالق وصفاته إلا بعد أن خلق هذا العالم المنظور، والقرآنيون أطلقوا العنان للعقل فذبلت في حسّهم مدلولات النص القرآني وأبعاده الحقيقية فأفضى بهم ذلك إلى تهميش السُّنة وحجب أبعادها الدلالية الملزمة، وهكذا تيارات متعددة تاهتْ عن الطريق الفطري الميسر بفعل تجاوزها لحدود الإدراك الإنساني ولإنفاقها للطاقة العقلية سفهاً في غير مجالها المأمون.
إن الحقيقة التي لا تقبل الجدل أنه ليس ثمَّة تعارض بين العقل الصريح الخالي من الشبهات والنقل الصحيح، بل التوافق بينهما هو الحقيقة الجلية التي لا تخطئها عينُ منصف، والشريعة لا تأتي بمحالات العقول بل بمحاراتها، وتأمَّل معي هذا الكلام القيم لابن تيمية في كتابه الموسوم بـ (درء تعارض العقل والنقل) ـ هذا السِّفر الذي يُعدّ عملاً علمياً فذّاً لا يضارعه إلا القلة النادرة ـ حيث يقول: «إن كل ما عارض الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده وإن لم يعارض العقل وما علم فساده بالعقل لا يجوز أن يعارض به لا عقل ولا شرع» 1/194، إذاً؛ فتوهّم التعارض بين العقل والنص الصحيح آية على ارتباك العقل وفساده. ويقول في موضع آخر من درء التعارض: «إن النصوص الثابتة عن الرسول # لم يعارضها قط صريح معقول، فضلاً عن أن يكون مقدماً عليها، وإنما الذي يعارضها شُبَهٌ وخيالات مبناها على معانٍ متشابهة وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شُبَهٌ سفسطائية لا براهين عقلية» 1/155، 156، ويقول أيضاً في الدّرء: «والمقصود هنا التنبيه على أن ما جاء به الرسول # هو الحق الموافق لصريح المعقول» 3/87.
إن كل رؤية عقلية لها حظ من البُعْد الموضوعي وتصح من الناحية الاستدلالية يقول بها أهل الأهواء فإن لها ما يعضدها في المصادر التشريعية، يقول ابن تيمية: «فوجدت كل طائفة من طوائف النظار أهل العقليات لا يذكر أحد منهم في مسألة ما دليلاً صحيحاً يخالف ما أخبرت به الرسل، بل يوافقه، حتى الفلاسفة القائلين بقِدَم العالم كـ (أرسطو) وأتباعه ما يذكرونه من دليل صحيح عقلي فإنه لا يخالف ما أخبرت به الرسل، بل يوافقه» درء التعارض 1/133، إن الاجتراء الصارخ على قدسية النص ـ إما بإقصائه، وإما باستقطاب الترجمة المشوهة غير الأمينة التي لا تعكس حقيقته ـ ممارسة عبثية لا علمية تشتغل على تهميش العقل الذي تحتِّم مقتضياته أن يكون النص الشرعي هو الضابط لإيقاعه والمحدِّد لمساره والموجِّه لتطلُّعاته، يقول صاحب الدّرء: «إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع للنقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دلّ على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول #، فلو أبطلنا النقل لكنّا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه وهذا بيّن واضح، فإن العقل هو الذي دلَّ على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون هذه الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال فضلاً عن أن يُقدَّم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله، وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه، والقدح فيه يمنع دلالته، والقدح في دلالته يقدح في معارضته كان تقديمه عند المعارضة مبطلاً للمعارضة، فامتنع تقديمه على النقل، وهو المطلوب» 1/170، 171.
إنه ليس من العقل تحكيم العقل؛ لأن العقول مضطربة ومتباينة وليس ثمَّة ما يسمّى بالعقل البشري كمدلول مطلق يكون مرجعاً يُحتكم إلى معطياته وعنصراً حاسماً يضع الأمور في نصابها، يقول صاحب الدّرء: «والمسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقل والشرع جميعها مما اضطرب فيه العقلاء ولم يتفقوا فيها على أن موجب العقل كذا، بل كل من العقلاء يقول: إن العقل أثبت أو أوجب أو سوغ ما يقول الآخر: إن العقل نفاه أو أحاله أو منع منه بل قد آلَ الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية، فيقول هذا: نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر: إنه غير معلوم بالضرورة العقلية» 1/144، 145.
ويقول في موضع آخر من الكتاب ذاته: «فلو قيل بتقديم العقل على الشرع ـ وليست العقول شيئاً واحداً بيِّناً بنفسه ولا عليه دليل معلوم للناس بل فيها هذا الاختلاف والاضطراب ـ لوجبَ أن يحال الناس على شيء لا سبيل إلى ثبوته ومعرفته ولا اتفاق للناس عليه» 1/46.
إن الشارع حكم بتحديد مجال النظر العقلي وصيانة الطاقة العقلية أن تتبدّد وراء الغيبيات التي لا سبيل للعقل البشري أن يحكم فيها وإنما يخضع ويذعن، والعقل التسليمي هو الأمر الذي كان الإسلام ـ بوصفه النَّسَق الذي يشكل الإطار المفاهيمي الموضوعي ـ يحث على الصيرورة إليه بعيداً عن العقل الشكي الديكارتي التائه في أودية الخيال. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه الصواعق المرسلة: «إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورُسُله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحكِ الله ـ سبحانه ـ عن أمّة نبي صدّقت نبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلّغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيّها، بل انقادت وسلّمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها، وكان رسولها أعظم في صدورها من سؤالها عن ذلك، كما في الإنجيل: «يا بني إسرائيل لا تقولوا: لِمَ أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بِمَ أمر ربنا؟» ، ولهذا كانت هذه الأمة ـ التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً ـ لا تسأل نبيها: لِمَ أمر الله بذلك؟ ولِمَ نهى عن كذا؟ ولِمَ قدَّر كذا؟ ولِمَ فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام» 4/1560، 1561.
وجماع القول أن إشكالية التحولات الفكرية إشكالية تطرح نفسها على الوسط الفكري بإلحاح يستدعي معاينتها وفق رؤية شمولية تتغيّا الاتجاه إلى العوامل الباعثة لها للعمل على تجفيف منابعها، وهذا لا يعني أن ثمَّة كثافة كمّية مقلقة في هذا السياق ـ كما أسلفت آنفاً ـ ولكن كضرب من الفعل الوقائي الذي يعصم من إفراز إرهاصات بدأت نذرها بالتشكل على نحو قد يلامس حدود التأسيس لظاهرة باعثة على القلق في هذا المقطع الزمني المتّسم بتداخل الثقافات وثورة المعلومات وكونية التفاعل الثقافي، وفي هذا الراهن الآني الذي استحال فيه العالم إلى غرفة إلكترونية محدودة المساحة الشأن الذي يجد فيه كلُّ معنيٍّ بالهمِّ الدعوي نفسه ملزماً أمام ضميره الخاص بتوظيف خبراته المتراكمة لإبداع الأُطر التي تعينه على رفع درجة الوعي لدى العقل الجمعي، وتبصيره بأن التقدم إلى الأمام مرهون بالعودة إلى الخلق المتمثل في القرن الهجري الأول، الذي تبوَّأ فيه المسلمون القمة السامقة في سلك التطور الارتقائي.
وصفوة القول أنه لا مناص من تسليط أشعة النقد على كل فكر ملوّث وكشف تناقضاته الفجّة؛ لإيقاف مفعول الشحنة السلبية التي تستهدف مجتمعاً يسعى لاستئناف مسيرته الحضارية ولإعادة هذا الفكر الظلامي ـ الذي تشكل النزعة الطوباوية أحد أبرز ملامحه ـ إلى مكانته الطبيعية التي هو قمين بها، ليظل قابعاً في أزقة الحضارة وموارياً في مزابل التاريخ.