مجله البيان (صفحة 5731)

الجود شيمة المصلحين

فيصل بن علي البعداني

الإكثار من الصدقة والإنفاق في ضروب البر هما مفتاح الدعاة والمصلحين للقبول ونيل الرفعة والظفر بالسؤدد في الدنيا والآخرة؛ إذ تُطهَّر بذلك النفوس، وتُطفَأ الخطايا، وتتضاعف الحسنات، وبها يُستظل في المحشر، ويُتقى من النار، ويُدعى لدخول الجنان.. تضافرت بذلك النصوص والآثار، ومنها قوله ـ تعالى ـ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يذهب الجليد على الصفا» (?) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من أنفق نفقة في سبيل الله كُتب له سبعمائة ضعف» (?) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يُفصَل بين الناس» (?) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من استطاع منكم أن يتقي من النار ولو بشق تمرة فليفعل» (?) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة، هذا خير» (?) . هذا في الآخرة.

أما في الدنيا فهي تنمي الإيمان، وتُعظِم التوكل، وتزيد الطمأنينة، وتعمق حسن الظن برب العالمين سبحانه، وتدفع البلايا والمصائب، وتغلق أبواب السوء، وتشرح الصدر، وتفرح القلب، وتنيل الشرف، وتزيل الشح، وتتغلب على هوى النفس، وتستر العيوب، وتستميل النفوس، وتظفر بثقتها ومودتها.

وقد أدرك سادات الدعاة والمصلحين هذه الجلالة للبذل والصدقة، والمنزلة الرفيعة للكرم والجود فتحلَّوْا بذلك، فهذا الهادي البشير، إمام المرسلين، وقدوة المصلحين -صلى الله عليه وسلم- كان أجود الناس وأسخاهم، تواترت بذلك شهادات الصحابة الكرام رضي الله ـ تعالى ـ عنهم؛ فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «ما رأيت أحداً أنجد ولا أجود ولا أشجع ولا أضوأ وأوضأ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» (?) ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن؛ فَلَرسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسَلة» (?) ، وعن خادمه أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم! أسلموا! فإن محمداً يعطي عطاءً، لا يخشى الفاقة» (?) ، وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً قط فقال: لا» (?) . وفي قصة الشملة التي أُدِّيَتْ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان محتاجاً إليها ولبسها، فسأله إياها أحد الصحابة فنزعها، وطواها ثم أرسلها إليه، فعاتبه القوم قائلين له: «ما أحسنتَ سألتها إياه؛ لقد علمتَ أنه لا يرد سائلاً» (?) .

ولم تكن تلك سجيته وحده -صلى الله عليه وسلم-، بل كانت خُلُقَ الأجلَّةِ المتبوعين من أصحابه الكرام رضي الله عنهم، والذين كانوا عمود الإسلام، ومن قامت على أكتافهم مسؤولية نشره وتعليمه والدعوة إليه، فهذا الصدِّيق الأكبر أسلم وفي منزله أربعون ألف درهم، فخرج مهاجراً وما له غير خمسة آلاف، كل ذلك ينفقه في الرقاب والعون على الإسلام (?) ، وتصدق في غزوة تبوك بماله كله، وهذا الفاروق عمر يخرج نصف ماله (?) ، وهذا عثمان يشتري الجنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مراراً، حين جهز جيش العسرة، وحين حفر بئر رومة، وحين اشترى أرض المسجد ليُوسَّع، وله مثلها في الجنة (?) ، حتى قال -صلى الله عليه وسلم- مرتين: «ما ضر عثمانَ ما فعل بعد اليوم» (?) ، وهذا عليٌّ خرج من أرضه في ينبع ليصرف الله ـ تعالى ـ عن وجهه النار يوم القيامة (?) . وهذا ابن عوف يتصدق بشطر ماله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألفاً، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله تعالى (?) . وهذا الزبير كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فكان يتصدق بذلك كله ولا يدخل بيته من ذلك شيء (?) ، وهذا طلحة الذي صحبه قبيصة بن جابر فقال: «صحبت طلحة فما رأيت رجلاً أعطى لجزيل مال من غير مسألة منه» (?) ، وباع مرة أرضاً له بسبعمائة ألف درهم فبات أرِقاً حتى أصبح ففرقه (?) ، وهذا سعد بن عبادة كان يرجع كل ليلة إلى أهله بثمانين من أهل الصُّفَّة يعشِّيهم (?) .

هذا غيض من فيض؛ وإنفاق كبار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من المهاجرين والأنصار وبذلهم في سبيل الله ـ تعالى ـ أوسع من أن يحصر.

أما نُشَّار العلم وسادة الصحب الكرام في الدعوة والتربية فقد كانوا آية في الخروج من الدنيا ومعرفة الآخرة والإيثار لها؛ فهذه عالمة النساء عائشة ـ رضي الله عنها ـ كانت تقسم سبعين ألفاً، وهي ترقع درعها (?) ، وفرقت في اليوم الواحد مائة ألف درهم، وهي صائمة فتقول لها خادمها: «ما استطعتِ فيما فرقت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه؟ فقالت: لا تعنِّفيني، لو ذكرتيني لفعلت» (?) ، وهذا ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ما مات حتى أعتق ألف إنسان أو أزيد (?) ، وكان يقسم في المجلس الواحد ثلاثين ألفاً، ثم يأتي عليه شهرٌ ما يأكل فيه مزعة لحم (?) ، وكان لا يعجبه شيء من ماله إلا خرج منه لله ـ عز وجل (?) ـ يتأول قوله ـ تعالى ـ: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، وهذا البحر ابن عباس جاءه رجل يستعينه على دَيْن، فقال له: كم دَيْنُك؟ قال: عشرون ألفاً، فأعطاه أربعين ألفاً وعشرين مملوكاً وكل ما في البيت» (?) ، وهذا حافظ الإسلام أبو هريرة كان في بادئ إسلامه يُصرَع من الجوع، فلما كان في آخر عهده امتلك داراً بذي الحليفة فتصدق بها على مواليه (?) ، وهذا الإمام الجهبذ ابن مسعود كان متخلياً عن الدنيا، فترك عطاءه الذي كان يُعطاه حين مات عمر، وحين عرض عليه عثمان أن يأمر له بعطائه، قال: لا حاجة لي فيه (?) ، ومن أقواله ـ رضي الله عنه ـ: «حبذا المكروهان: الموت والفقر، وايم الله! إن هو إلا الغنى والفقر، وما أبالي بأيهما بُليت، إن حق الله في كل واحد منهما واجب، وإن كان الغنى إن فيه للعطف، وإن كان الفقر إن فيه للصبر» (?) ، وقال: «من أراد الآخرة أضر بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، يا قوم: فأضروا بالفاني للباقي» (?) . وهذا مقدام العلماء معاذ كان رجلاً سمحاً، لا يُسأَلُ شيئاً إلا أعطاه، حتى ادَّان دَيْناً أغلق ماله (?) ، وهذا أبو الدرداء آثر اليوم الباقي على الفاني. يقول ـ رضي الله عنه ـ راوياً حاله: «كنت تاجراً قبل أن يبُعَث محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فلما بُعِثَ محمد زاولت العبادة والتجارة، فلم يجتمعا، فأخذت في العبادة وتركت التجارة» (?) ، وهذه إشارة، وإلا فمَنْ طالعَ سِيرَ القوم وجد الأمر غاية في الجلال والعظمة.

وكيف لا يكون مصابيح الدجى بهذه الحالة، وقد جلى النور المبين في أكثر من آية أن من أبرز ركائز النجاة وأسس التقوى: البذل والإنقاق في صروف الخير وما ينتصر به الدين. قال ـ تعالى ـ في تعداد خِلال عباده المتقين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: 3] ، وقال ـ سبحانه ـ: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 17 - 19] . وفي المقابل جاءت السنة مظهرة أن الحرص على الدنيا والشح بمتعها منطلق شرٍ وسبيل هلكةٍ ومستودع النقائص والخلال الذميمة. يقول -صلى الله عليه وسلم-: «صلاح أول هذه الأمة بالزهادة واليقين، وهلاكها بالبخل والأمل» (?) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله! ما هي؟ قال: الشرك بالله، والشح، ... » (?) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «شر ما في الرجل: شح هالع، وجبن خالع» (?) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إياكم والشح؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالشح: أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» (?) .

فالشح بالدنيا والتكالب على متعها يتنافى مع النسيج الذي يربي عليه الإسلام أتباعه. قال حبيش بن مبشر: «قعدت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والناس متوافرون، فأجمعوا على أنهم لا يعرفون رجلاً صالحاً بخيلاً» (?) . قلت: وإذا كان ذلك مع عامة الصلحاء؛ فما حال السادة المصلحين من الدعاة والعلماء الذين لن تجتمع حولهم القلوب، ولن ينالوا ثقة الناس ويظفروا بمودتهم ما لم يتخلقوا بالكرم ويتصفوا بالجود فيرتهنوا بذلك لدى عامة الناس الشكر، ويسترقوا بمعروفهم أحرار الخلق؛ لأن من جاد ساد، ومن بخل رذل، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «لَساداتُ الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء» (?) ، وقال ابن حبان: «كل من ساد في الجاهلية والإسلام حتى عرف بالسؤدد، وانقاد له قومه، ورحل إليه القاصي والداني؛ لم يكن كمال سؤدده إلا بإطعام الطعام وإكرام الضيف» (?) .

وتتأكد الحاجة إلى الجود حين يغرق الكثيرون في أوحال الترف، والتعلق بزخرف الحياة الدنيا، ويفقدون التوازن والقدرة على الجمع السوي بين تطلُّب الدنيا والعمل للآخرة، ولله در حاتم الأصم حين قال: «من ادعى حب الجنة من غير إنفاق ماله فهو كذاب» (?) .

كما تتأكد في أوقات حصار أعداء الأمة للعملين الدعوي والخيري وسعيهم الدؤوب لتجفيف المنابع والقضاء على الموارد المتاحة من خلال عامة الأمة، لتعظم المسؤولية عندها في حق جيل الصحوة وأبناء الدعوة في القيام بردف مشاريع البر وأعمال الخير وما فيه نصرة الدين وتأييده، وما لم يبادر الجميع إلى ذلك ـ كلٌ بحسب وسعه وطاقته ـ فإن العاقبة هي الفشل، والخاتمة هي الهلكة؛ إذ الدعوات لا تقوم إلا على جسور تضحية أبنائها وأعمدة بذلهم، ولله در الصحابة الكرام الذين كانوا يرون في أوقات الأزمات أن لا حق لأحدهم بما زاد عن حاجته، كما في حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: «بينما نحن في سفر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء رجل على راحلة له، فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من كان معه فضل ظهرٍ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زادٍ فليعد به على من لا زاد له، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل» (?) .

كما تتأكد في فترات تنفير الناس عن الخير، والقيام بتشويه الدعوة والدعاة، ليكون في الجود عند ذلك حراسة للعرض، وستر للعيب، ونباهة للذكر، وتأليف للقلوب، وقضاء على كثير من المكائد المحبوكة والأخلاق المرذولة.

اللهم يا كريم وتحب الكرماء، وجواد تحب الجَوَدة، وتأمر بمكارم الأخلاق وتكره سفاسفها.. ارزقنا صلاح النية وسخاء النفس وكثرة العطاء وحب السماحة وإيثار الآخرة على الدنيا، وجنبنا دواعي الحرص والطمع، وحررنا من التعلق بالدنيا ونسيان الآخرة، وارزقنا التضحية لدينك والبذل في سبيلك من غير منٍّ ولا أذى، بإحسان منك وفضل يا جواد يا كريم!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015