محمد بن شاكر الشريف
- مقدمة:
منذ عهد الاستعمار الحديث الذي حل في ربوع المسلمين، الذي سموه زوراً وبهتانا بـ (عصر التنوير) بدأت تطرق آذاننا ألفاظ لمسميات لم نسمع بها من قبل ذلك نحن ولا آباؤنا، من ذلك كلمة «الدولة المدنية» التي يبشر القائلون بها والداعون إليها، بأن كل أزمات المسلمين في العصر الحاضر من الاستبداد السياسي إلى التخلف التقني، إلى الفقر والبطالة وتدني الخدمات، أن كل ذلك سيزول بمجرد أن تتحول دولنا إلى دول مدنية. ولما كانت المنافع المعلقة على هذا التحول منافع كبيرة يحرص كل إنسان يريد الخير لأمته ومجتمعه على الحصول عليها، كان لا بد لنا من معرفة مدلول هذا اللفظ حقيقةً قبل قبوله والدعوة إليه، حتى لا نذهب إليه ثم يتبين لنا ما فيه من الفساد العريض، لكن بعد أن يكون قد فاتنا القطار. فماذا تعني الدولة المدنية؟
هل يراد بالدولة المدنية: التعليم الحديث واستخدام التقنية المعاصرة في شتى مناحي الحياة، والإدارة الحديثة، والتوسع في العمارة وإنشاء الطرق السريعة؟ قد يكون هذا بعض المطلوب، لكن هل هذا هو المطلوب أو كل المطلوب؟ وهل يكفي أم لا بد من شيء آخر؟ وهل الشيء الناقص يعد جوهرياً أو ثانوياً؟ ولما كان الحديث طويلاً متشعباً لكثرة المتكلمين في ذلك فقد لا نتمكن من إيراد كل ما قيل في الموضوع، لكننا نأمل أن تكشف لنا هذه الورقة عن حقيقة ذلك الأمر.
- الدولة المدنية في التراث الإسلامي:
بالتقليب في كتبنا السابقة التي تحدثت عن الأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية لا نجد لهذا المصطلح وجوداً مع أن مفرداته: «الدولة» و «المدنية» هي من مفردات لغتنا، مما يتبين معه أن المصطلح مستورد من بيئة غير بيئتنا ـ وهذا في حد ذاته ليس عيباً، لو أنه كان لا يحمل مضموناً مخالفاً لما هو مقرر في ديننا ـ وعليه فإن محاولة البحث عنه في تراثنا لن تجدي شيئاً، وعلينا أن نبحث عن معناه في البيئة التي ورَّدته إلينا، ثم ننظر في معناه في تلك البيئة: هل يناسبنا فنقبله، أم يتعارض مع ديننا فنرفضه؟
ولعل هذا ما دعا بعض الكتاب إلى القول: «بما أن مصطلحات الدولة المدنية، والدينية (الثيوقراطية) ، و (الأوتوقراطية) مصطلحات نشأت في الغرب أساساً، فلا بد قبل أن نسعى إلى تطبيقها على واقعنا، أو نقرر رفضها وقبولها اجتماعياً ودينياً، أن نستوعب معانيها كما هي في الثقافة التي أنشأتها، وأي منها يتعارض مع الإسلام ويتفق معه» (?) .
لكن عدم وجود المصطلح نفسه في تراثنا، هل يعني أن المضمون الذي يحمله ـ سواء بالسلب أو الإيجاب ـ لم يكن موجوداً أيضاً؟
الدَّوْلة تعني في اللغة الغَلَبة، والغلبة يترتب عليها سلطان للغالب على المغلوب، ومن هنا يمكن القول إن العامل الأساس في تعريف الدَّولة هو السلطان أو السلطة، فإنه راجع إلى أصلها اللغوي، وفي كثير من كتب القانون الدستوري يعرِّفون الدولة عن طريق بيان أركانها دون الحديث عن ماهيتها، وأركان الدولة كما يجيء في هذه الكتب ثلاثة: ركن جغرافي يطلق عليه لفظ (إقليم) وهو متمثل في قطعة محددة من الأرض، وركن إنساني يطلق عليهم (شعب) وهو متمثل في مجموعة من الناس تعيش في هذا الإقليم، وركن معنوي يطلق عليه (السلطة العامة المستقلة ذات السيادة) وهو متمثل في الحكومة التي تملي إرادتها على ذلك الإقليم وما حواه من مخلوقات أو موجودات، وهذا الركن الأخير يتفق مع المعنى اللغوي في الدلالة على الدولة.
وإذا كان كثير ممن كتب في السياسة الشرعية يقتصرون في كلامهم على ما يتعلق بالدولة في ديار الإسلام، ولا يتعدون ذلك إلى تفسير تنوع الدول، فإننا نجد ابن خلدون ـ رحمه الله تعالى ـ يقدم تفسيراً في ذلك حيث يبين أنه نظراً لاختلاف الإرادات والمقاصد بين الناس وملوكهم؛ فقد يجر ذلك إلى هرج وتقاتل، فكان لا بد للتغلب على هذا الاحتمال من «أن يُرجَع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة، وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم، وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها، ولا يتم استيلاؤها {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} [الأحزاب: 62] » ثم يبين أنواع السلطة في الدولة فيقول: «فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبُصَرَائها كانت سياسة عقلية، وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرِّعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة» . فهو يفرق هنا بين سياسة عقلية وهي الأشبه بما يدعونه الدولة المدنية، وبين سياسة دينية، ثم يقدم ـ رحمه الله تعالى ـ أصول التنوع الكامل للدول فيقول: «إن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغَرَض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأُخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة؛ فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به» (?) فكانت الدولة عنده ثلاثة أنواع:
ـ دولة قائمة على حمل الناس على مقتضى الغرض والشهوة، وهي ما يمكن أن نطلق عليه: (الدولة المستبدة) أو (الديكتاتورية) .
ـ ودولة قائمة على حمل الناس على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، وهي ما يمكن أن نطلق عليه (الدولة المدنية) .
ـ ودولة قائمة على حمل الناس على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه (الدولة الإسلامية) أو (الشرعية) .
- الدولة المدنية في الثقافة الغربية:
الدولة المدنية: «هذا مفهوم مترجم ومعرب من الثقافة الغربية الحديثة، ويقصد به الدولة التي تستقل بشؤونها عن هيمنة وتدخل الكنيسة؛ فالدولة المدنية هي التي تضع قوانينها حسب المصالح والانتخابات والأجهزة والتي في نفس الوقت لا تخضع لتدخلات الكنيسة» (?) . والكنيسة في الغرب كانت هي راعية الدين والممثلة له؛ فاستقلال الدولة المدنية عن تدخل الكنيسة ووضعها للقوانين حسب المصالح، معناه عند القوم استقلالها عن الدين (?) ، وهو ما يعني أن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية.
ويقول كاتب آخر: «فمن الناحية التاريخية إذا رجعنا إلى أصل اصطلاحها الغربي، نجد أن للدولة المدنية مفهوماً فلسفياً ـ سياسياً، مناقضاً للدولة الدينية (الثيوقراطية) ، والتي يتأرجح مفهومها (نظرياً) بين حكم رجال الدين، وتحكيم الدين نفسه في السياسة؛ بغضِّ النظر عن طبيعة من يحكم به! ويتمثل مفهومها عملياً بتنحية الدين عن السياسة مطلقاً؛ باعتبار الدين هو مجموعة قوانين إلهية مميزة للدولة الدينية ... فكانت الدولة المدنية بمبدئها الرافض لتدخل الدين في السياسة دولة علمانية.. وأنها تمثل عبر التاريخ سواء في الشرق أو الغرب عند دعاتها إطاراً سياسياً للعلمانية قابلاً لتوظيف أي اتجاه فلسفي إيديولوجي في الحياة؛ بشرط تنحية الدين عن السياسة» (?) . «الحكومة المدنية في الفضاء المعرفي الغربي تعني تنظيم المجتمع وحكمه بالتوافق بين أبنائه بعيداً عن أي سلطة أخرى سواء دينية أو غيرها، أي إن شرط (العلمانية) أساسي في تلك الحكومات» (?) .
وإذا رجعنا إلى الوراء ثمانين سنة إلى أول من أدخل هذه المصطلحات إلى بيئتنا أو من يُعد من أولهم نجد الكلام نفسه حيث يقول: «طبيعي ومعقول إلى درجة البداهة أن لا توجد بعد النبي زعامة دينية، وأما الذي يمكن أن يتصور وجوده بعد ذلك فإنما هو نوع من الزعامة جديد ليس متصلاً بالرسالة ولا قائماً على الدين، هو إذن نوع لا ديني، وإذا كانت الزعامة لا دينية فهي ليست شيئاً أقل ولا أكثر من الزعامة المدنية أو السياسية، زعامة الحكومة والسلطان لا زعامة الدين، وهذا الذي قد كان» (?) ؛ فالدولة (الزعامة) المدنية عنده هي دولة (زعامة) لا دينية.
والمتابع لما يُكتَب هذه الأيام عن الدولة المدنية يمكنه رصد اتجاهات أربعة في بيان ما تعنيه الدولة المدنية، كلها تدور حول ما تقدم من معنى، سواء بالموافقة عليه أو المخالفة له.
الاتجاه الأول: وهو يمثل مَنْ قَبِل هذا المصطلح كما جاء من الغرب:
وهذا الاتجاه يمكن تقسيمه إلى فئتين:
فئة قبلت اللفظ ومفرداته لكن لم تصل به إلى غايته، أما الفئة الثانية فقد وصلت باللفظ إلى غايته وصرحت بأن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية.
الفئة الأولى: فإذا ذهبنا إلى مَنْ قَبِل هذا المصلح في بيئتنا العربية لننظر كيف تلقوه عن الغرب وكيف يفهمونه، فإننا نجد من يقول مبيناً خصائص هذه الدولة: «والدولة المدنية هي الدولة التي تقوم على المواطنة وتعدد الأديان والمذاهب وسيادة القانون» (?) ، ومن يقول: «الدولة المدنية هي الدولة التي يحكم فيها أهل الاختصاص في الحكم والإدارة والسياسة والاقتصاد ... إلخ، وليس علماء الدين بالتعبير الإسلامي أو (رجال الدين) بالتعبير المسيحي» (?) .
ومن يقول: «الدولة المدنية هي دولة المؤسسات التي تمثل الإنسان بمختلف أطيافه الفكرية والثقافية والأيديولوجية داخل محيط حر لا سيطرة فيه لفئة واحدة على بقية فئات المجتمع الأخرى، مهما اختلفت تلك الفئات في الفكر والثقافة والأيديولوجيا» (?) . لكن هذا الكلام إذا أُخذ مفصولاً عن لواحقه فقد لا يتبين منه شيء؛ فهو كلام محتمل يسهل التخلص من لوازمه، لذا لو رجعنا إلى تفصيلات الكلام فإنها تكشف كثيراً من هذا الإجمال أو الغموض؛ ففي تفصيلات الكاتب الأول، نجده يضع الدولة المدنية في مقابل ما يسمونه بالإسلام السياسي، وهو ما يعني أن علاقة هذا المصطلح بالإسلام ـ في فهمهم ـ ليست علاقة توافق، وإنما هي علاقة تعارض.
والحقيقة أنه ليس هناك ما يمكن أن يسمى إسلاماً سياسياً وإسلاماً غير سياسي؛ فتلك مسميات ما أنزل الله ـ تعالى ـ بها من سلطان؛ فالإسلام هو الدين الذي رضيه رب العباد للعباد، بما فيه من عقائد وعبادات وتشريعات ومعاملات، فتقسيم الإسلام إلى سياسي وغير سياسي ونحو ذلك من المصطلحات، وقبول ما يزعمون أنه إسلام غير سياسي وينعتونه بالإسلام المعتدل، ورفض ما يسمونه بالإسلام السياسي وينعتونه بالإسلام المتشدد، هو مُناظِر لفعل المشركين من قبل: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] ، قال ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ: «هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ جَزَّؤوهُ أَجْزَاءً، فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ، وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ» (?) .
يقول الكاتب المذكور: «فالخوف على الدولة المدنية قائم، والسؤال عن مستقبلها مطروح، في عدد متزايد من الدول التي يتنامى فيها دور حركات الإسلام السياسي» (?) ، ويعلق على محاولة الملك فؤاد ملك مصر ـ بعد سقوط الخلافة في تركيا ـ أن يجعل من نفسه خليفة فيقول: «عندما أغرى سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 الملك الراحل فؤاد بأن يحمل اللقب الذي بات بلا صاحب، لم يكن واضحاً حينئذ لكثير من المصريين مدى التغيير الذي يمكن أن يحدث في طبيعة الدولة إذا نجح فؤاد في تنصيب نفسه خليفة، لم يدرك الخطر على الدولة المدنية إلا قسم في النخبة السياسية والثقافية. ولكن هذه النخبة في مجملها كانت مؤمنة بأن الخلط بين السياسة والدين هو نوع من الشعوذة التي تسيء إلى كليهما، على نحو ما أبلغه الزعيم الوطني الراحل مصطفى النحاس بعد ذلك بسنوات إلى مؤسس جماعة (الإخوان) حسن البنا» (?) ، ويقول أيضاً: «وسجل التاريخ لرجال مثل علي عبد الرازق وطه حسين وعبد العزيز فهمي وغيرهم، دورهم المقدر في حماية الدولة المدنية» (?) .
ومعروف ماذا كان دور (علي عبد الرازق) الذي يعد أول من أنكر علاقة الدين بالحكم أو السياسة، وأنكر أن تكون خلافة الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ خطة دينية، وكذلك دور طه حسين التغريبي وغيره ممن ذكرهم الكاتب أو أشار إليهم، وهذا الاعتراف يعني أن الدولة المدنية هي الدولة العلمانية، وإن كان بعض الناس يفضل استخدام لفظ المدنية على العلمانية من أجل الخداع والمراوغة.
ويقول الكاتب الثاني: «نريد أن نتجاوز التسميات إلى المضامين، أي أن المضمون للفكرة هي: قيام الدولة على أساس مدني، وعلى دستور بشري أياً كان مصدره، وعلى احترام القانون، وعلى المساواة وحرية الاعتقاد» ويزيد الأمر تفصيلاً فيضيف: «نقبل وننادي وندعم الدولة المدنية الحديثة القائمة على سلطة الشعب في التشريع، وكما ورد بالنص في برنامج حزب الوسط الجديد في المحور السياسي (الشعب مصدر جميع السلطات التي يجب الفصل بينها واستقلال كل منها عن الأخرى في إطار من التوازن العام) وهذا المبدأ يتضمن حق الشعب في أن يشرِّع لنفسه وبنفسه القوانين التي تتفق ومصالحه.. ويؤمنون بأساس المساواة التامة في الحقوق والواجبات بكافة أشكالها ومنها السياسية بين الرجل والمرأة والمسلم وغير المسلم على أساس المواطنة الكاملة، ويؤمنون بالتعددية الفكرية والدينية والسياسية والثقافية» (?) .
ويقول الكاتب الثالث: «في الدولة المدنية يضع الإنسان قوانينه التي تنظم حياته لكونه أعرف بأمور دنياه، ويستمد من قوانين دينه القوانين التي تنظم علاقته بربه، ليكون مؤمناً لا يمنح لنفسه الحق أن يكون مدعياً لامتلاك الحقيقة ومفسراً وحيداً لمفاهيم الدين، مما يجعل الدولة كهنوتية تخضع لحكم الكهنوت وليس لحكم القانون» (?) ، فالدولة المدنية في فهمه تعني استقلال الإنسان بوضع التشريعات التي تحكم أمور الحياة، وحصر الدين في المفهوم العلماني الذي يقصر الدين على الشعائر التعبدية في معناها الضيق (?) .
وإذا كان الكاتبان الأول والثاني من دولة، والثالث من دولة أخرى فإن هناك كاتباً آخر من دولة ثالثة يردد المقولة نفسها؛ فعلى بُعد ما بينهم من المسافات وافتراق الديار وحَّدت بينهم الأفكار، فيقول: «إن مصدر السلطة في الدولة المدنية هو الأمة والشعب؛ فالأمة باب الشرعية الوحيد لها ... وللسلطة في الدولة المدنية ثلاثة أنواع مستقلة عن بعضها تمام الاستقلال، ولكل منها مؤسساتها واختصاصاتها، وهي: السلطة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية ... والمواطنة في الدولة المدنية حق لكل من توافرت فيه شروطها، بغض النظر عن دينه وعرقه، ومن حصل عليه كفلت حقوقه باسم القانون، فلا طبقية ولا طائفية ولا عنصرية» (?) .
وهناك من يقابل بين الدولة المدنية والدولة البوليسية فيزعم أن كل دولة ليست مدنية هي دولة بوليسية قائمة على القمع والظلم بغض النظر عن أي انتماء عقدي، وكلامه هنا يعني أن الدولة الإسلامية دولة بوليسية لا يمكن القبول بها؛ لأنها ـ من وجهة نظره ـ ليست دولة ديمقراطية، فيقول: «والدولة المدنية: نقيض الدولة العسكرية، وكل حكم سلطوي قمعي لا يقوم على الأسس الديمقراطية، هو حكم بوليسي سواء كان متسمياً باسم الدولة الدينية أو بغيره من الأسماء التي مهما تنوعت فإن السلطة التي تحتكر الحكم عن طريق فئة واحدة وفكر واحد هي سلطة لدولة بوليسية استبدادية متخلفة ... ليس هناك دولة دينية، وإنما دولة مدنية أو دولة بوليسية؛ لأن الدولة المدنية كفيلة باحتضان كل الأديان والأفكار، أما الدولة البوليسية فإنها دولة لا تقبل الآخر وتستعدي التعدد والتنوع مرة تحت مظلة الحكم العسكري المعلن ومرة تحت مظلة الحكم الديني، وكلاهما حكم بوليسي لا علاقة له بمبادئ الدين» (?) ، فكل حكم لا يقوم على الأسس الديمقراطية ـ عنده ـ هو حكم بوليسي استبدادي متخلف، سواء كان يستمد مرجعيته من الإسلام أو من غيره.
الفئة الثانية: وهناك من يصرح تصريحاً دون مواربة أو تلاعب بالألفاظ أن الدولة المدنية تعني الدولة العلمانية؛ فهذا كاتب يقول في مقال له بعنوان: لماذا ننادي بالدولة العلمانية؟: «ومن هنا حرصت البلاد التي انتهجت الديمقراطية الليبرالية الحقة، وأقامت الدولة المدنية الحديثة على عدم تضمين دساتيرها ما يفيد بديانة الدولة ... إن إقامة الدولة المدنية العلمانية وفق الصورة المنوه عنها، باتت ضرورة لإخراج مجتمعاتنا المتخلفة من شرنقة الجدل وحالة اللاحسم حول الكثير من القضايا الصغيرة والكبيرة التي لا تزال تراوح مكانها بسبب إقحام الدين فيها ومن ثَم الاختلاف المرير حولها» (?) ، وهذا كاتب آخر يقول: «لا يمكن بناء الدولة المدنية في ظل الدولة المذهبية أو الدينية المجردة من العلمانية؛ لأن العقيدة، أية عقيدة كانت لا تؤمن بحق جميع المواطنين على قدم المساواة طالما أن القانون الديني يميز بين العقائد. ومن هنا تبرز أهمية حرية العقيدة في المجتمع المدني ... إلى أن يقول: وأخيراً نؤكد أن الدولة المدنية العلمانية الليبرالية الدستورية ليست شكلاً مجرداً وإنما هي مضمون يساهم في تقدم المجتمع بكل مكوناته وقومياته وأديانه» (?) . وهذا كاتب آخر يضع الشروط الأساس لبناء الدولة المدنية فيقول: «استكمال بناء الدولة المدنية الحديثة بما يتطلب من خلو المجال العام من كل الإِشارات والرموز الدينية، حتى يصبح من الرحابة إلى الحد الذي يسع فيه كل المختلفين. وأن تجري السياسة على أساس المصلحة، وأن يكون التشريع تعبيراً عن تنوع الأمة» (?) .
- الدولة الثيوقراطية ليست من مصطلحاتنا:
يحلو لكثير من الكتاب في هذا الموضوع من أصحاب الاتجاه التغريبي المقابَلة بين ما يسمونه دولة مدنية، ودولة ثيوقراطية؛ أي الحكم بمقتضى التفويض الإلهي للحاكمين مما يضفي عليهم صفة العصمة والقداسة، ويذكرون ما في الدولة الثيوقراطية من المثالب والعيوب والآفات، ويُسقطون ذلك على الدولة الإسلامية، وهذا ليس من المنهج العلمي الذي يتبجح به هؤلاء؛ فإن هذا اللفظ (ثيوقراطية) ليس من الألفاظ العربية، وهو لم يأت في أي كتاب من كتب المسلمين؛ فكيف يحاسبوننا عليه؟ وهل هذا إلا كمثل من يتهم غيره بتهمة من عند نفسه ثم يحاسبه عليها وهو لا يعلم بها؟ فإذا كانت الدولة الثيوقراطية ليست من مصطلحاتنا أو مفرداتنا، لم يَجُز لأحد أن يحاكمنا إليها، ومن أراد فليلجأ إلى ألفاظنا ومصطلحاتنا حتى يكون النقاش علمياً.
إن الدولة الثيوقراطية التي يتحدثون عنها بالصفات التي يذكرونها لا نعلم عن وجودها إلا ما كان في بلاد الغرب النصراني الذين نشأ فيهم هذا المصطلح؛ حيث تسلط علماء اللاهوت على كل شيء حتى على قلوب الناس بزعم تمثيلهم للإرادة الإلهية؛ فهذه خبرة نصرانية لا علاقة لها بالإسلام من قريب أو بعيد؛ فما الذي يدعو هؤلاء إلى محاكمتنا إلى لفظ ليس من عندنا ولا يحاكموننا إلى ألفاظنا ومصطلحاتنا الثابتة في كتب أعلام هذه الأمة؟ وهل هذا إلا دليل على أن هؤلاء يحاكمون تاريخنا وهم في الوقت نفسه ينظرون إلى تاريخ الغرب النصراني نظرة إكبار وإعجاب؟ وهو يعني اختزال الخبرة السياسية في العالم كله في الخبرة الغربية؟ وهذا في منتهى التبعية واحتقار الذات. يقول أحد الكتاب: «ثقافتنا الإسلامية لم تعرف دولة مدنية وأخرى دينية؛ فهذا التقسيم أفرزته حركة التنوير في الغرب المناهضة لسلطة الكنيسة المطلقة، والتي كانت تمثل نمط السلطة الدينية غير المرغوب فيها، وهو المعنى الذي يعنيه مصطلح (ثيوقراطية) الذي هو نظام حكم يستند على أفكار دينية في الأساس مستمدة من المسيحية واليهودية، وتعني حكماً بموجب الحق الإلهي المزعوم، وهو نظام كان له وجود في العصور الوسطى في أوروبا، نتجت عنه دول دينية مستبدة؛ ولكننا في الشرق الإسلامي لم نعرف هذا اللون من الحكم؛ فليس في الإسلام مؤسسة دينية كالكنيسة، التي فيها التراتيبية المعهودة بين رهبانها ولا يجب أن يسمح بقيامها (?) .
لقد نعى القرآن الكريم على أهل الكتاب، ما يحاول هؤلاء بافتراء واضح أن يلصقوه بأمة المسلمين، فقال ـ تعالى ـ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] وقد بين أهل التفسير أن تلك الربوبية كانت في استقلال الأحبار والرهبان بالتشريع حتى إنهم ليُحِلُّون ما حرم الله ـ تعالى ـ ويحرِّمون ما أحل الله ـ تعالى ـ وهذا لم يكن بحمد الله ـ سبحانه ـ في أمة المسلمين.
الاتجاه الثاني: وهو يمثل من حاول المواءمة بين الدولة المدنية في مفهومها الغربي وبين الإسلام.
يرى هذا الاتجاه أن المسألة هينة وأنها مجرد اصطلاح، والاصطلاح لا مُشَاحَّةَ فيه كما يذكر أهل العلم، وعلى ذلك فهم يقررون أن الدولة في الإسلام مدنية ليست دينية، بينما دستورها من القرآن والسنة،: «إن الدولة مدنية لا دينية، أما مصدر الدستور والقانون فيها فحتماً هو الكتاب والسنة وموروث الأمة فقهاً وفكراً، والدولة المدنية في عصرنا هي دولة المؤسسات التي تحكم من خلالها» (?) . وهذا لا شك فيه محاولة للتوفيق بين الأفكار المعاصرة وبين ما هو مستقر في الشريعة بلا خلاف بين أحد من الأمة؛ إذ لم يدَّعِ أحد أن للأمة أن تشرِّع بمحض إرادتها وفق ما تراه مصلحة من دون التفات إلى موافقة الشريعة أو مخالفتها، لكن هذا الكلام في الحقيقة يحمل التناقض في ثناياه؛ إذ كيف نقول عنها إنها لا دينية ثم نقول في الوقت نفسه إن دستورها هو الكتاب والسنة؟ فمعنى كونها لا دينية أنها لا ترتبط بالدين، وكون دستورها الكتاب والسنة أنها ترتبط بالدين، وهذا تناقض، وهذه المشكلة يقع فيها من يحاول التوفيق بين المختلفات في الظاهر، من غير إزالة أسباب الخلاف الحقيقية.
والحقيقة أن المشكلة لا تكمن في التسمية أو الاصطلاح؛ فقد كان بالإمكان أن تُسمى الدولة في الإسلام دولة مدنية أو غير ذلك من الأسماء، لو لم تكن تلك المصطلحات ذات استعمال مستقر مناقض للشريعة، ومن ثَمَّ يصير استعمال هذا المصطلح لوصف الدولة في الإسلام سبباً في اللبس وخلط الأمور؛ لأن هذا الاصطلاح لم يعد اصطلاحاً مجرداً وإنما صار اصطلاحاً مُحَمَّلاً بالدلالات التي حَمَلَها من البيئة التي قدم منها.
فإذا كان بعض المتكلمين بهذا المصطلح والآخذين به يقولون بمرجعية الشريعة؛ فما الذي يحملهم على الإصرار على استعمال مصطلح أقل ما يقال فيه أنه مصطلح مشبوه، يدعو استعماله إلى تفرقة الأمة لا إلى جمعها، كما يمثل نوعاً من التبعية الثقافية للغرب، في الوقت الذي لا يوجد فيه أي مسوغ مقبول للإصرار على هذا الاستعمال.
ومما هو مقبول في العقل السليم أن الكلمة ذات المعنى الصحيح إذا كانت تحتمل معنى فاسداً فإنه يُعْدَلُ عنها إلى كلمة لا تحتمل ذلك المعنى الفاسد، وهذا الأمر المعقول قد أرشد إليه القرآن حينما قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104] ، قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: «نهى الله ـ تعالى ـ المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص ـ عليهم لعائن الله ـ فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولون: راعنا. يُوَرُّون بالرعونة» (?) . وقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «في هذه الآية دليلان: أحدهما ـ على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض ... الدليل الثاني ـ التمسك بسد الذرائع وحمايتها ... والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يُخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع» (?) .
الاتجاه الثالث: وهو يمثل من يرى أن الدولة المدنية هي جوهر الإسلام وحقيقته.
يرى أصحاب هذا الاتجاه أن مصطلح الدولة المدنية تعبير عن حقيقة الإسلام وجوهره؛ «فالدولة الإسلامية كما جاء بها الإسلام، وكما عرفها تاريخ المسلمين دولة مَدَنِيَّة، تقوم السلطة بها على البَيْعة والاختيار والشورى والحاكم فيها وكيل عن الأمة أو أجير لها، ومن حق الأمة ـ مُمثَّلة في أهل الحلِّ والعَقْد فيها ـ أن تُحاسبه وتُراقبه، وتأمره وتنهاه، وتُقَوِّمه إن أعوجَّ، وإلا عزلته، ومن حق كل مسلم، بل كل مواطن، أن ينكر على رئيس الدولة نفسه إذا رآه اقترف منكراً، أو ضيَّع معروفاً، بل على الشعب أن يُعلن الثورة عليه إذا رأى كفراً بَوَاحاً عنده من الله برهان» (?) . لكن أصحاب هذا الاتجاه لم يقدموا شيئاً يدعمون به تلك المقولة؛ فمن حيث اللفظ؛ فإن هذا المصطلح جديد، فلا يمكن البحث عنه في التراث الشرعي للتدليل على تلك الفرضية، ومن حيث المعنى فإن هذا المعنى المذكور لا يوافق عليه جميع القائلين بالدولة المدنية الموافقين عليها، فضلاً عن اشتمال هذا المصطلح لمضامين مناقضة للعقيدة والشريعة.
على أن هناك ممن يدعي هذه الدعوى لا يقدم مشاريع وأطروحات واضحة مفصلة تبين بها تلك المسألة، بعيداً عن الكلام المجمل الذي يمكن صرفه إلى عدة معانٍ محتملة غير قاطعة في المراد منها.
الاتجاه الرابع: رفض هذا المصطلح لما اشتمل عليه من مفاسد ولعدم الحاجة إليه:
يرى هذا الاتجاه أن الدولة المدنية التي يجري الحديث عنها هي دولة علمانية، «هذا الاصطلاح (الدولة المدنية) هو مطاطي ينكمش في أحسن حالاته ليحاكي الغرب في كثير من مناهجه السياسية في الحكم مع الحفاظ على بعض الخصوصيات، ويتمدد حتى يصل إلى أصل استعماله دولة علمانية صرفة» (?) ، «ومن وصف الدولة الإسلامية بأنها دولة مدنية وقع في خطأ ... ذلك أن الدولة المدنية الحديثة تنكر حق الله في التشريع، وتجعله حقاً مختصاً بالناس، وهذا بخلاف الدولة الإسلامية، بل إن هذا يخرجها عن كونها إسلامية، ويُسمّى هذا النوع من الحكم في الإسلام بحكم الطاغوت. وكل حكم سوى حكم الله هو طاغوت» (?) .
وفي هذا الجانب يتفق هذا الاتجاه مع الاتجاه الأول ولكن بفارق جوهري كبير، وهو أن الاتجاه الأول لا يظهر منه رفض واضح لعلمانية الدولة المدنية، بل منهم من يصرح بعلمانيتها ويدعو إلى ذلك، وأما هذا الاتجاه فيظهر منه الرفض الواضح لعلمانية الدولة ويحذر منها، ويرى أن الدين والعلمانية نقيضان لا يجتمعان معاً. وأما الاتجاه الثاني فيحاول أن يوائم بين الأمرين فيقبل شيئاً من هؤلاء وشيئاً من هؤلاء، وأما الاتجاه الثالث فهو يجعل الدولة المدنية من صميم الإسلام.
ومن هنا يتبين أن القابلين لهذا المصطلح مختلفون فيما بينهم فيما يظهر من كلامهم، فإن كان اختلافهم هذا حقيقياً، فهو دليل منهم على غموض هذا المصطلح وعدم وضوحه، واشتماله على كثير من الأمور التي يناقض بعضها بعضاً؛ فهم مدعوون لتنقيته من تلك التناقضات، واللائق بمثل هذا المصطلح في هذه الحالة تركه وعدم التعويل عليه، والبحث ـ إن كان لا بد ـ عن مصطلح آخر بريء من هذه التناقضات والغموض الذي يحيط به.