فيصل بن علي البعداني
(أنا محبَط، فاقد للثقة بإمكانية نهوض أمتنا وخروجها من حالة الغيبوبة الراهنة!!
لا أتوقع أن بوسعنا فعل شيء أمام هجمة أعدائنا الشرسة؛ إذ إن أمتنا ممزقة، وغير قادرة على تجاوز ضعفها؛ فكيف بقياد البشرية وهدايتها؟!
أمتنا مشلولة، وسيطرة الغرب وربائبه على كل عوامل القوة ومنطلقات النهوض محكمة.
جميع ما يعمله الدعاة والمخلصون أمور ضعيفة أو هامشية، لا تمكِّن من استرداد العزة، والخروج من حالة الغفلة المطبقة.
المتفائلون حالمون يعيشون في أبراج عاجية بعيداً عن الواقع، أو أنهم يخادعون الأمة، ويحاولون إيهام أبنائها بأن بإمكانهم فعل شيء، ولكن هيهات!) .
تصدر تلك المقولات ونحوها من بعض شباب أمتنا المخلص الحريص على بعث الأمة واسترداد مجدها، وبخاصة في أوقات الأزمات والمحن ومراحل صولة العدو وهيجانه.
وبادئ ذي بدء لا بد من التسليم بأن أمتنا تعيش أزمة حقيقية، وتمر بأوقات عصيبة، وفترة ضعف بينة؛ فقد ضعف تمسكنا بديننا، وعظمت غفلتنا، وكثر لهونا، وشكك عدونا (الداخلي والخارجي) بالأصول والمنطلَقات، وبث فكره المناقض، ومكَّن للمناهج البدعية الدخيلة على الأمة، وأزهق الأرواح، واستباح الحرمات، ونهب الخيرات، وعمَّق الفرقة، واستهدف بشدة بواعث المجابهة ومقومات النهوض المعنوية والمادية.
ومن حق كل من يعيش همَّ الأمة، ويشعر بمسؤولية نحوها أن يحزن ويتألم، وأن يُكثِر من التضرع والدعاء وسكب العبرات. وليس ذلك مجرد أمر يمكن فعله، بل هو إلى هذا الحد جانب مطالَب به كل صادق غيور.
ولا تعارض بين هذا، وبين ما نحن بصدد تقريره من حرمة اليأس، وبيان خطر الإحباط. ومن ضرورة التفاؤل، ووجوب القيام برفع راية الأمل، ومناداة الدعاة والمصلحين، بل وكافة أبناء الأمة: ذكوراً وإناثاً، شباباً وشيباً إلى الانضواء تحتها، وعدم الابتعاد كثيراً عن ظلالها.
لقد جاء الإسلام حاثّاً على الرجاء والأمل، وداعياً إلى التفاؤل الإيجابي الدافع للانطلاقة والعمل من أجل التصحيح والتطوير، بل إن اليأس والقنوط والإحباط والتشاؤم جوانب ليست بداخلة في نسيج التفكير الإسلامي البتة، مهما أحاطت بالمؤمن الشدائد، وادلهمت الخطوب، وغيم الجو وتلبد.
ونصوص الشريعة شديدة الصراحة والوضوح في هذا الجانب. قال ـ تعالى ـ على لسان نبيه يعقوب ـ عليه السلام ـ مخاطباً أبناءه: {وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] ، وقال ـ سبحانه ـ على لسان خليله إبراهيم ـ عليه السلام ـ: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «إن رجلاً قال: يا رسول الله! ما الكبائر؟ قال: الشرك بالله، والإياس من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله» (?) ، وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله» (?) .
ولذا نجد التفاؤل، والثقة بموعود الله ـ تعالى ـ وحسن الظن به ـ سبحانه ـ أصل راسخ، وسِمَة ثابتة، ومَعْلَم بارز، قوي الحضور في حياة نبينا الكريم #؛ وشواهد ذلك في السيرة العطرة أكثر من أن تُحصَر، ومن ذلك:
حديث خباب بن الأرتّ ـ رضي الله عنه ـ حين جاء بعض الصحابة الكرام إلى النبي # في صدر الإسلام، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، يستنصرونه، ويشكون إليه الحال، وقد كانوا في فترة يُضرَبون فيها، ويُجوَّعون، ويُعطَّشون، حتى ما يقدر أحدهم أن يستوي جالساً من شدة الضر، فأنكر # عليهم استعجالهم الفرج، ووجَّههم إلى الصبر الآمل الفاعل، الذي يستمر صاحبه في المدافعة، ويبادر بجد ونشاط وحزم إلى تجاوز الأزمة، ومواصلة الدعوة والتربية والعمل، والاجتهاد في الأخذ بأسباب النصر والتمكين، مهما اشتدت الوطأة، وعظمت المشقة، وتفاقمت المحنة، وطال زمن الإصلاح والتغيير، قائلاً: «كان الرجل فيمن قبلكم، يُحفَر له في الأرض، فيُجعَل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيوضَع على رأسه، فيُشَق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه. واللهِ ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (?) .
وفي طريق الهجرة، وهو # طريدٌ مُهْدَر الدم، نجده في غاية الثقة والاطمئنان، فيقول لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ حين قال له - وهما مختبئان في الغار -: «يا رسول الله! لو أن أحدهم رفع قدمه لرآنا، فقال #: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (?) ، ونجده يخاطب سراقة بن مالك أحد متعقبيه، الطامعين في قتله أو أسره قائلاً له: «كيف بك إذا لبست سوارَيْ كسرى؟» (?) .
وفي الخندق، وهو # وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ محاصرون في المدينة من الأحزاب، من كل صوب، وأحدهم لا يأمن على نفسه حين يذهب إلى الغائط، ويمكث # من الفاقة ثلاثاً بدون طعام مع ضخامة الجهد المبذول في حفر الخندق، ومشقة العمل، وقيامه بترتيب شؤون الناس وإعدادهم للنزال، وحمله همََّ الولوج في معركة فاصلة، تداعى لها الأعداء من كل حدب، وحال المؤمنين كما وصف ربنا ـ تعالى ـ: {إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] ، نجده # يبعث الطمأنينة في نفوس أصحابه الكرام، ويعمق ثقتهم بالله ـ تعالى ـ ويستنبت التفاؤل والأمل في دواخلهم، فيقول #: «أُعطيت مفاتيح الشام ... أُعطيت مفاتيح فارس ... أُعطيت مفاتيح اليمن» (?) .
وما ذاك منه # إلا إدراك لخطورة الإحباط، والشعور بالخيبة، واعتقاد العجز؛ إذ تُقتَل الإرادة، ويُقضَى على المبادرة، ويُزرَع القلق والجزع، ويحدث الاضطراب والتوتر، ويُحال بين المرء وبين الجد والمثابرة، إضافة إلى ما يتضمنه ذلك من ظن ما لا يليق بالله ـ سبحانه ـ وغير ما يليق بحكمته، ورحمته، ووعده الذي سبق لرسله من أن جنده هم الغالبون، وأن أعداءه هم المخذولون.
وفي المقابل يأتي ذلك إدراكاً منه # لعلو كعب الرجاء، وارتفاع منزلة التفاؤل، وضرورة العيش بنفسية آملة، طامحة بالنجاح، ناشدة تحقيق الأهداف، حسنة الظن بالله ـ تعالى ـ واثقة من تنزُّل نصره، وحدوث فَرَجه، وأن الأمر لا يعدو مرحلة استكمال الأمة لما هي مطالبة به من القيام بما عليها من تحقيق متطلبات النصر والابتعاد عن موانع التمكين.
ولوصول المرء إلى هذه الوضعية المنتجة، القادرة على الانطلاق بإصرار وعزم نحو المستقبل، فإن عليه:
ـ أن يتعرف على الله ـ تعالى ـ ومدلول أسمائه وصفاته حق المعرفة؛ حتى يتمكن - واقعاً وسلوكاً لا مجرد دعوى - من إحسان الظن به ـ سبحانه ـ والاطمئنان إلى تحقق موعوده ـ عزّ وجل ـ الذي تضافرت به نصوص الوحيين، مبشرةً هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين، وأن الله ناصر لجنده، حافظ لأوليائه.
ـ وأن يقرأ في تاريخ البشرية الطويل، ويطالع سِيَر الأنبياء والمصلحين، والذين كانوا يتحسسون في الدجى مفاتيح الفرج وسط أكوام القش، ويثابرون في البحث عنها؛ حتى يكرمهم الله ـ تعالى ـ بما نذروا أنفسهم له؛ من هداية أقوامهم، وإخراج أممهم من الظلمات إلى النور، وكيف أن الله ـ تعالى ـ كان معهم بنصره وتوفيقه وحفظه، وخذلانه لمن عاندهم؛ فتنكب طريقتهم، وسلك غير جادتهم.
ـ وأن يتعرف على نفسه الأمَّارة بالسوء: داعية الشر، ومركبة الجهل والظلم، فيجاهدها، ويعيد هندرة (?) حياته بصورة تمكنه من استثمار طاقته، وتركيزها في جانب يبقيه في دائرة الأهم ويجنبه ما دونها؛ من مشتتات النفس، ومبعثرات الجهد والوقت، وملهيات المرء عن القيام بالأعمال الأكثر إلحاحاً وضرورة.
ـ وأن يبتعد عن الأطروحات المثالية غير القابلة للتنفيذ بمفردها أو بمجموعة الجوانب التي تتكامل معها في دنيا الواقع، وينتقل للعيش في بيئة يقوم فيها بعمل أفضل ما يمكنه تنفيذه، سواء أكان ذلك بذاته أم من خلال الشراكة مع من يمكنه العمل معهم من إخوانه في حدود الهمم الحاضرة، والإمكانات المتاحة مهما كانت ضعيفة؛ لأن استثمار الفرص المتاحة هو المولِّد للفرص، والمهيئ للمعالجة وقبول النصيحة، وقد جرت سنة الله ـ تعالى ـ أن من واصل المضي في دربه الصحيح نحو هدفه قدر على تحقيقه ولو بعد حين.
ـ وأن يتقي أحاديث اليائسين ومرافقة المحبَطين: زراع الهزيمة، ومطيلي فترة الانكسار وأمد التخلف، ويستعيض عن ذلك بأسر نفسه في محيط أهل المبادرة، ودائرة أهل الإنجاز والعمل: وجه الأمة المشرق، وطليعتها المباركة نحو الإصلاح والتغيير.
ـ وأن يتجنب رسم صورة دونية لقدرات نفسه وأمته، ويدع التركيز على عوامل ضعفها والغفلة عن عوامل قوتها من جهة. ولا يغرق في تضخيم جوانب قوة الأعداء، والتغاضي عن جوانب ضعفهم.
ـ وأن يفرق أثناء نظراته التقويمية للجهود الخيرة بين آمال التحسين وطموح التطوير، وبين غمط رواد الأمة وطلائع نهضتها المباركة جهودَهم العديدة، وكأن شيئاً من البناء والمعالجة ومقارعة الباطل والخطو نحو النجاح الكبير لم يحدث.
ـ وأن يحذر في مسيرته من سمات القانطين؛ من سطحيةٍ في النظرة، وتسرُّعٍ في الحكم، واستعجالٍ للنتائج، وحِدَّةٍ في المواقف، وتعميمٍ، وإكثارٍ من القول والتشكي مع تأخرٍ في المبادرة وتقاعسٍ عن العمل، وعدم توازنٍ في التفكير، والقيام بالنظر إلى الأمور والتعاطي مع الأشياء على اعتبارها لا تقبل التفريق والتجزئة، ولا تحتمل المرحلية، ولا يمكن النظر إليها عملياً إلا من خلال زاوية واحدة.
ـ وأن يتأمل في قوة الإسلام الذاتية وما يتضمنه من نور وبهاء، ويمتلكه من إبهار وجاذبية ونقاء، في مقابل إفلاس المناهج الوضعية والأطروحات التغريبية في علاج مشاكل الإنسانية بعامة، وأمتنا بصفة خاصة.
ـ وأن يفرح ويستبشر بإقبال الأمة على الإسلام من جديد، واستعدادها حين يُحسِن المصلحون مخاطبتها والقيام بإثارتها للبذل والتضحية في سبيل تمكين دينها والذود عن حياضه من أن يُمَس من قِبَل أعدائها.
ـ وأن يقوم بنشر ثقافة التفاؤل، وفتح بوابات الأمل، ومد جسور المبادرة والحيوية والنشاط أمام أبناء الأمة لخدمة هذا الدين، كلٌ في المجال الذي يمكنه ويجد نفسه فيه؛ ليفيض الرجاء، ويعم البِشْر، وتنفرج الأسارير، وتتدفق الحماسة، وتعظم الجدية، وتتبدد ظلمات اليأس والقنوط، مدركاً أن الليل مقدمة الإصباح، والظلمة أول بشائر النور، وأن الجدب يتلوه الغيث، والحياة في أحيان كثيرة لا تنبثق إلا من باطن الأرض الموات.
إن من أهم ركائز الأمل ومتطلبات التفاؤل: سعة الأفق، وبُعد النظر، وطول النَّفَس، والصبر والمصابرة، وإعطاء المعالجة والبناء المدى الزمني الذي يحتاجان إليه، وقد كان ذلك جلياً في حياة من جعله الله ـ تعالى ـ أسوة حسنة لنا، وانظر إليه # وهو في (قرن الثعالب) يمشي مهموماً بعد أن طرده بنو عبد ياليل وآذوه ورجموه حتى أدموه، والملأ من قريش مصممون على منع عودته إلى مكة، وقد جاءه مَلَك الجبال فقال: «إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين» ، فأجابه #، وكله تفاؤل وأمل، وصبر، ورحمة، وبُعد نظر، واستشراف عميق للمستقبل: «بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً!!» (?) .
فكن من جيل التجديد: رواد النهوض وصناع التاريخ؛ فإن القانطين هم الضالون، والآيسين هم طائفة التخاذل، وجماعة التشاؤم، وركب الإحباط والعجز، ورافعو راية الاستسلام والهزيمة. لم يستطيعوا بناء الحياة السوية في نفوسهم وفي أجواء أسرهم؛ فكيف يصنعونها لغيرهم؟! وقديماً قيل: فاقد الشيء لا يعطيه.
فهيَّا إلى التفاؤل وقراءة الأحداث والمواقف بنفسية متزنة، ورؤية واعية عميقة، متفائلة غير مغرقة في نظرية المؤامرة؛ فإنه لا سبيل لركوب دروب العزة، والوصول لساحة الكرامة في الدنيا والسعادة في الآخرة إلا من خلال ذلك.
ولنحذر من الغرور والتمني الكاذب الذي يعيش صاحبه في أجواء السذاجة والغفلة، ويكتفي بالتغني بالأمجاد السالفة، ويرى أن كل الأمور خيِّرة، وكأنَّا لا نعيش في أجواء التبعية، وأن أعداءنا لم يعبثوا بقيمنا، ولم يستولوا على مقدساتنا، ولم يزهقوا أرواحنا، وينتهكوا أعراضنا، ويقتطعوا من أراضينا، ويستولوا على خيراتنا.
ودون أن يصاحب تمنيه اندفاع في تلقي العلم، ومثابرة في تقوية الإيمان، وأخذ النفس بالعزم، ودون أن يرافقه اجتهاد في تحصيل جوانب القوة، وامتلاك أسباب النصر، فإن في ذلك من تخدير الأمة، وتعييشها في أجواء التقاعس والغفلة ما يتوازى في أثره مع فعل غارسي أشواك الإحباط والقنوط.
ولْنَتَوَقَّ القيام بزراعة اليأس، واستنبات القنوط في دواخل نفوسنا وأوساط أمتنا؛ إذ لا يجوز لمن خاف الله أن يقنط هو في ذاته من رحمته ـ تعالى ـ (?) ولا أن يُحبِّط الناس وييئِّسهم من فرجه ـ سبحانه ـ فإن من قال: هلك الناس، فهو مهلكهم وأهلكهم.
ولنتذكر أن تباشير النصر قد بدت، وطلائع الضياء قد بزغت، والنصوص الثابتة وأحداث التاريخ يخبراننا بجلاء أن العسر يعقبه اليسر، وأن الكُرَب متى اشتدت انفرجت، وأن الحادثات متى تناهت فموصول بها الفرج القريب، ولكن أنَّى للمحبَطين الغارقين في دوامة اللحظة، والذين لا يرون إلا في حدود محيطهم الضيق أن يدركوا ذلك فضلاً عن أن يشاهدوه؟!
فاللهمَّ برحمتك وجودك بُثَّ الأمل والتفاؤل فينا؛ فإن حياتنا وركيزة انطلاقتنا في ذلك، وارزقنا بفضلك حسن الظن بك، والثقة بموعودك، والاجتهاد في التمسك بشرعك، والعمل لدينك، ومقارعة أعدائك، إنك على كل شيء قدير.
^
العدد 228