مجله البيان (صفحة 5707)

الوقف فضيلة إسلامية وضرورة اجتماعية

أ. د. بركات محمد مراد

حظي الوقف باهتمام خاص من طرف علماء الفقه الإسلامي، باعتبار ما ورد في الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة، من الحض على الإنفاق في سبيل الله، والترغيب فيه. قال ـ تعالى ـ: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] . والوقف يعتبر باباً مهماً من أبواب البر والخير والإحسان؛ لأنه يجمع لصاحبه بين الحسنيين: جميل الذكر في الدنيا، وحسن ثواب الآخرة، وهذا أقصى ما يتغياه المؤمن، ويتضرع إلى ربه للحصول عليه، وباعتباره أيضاً فرصة لاستدراك بعض ما فاته من واجبات فرّط فيها، أو من حقوق لم يؤدها، قبل أن يدركه الموت، فضلاً عن الدور الذي يقوم به في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

والدارس للحضارة الإسلامية يقف معجباً كل الإعجاب بدور الأوقاف في المساهمة في صناعة الحضارة الإسلامية والنهضة الشاملة للأمة. وإن من يقرأ تاريخ الوقف ليجد أنه شمل مختلف جوانب الحياة من الجامعات والمستشفيات إلى الأوقاف الخاصة بالحيوانات (مثل خيول الجهاد) التي لم تعد صالحة للاستعمال؛ فحينئذ تحال إلى المعاش وتصرف لها أعلافها وما تحتاج إليه من هذه الأوقاف ... إلى الأوقاف على الأواني التي تنكسر بأيدي الخادمات حتى لا يعاقبن، فيجدن بدائل عنها في مؤسسات الوقف.

كما يشمل الوقف (?) الكثير من أوجه المنفعة للمجتمع؛ إذ يشمل وقف المساجد والحوانيت والأراضي والخانات، ودور العلم والمدارس والمستشفيات، والحبس على المقابر بتوفير الماء واللَّبِن وخلافها، والأوقاف للغرض الحسن، ووقف البيوت الخاصة للفقراء، والسقايات، والمطاعم الشعبية التي يصرف فيها الطعام للفقراء والمحتاجين، ووقف الآبار في الفلوات لسقاية المسافرين والزروع والماشية، ووقف عقارات وأراضٍ زراعية يصرف من ريعها على المجاهدين أو يصرف ـ في حال عجز الدولة ـ على إصلاح القناطر والجسور.

وكثير من الأوقاف كان يصرف ريعه على اللقطاء واليتامى والمقعدين والعجزة والعميان والمجذومين، بل إن الوقف شمل ما حبس ريعه لتزويج الشباب والشابات الذين تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج والمهر، وشمل ما يقدم من حليب وسكر، حتى لقد جعل صلاح الدين الأيوبي في أحد أبواب القلعة بدمشق «ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزاباً آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي إليه الأمهات يومين في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من السكر والحليب» (?) حسب آليات ذلك الزمان.

ويمكن القول إن معظم دور العلم التي تأسست في القرن الرابع الهجري الذي يصفه آدم ميتز بـ (عصر النهضة في الإسلام) ثم المستشفيات والبيمارستانات والمدارس التي تأسست في العهد السلجوقي وحكم آل زنكي والأيوبيين في المشرق قامت بشكل أساس على الأوقاف. ثم إن مئات المؤسسات الاجتماعية والدينية كالجوامع والمدارس والخوانق والرُّبُط والزوايا والتكايا التي يعددها «محمد كرد علي» في مدن بلاد الشام التي يعود بعضها إلى ما قبل العهد العثماني وبعضها الآخر إلى المراحل العثمانية الأولى، إنما نشأت واستمرت بفعل الدعم الذي أمّنته لها مؤسسة الوقف (?) .

ولذلك يعد الوقف خاصية ملازمة للمجتمع الإسلامي عبر تاريخه الطويل، وكان بمثابة الطاقة التي دفعت به نحو النماء والتطور من خلال توفير المعينات المؤدية إلى تكوين مجتمع حضاري، تؤكد على ذلك الشواهد النصية المتناثرة في كتب التاريخ والسجلات والوثائق الخاصة بالأوقاف والمخلفات الآثارية التي توضحها نماذج الأبنية التي شيدت لتكون محوراً لأعمال الوقف من مثل المساجد والمدارس ومكاتب الأيتام والأسبلة والآبار والعيون. ومن الجدير بالذكر أنه كانت هناك أوقاف غاية في الطرافة والدلالة على سمو العاطفة الإنسانية في المجتمع الإسلامي، لا يعرف لها مثيل في المجتمعات الأخرى، فيما يذكر الدكتور مصطفى السباعي (?) .

من ذلك هذه الأوقاف التي كانت بطرابلس لبنان لتوظيف شخصين يمران كل يوم على المرضى في المستشفيات للتسرية عن المرضى، وقد يتعمد هذان الشخصان الحديث بصوت خافت فيما بينهما عن تحسن صحة المريض لمساعدته على البرء إن كان مثل هذا الحديث مفيداً لحالته.

ولم يكن الوقف الأهلي الخاص بذرية الواقف بعيداً عن هذه الأهداف النبيلة؛ حيث كان المنتفعون به في أكثر الأحوال من المحتاجين، كما كان الواجب فيه النص في إنشاء الوقف على انتهائه إلى جهة خير لا تنقطع عند انقراض الذرية الموقوف عليهم. ولعل انتشار الأوقاف وتغلغلها على هذا النحو وأسسها القانونية المميزة لها عن الأوقاف المعروفة في الحضارات الأخرى قبل الإسلام هو الذي كان في ذهن الإمام الشافعي عندما قال قولته المشهورة: «لم يحبس أهل الجاهلية داراَ ولا أرضاَ تبرعاً بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام» (?) .

وارتبط مسار الوقف في الإسلام بدرجة رئيسة بالفعل الاجتماعي؛ فكل أنماطه كانت موجهة نحو خدمة الإنسان، وتيسير الحياة له والتخفيف من معاناته؛ فهو بذلك يسبق التوجه الغربي المعاصر الذي يتركز على تقليص حجم الضرائب المقررة على ثروات الأفراد والشركات عندما تخصص جزءاً منه لصالح المجتمع، كما أنه يفوقه إنسانية؛ لأنه ينبع عن عقيدة وإيمان مصدرهما الإحساس بالآخر، والشعور بأن المال بغض النظر عن المتوافر منه لدى الأفراد، يجب أن يسخر لما فيه فائدة المجتمع عامة، ومن هنا كان ناتج الوقف مثمراً في تاريخنا القديم والوسيط؛ إذ تسابقت على تطبيقه فئات المجتمع كافة دون تحديد، فشارك فيه الحاكم والأمير والوزير والثري والعالم والإنسان العادي، فكانت الحصيلة هذه الثروة الحضارية التي ازدهرت مشرقة مشعة بالخير، استمرت في عطائها إلى زمن قريب عندما قلَّت العناية بأمره حين ألقى الجهل بأهمية الوقف ودوره بظلاله على المجتمع الإسلامي، فتراجع الاهتمام به، وانحسر التوجه إلى استخدامه وسيلة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فظهرت كثير من المعضلات المعيقة لرقي المجتمع من مثل الأمية والمرض والفقر.

ولكن مع تزايد الصحوة الإسلامية في الربع الأخير من القرن المنصرم، وتعاظم آثارها الإيجابية على مختلف مقومات الحياة للأمة الإسلامية، بدأت الكثير من مظاهر الحياة الإسلامية تعود إلى ما كانت عليه، وكان من الطبيعي الاهتمام بأحد أهم السمات الإنسانية للأمة الإسلامية والتي صاحبت كل العصور الإسلامية ـ حتى في عصور الانحطاط ـ وهو الوقف.

ولذلك شهد العقدان الأخيران من القرن العشرين الميلادي المنصرم نشاطاً ملحوظاً وتدفقاً مستمراً في الحديث والتنظير والتنظيم لإقامة الفعاليات والأنشطة الوقفية؛ فمن إقامة مؤتمرات وندوات تنادي بضرورة إيجاد آليات لتنشيط دور الوقف في المجتمعات الإسلامية، كما كان الحال في العصور الإسلامية السالفة، إلى بروز تيار أكاديمي في الرسائل الجامعية والكتب الثقافية ينوه بضرورة نظام الوقف في عصرنا الحاضر، وصولاً بتأسيس مجالس وأمانات واتحادات للوقف في بعض الدول العربية والإسلامية، بدأت بالممارسة الفعلية في تنظيم وترتيب أوضاع الأملاك الوقفية في هذه الدول، بعدما غُيِّب الوقف كقيمة إنسانية بعد تخلف الأمة الإسلامية، وتمكن الاستعمار الغربي من هدم كثير من مقومات الحياة الإسلامية (?) ، مما أدى إلى اضمحلال الوقف في عالمنا الإسلامي المعاصر. وعلى الرغم من ازدهاره في بلاد عربية وإسلامية قليلة مثل السعودية والكويت ومصر والإمارات والمغرب إلا أن هنالك فروقاً متسعة إن لم تكن شاسعة بين هذا وذاك، وشتان بين الكائن وما يمكن أن يكون!

ü حقيقة الوقف ومشروعيته:

وقد دلت السنَّة الشريفة على مشروعية الوقف؛ فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن عمر أحب أرضاً له من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله! إني أحببت أرضاً بخيبر، لم أحب مالاً ـ قط ـ أنفس عندي منه؛ فما تأمرني؟ قال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق عمر على أن لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقاً غير متمول مالاً» (*) قال الإمام أحمد: «قد وقف أصحاب رسول الله # وهو فيهم بالمدينة ظاهرة؛ فمن رد الوقف فإنما رد السنة» (?) .

ومن نماذج الوقف المبكر، ما روي أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ وقفت داراً اشترتها وكتبت في شرائها: «إني اشتريت داراً وجعلتها لما اشتريتها له؛ فمنها مسكن لفلان وعقبه ما بقي، ولفلان وليس فيها لعقبه، ثم يرد إلى آل أبي بكر ... » (?) . ولم يمنع الفقر محمد بن ناصر بن محمد بن علي، أبا الفضل، وكان من العلماء البارزين في بغداد وصفه ابن النجار بأنه كان ثقة ثَبْتاً حسن الطريقة متديناً فقيراً متعففاً نظيفاً منزَّهاً، في المشاركة في خدمة مجتمعه فوقف كتبه» (?) .

ثم وجدنا كثيراً من الصحابة يصنعون صنيع عمر بن الخطاب، ووقفوا أموالهم على طريقته ومنهم أبو بكر وعثمان وعلي والزبير بن العوام ومعاذ بن جبل وأسماء بنت أبي بكر، وغيرهم كثير. حتى قال جابر بن عبد الله: «ما أعلم أحداً كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبَّس من ماله صدقة مؤبَّدة لا تشترى أبداً، ولا توهب ولا تورث، فكان هذا اتفاقاً عملياً من الصحابة، فلو كان الوقف غير لازم لرجع بعض هؤلاء الواقفين عن وقفه، ولكنه لم يحدث، ولو رجع أحد منهم عما أوقف لنُقل إلينا، إضافة إلى أن فكرة حبس الأعيان عن التصرف التملكي والتصدق بمنفعته فيها أكبر ضمان للتمكن من إقامة دور العبادة والعلاج والعلم، والبر بالفقراء ومعالجتهم وتثقيفهم والتعاون على البر والتقوى، وتوثيق الصلة بذي القربى، ومد يد العون الدائمة لهم (?) .

ويؤكد الدكتور خالد عبد الحكيم إسماعيل (?) أن جمهور الفقهاء يرى أن الوقف لازم بمجرد صدوره من الواقف، وليس له الرجوع فيه؛ ذلك أن النبي # قال لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب ولا يورث» . وقد اتفق العلماء على أنه يصح الوقف على الأولاد والأقارب والفقراء والمساكين، وعلى سبل البر من بناء المساجد والقناطر، وعلى كتب العلم والفقه والقرآن، والمقابر والسقايات، وسبيل الله وغيرها.

إن الوقف له دور رئيس في سد حاجات المجتمع الإسلامي، فأسمى أهداف الوقف ترتيب الأجر والثواب المستمر للعباد في حياتهم وبعد مماتهم، من خلال الإنفاق والتصدق والبذل في وجوه الخير والبر. وهذا سبيل إلى مرضاة الله ورسوله، وطريق إلى الفوز بالجنة والنجاة من النار. فالوقف نوع من القربات التي يستمر بها صدقة جارية إلى قيام الساعة. ويحقق الوقف مبدأ تكافل المجتمع وإيجاد عنصر التوازن بين الأغنياء والفقراء، ويضمن الوقف بقاء المال وحمايته ودوام الانتفاع منه، ويوفر سبل التنمية علمياً وعملياً بمفهوم تكاملي شامل.

وتعد الجوامع والمساجد أهم الأنماط التي حظيت بعناية الواقفين؛ حيث سُعِيَ إلى تعميرها وتشييدها وتزويدها باحتياجاتها من الفرش والبسط وخزائن الكتب والصرف على العاملين فيها. كما أن الحرمين الشريفين حظيا بنصيب وافر من الاهتمام من الواقفين على مر العصور، ولم يقتصر الوقف على عمارتهما وتوفير سبل الراحة لقاصديهما، بل تعدى ذلك إلى الاهتمام بالوقف على كافة أمور الحياة في المدينتين الشريفتين مكة والمدينة.

وقد اقتضت كثرة الأوقاف وتشعب جهات المنتفعين بها التفكير في إنشاء تنظيم إداري للإشراف على الأموال الموقوفة وضمان حسن التصرف فيها بما يحقق المصلحة العامة ومصلحة المنتفعين على السواء. ويرجع أقدم تنظيم إداري للأوقاف إلى العهد الأموي؛ إذ يذكر الكندي أن (توبة بن نمير) لما ولي قضاء مصر عام 115هـ (?) اتجه إلى تسجيل الأحباس في ديوان خاص بها، وجعل ذلك تحت إشرافه، بناء على ما رآه من أنها صدقات مرجعها إلى الفقراء والمساكين، فقرر أن يلي الإشراف عليها حفظاً لها من أن يضع المنتفعون بها أيديهم عليها ويتوارثونها، فتضيع ثمرتها أو لا تصل إلى مستحقيها. ولم يكن صنيع (توبة) في الإشراف على الأوقاف عملاً فردياً، فقد تتابع القضاة على تولي شؤون الأوقاف بالنظر والإشراف ومحاسبة المسؤولين.

وفي العصر العباسي تنوعت الأوقاف واتسعت، بحيث أصبحت تجري في الأراضي الزراعية بعد أن ظلت منحصرة في الدور، وهذا هو ما يذكره (المقريزي) حيث قال: «إن الأحباس لم تكن إلا في الرباع وما يجري مجراها، وأما الأراضي فلم يكن سلف الأمة يتعرضون لها، حتى إن أحمد بن طولون لما بنى الجامع والمارستان والسقاية وحبَّس على ذلك الأحباس الكثيرة لم يكن فيها سوى الرباع ونحوها بمصر، ولم يتعرض لشيء من أراضي مصر (أي الزراعية) (?) .

ولم يعد في وسع القضاة الإشراف على الأوقاف لكثرتها بمرور الوقت، فقامت الدولة العباسية بتخصيص جهاز إداري لمتابعة الأوقاف والإشراف عليها، وكان رئيس هذا الجهاز يسمى (صدر الوقوف) وقد قوي هذا الجهاز الإداري في عهد الدولة العثمانية وزادت فروعه وصدرت له القوانين المنظمة لاختصاصه وأعماله وكيفيات ممارسة مسؤولياته والمحاسبة عليها (?) ، وقد انتقلت أكثر هذه التنظيمات والتشريعات إلى قوانين الأوقاف الحديثة المعمول بها في البلاد العربية والإسلامية التي كانت تضمها دولة الخلافة العثمانية.

وقد تضخم الجهاز الإداري المسؤول عن الأوقاف الأولى، وانقسم إلى ثلاثة دواوين أساسية: ديوان لأحباس المساجد، وديوان لأحباس الحرمين الشريفين وجهات البر الأخرى، وديوان للأوقاف الأهلية. وقد بلغت أحباس المساجد وحدها في مصر في عهد الناصر محمد بن قلاوون 130 ألف فدان، فأراد هذا السلطان الاستيلاء على نصف هذه المساحة، ولكنه قُبِضَ قبل أن يتم له ما أراد طبقاً لما يذكره المقريزي في خططه.

ü شروط اختيار النظار:

اهتم الفقهاء بأمر ناظر الوقف وحرصوا على التدقيق والتحري في حسن اختياره، فاشترطوا في توليته مجموعة من الشروط تتناسب وخطورة منصبه، وهذه الشروط منها ما هو محل اتفاق. فأما الشروط التي حظيت باتفاقهم فيمكن حصرها في العقل والرشد والأمانة والكفاية؛ فهم يحرصون على اشتراط العقل في الناظر؛ لأن فاقد العقل عاجز عن النظر لنفسه، عديم التمييز لما فيه المصلحة، فاسد التدبير، وليس أهلاً لأي عقد أو تصرف قولي، لعدم اعتبار عبادته؛ إذ لا يترتب عليها أي أثر شرعي.

ويشترطون فيه الرشد؛ لأن السفيه محجور عليه في إدارة امواله، وأموال غيره بالأوْلى. وأما عن كفاية الناظر (?) ؛ فهي من الشروط العامة في الوظائف والولايات لا فرق في ذلك بين الولاية على الوقف وغيرها، وهي من الشروط المهمة التي ينبغي توافرها في الناظر، حتى يتاتى له القيام بمهامه على الوجه الأكمل. ولما كانت الولاية على الوقف تدخل في باب التعاون على البر والتقوى، ولا ينهض بحمل ثقلها إلا الأمين القوي، فإن الفقهاء يرون أن الأمانة من الشروط المطلوبة في اختيار النظار، فهي لا تقل أهمية عن شرط الكفاية. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] ؛ فبهذا الشرط نضمن سلامة الوقف من السرقات وما ينجم عن ذلك من تبعات، كما أننا نضمن وصول المنافع والغلل إلى ذويها كاملة.

كما يضيف الفقهاء شروطاً أخرى لا غنى عنها مثل العدالة والإسلام. وليس للناظر أن يفعل شيئاً من أمر الوقف إلا بمقتضى المصلحة الشرعية، وعليه ان يفعل الأصلح فالأصلح، كما هو الشأن في وصي اليتيم؛ فإن هذا الأخير وناظر الوقف ووكيل الرجل في ماله، عليهم أن يتصرفوا بالأصلح فالأصلح، قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34] ، ولذلك ينبغي على الناظر «أن يتحرى في تصرفاته النظر للوقف والغبطة (*) ؛ لأن الولاية مقيدة به» (?) ، ومن مظاهر التصرف وفق المصلحة الابتعاد عن الإسراف والتبذير لأموال الوقف.

ü وقف الكتب والمكتبات:

وكأنموذج من أنماط الوقف الإسلامية التي ساعدت على ازدهار العلم والثقافة في العالم العربي والإسلامي في العصور الوسطى، الكتب والمكتبات، ويعد وقف الكتب الأساس الذي قامت عليه المكتبة العربية، وهو يشمل وقف المكتبات بأكملها، ووقف الكتب على المدارس والمساجد والمشافي والمراصد والرُّبُط والخانقاهات. كما كان هناك نوع من الوقف يتمثل في وقف كتب عالم بعد وفاته على أهل العلم أو على ورثته، واهتم واقفو المكتبات المستقلة أو تلك التي كانت في مدارس أو مساجد بتوفير دخل مادي ثابت لها لصيانتها وترميمها، وتحمُّل التكاليف المادية للعاملين فيها، وخصص بعضهم ريعاً يساعد على نماء المجموعة وازدهارها عبر السنين.

وانتشرت خزائن كتب الواقفين في أجزاء العالم الإسلامي منذ القرن الهجري الرابع، وأصبحت تلك المكتبات قبلة لطلاب العلم تعينهم على التزود بكل جديد، وتوفر لهم فرص مواكبة الأفكار والآراء المدونة لمؤلفين من أصقاع العالم الإسلامي، وبلغ من انتشارها أن (أبا حيان النحوي) كان يعيب على من يشتري الكتب ويقول: «اللهُ يرزقك عقلاً تعيش به، أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف» (?) .

وللدلالة على ضخامة عدد المكتبات الوقفية وشيوعها، نشير إلى أنه كانت في مدينة (مرو الشاهجان) خزائن للوقف، وذلك في القرن السابع الهجري، يقول عنها (ياقوت الحموي) : «لم أرَ في الدنيا مثلها كثرة وجودة، منها خزانتان في الجامع إحداهما يقال لها «العزيزية» وقفها رجل يقال له عزيز الدين أبو بكر الزنجاني. وكان فقاعياً للسلطان سنجر.. وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد أو ما يقاربها، والأخرى يقال لها «الكمالية» .. وبها خزانة شرف الملك المستوفي أبي سعيد محمد بن منصور في مدرسته، وخزانة نظام الملك الحسن بن إسحق في مدرسته للسمعاني، وخزانة أخرى في المدرسة العميدية، وخزانة لمجد الملك أحد الوزراء المتأخرين بها، والخزائن الخاتونية في مدرسته، والضميرية خانكاه هناك، وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مائتا مجلد وأكثره بغير رهن، تكون قيمتها مائتي دينار، فكنت أرتع فيها وأقتبس من فوائدها، وأنساني حبها كل بلد وألهاني عن الأهل والولد، وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيره مما جمعته، فهو في تلك الخزائن» (?) .

وهناك مئات من العلماء والمفكرين والأدباء قد وقفوا كثيراً من الكتب والمكتبات الكاملة أحياناً، نطالعها في معجم الأدباء لياقوت الحموي، وكتاب سِيَر أعلام النبلاء للذهبي، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني. ويقول الدكتور «يحيى محمود بن حيدر» (?) : وتحمل النصوص الوقفية على الكتب في الغالب معلومات تدل على عمق الحرص على هذه الظاهرة والاهتمام باستمرارها بوصفها وسيلة من وسائل توفير العلم لأبناء المجتمع؛ فمن ذلك تعيين ناظر يتولى التصرف في الكتاب وإتاحته للمستفيدين، وعدم حجزه أو منعه، والتشديد على من قد يتصرف في تغيير صفة الوقف عنه، وفي بعض الأحيان السماح بإعارته مدة محددة، كما أن بعض نصوص الوقف فيها ما يدل على تراجع عن التصرف في كتاب وقفي، وإعادة صفة الوقف إليه مرة أخرى، نزولاً على الحق، مما يدل على احترام المجتمع لهذه الظاهرة والحرص عليها.

ü الحفاظ على قيمة الوقف واستثماره:

ولا ننسى أهمية الحفاظ على قيمة الوقف وعدم إهمال تنميته ورعايته؛ وذلك بالحفاظ على العقارات وما في حكمها من منشآت يتم بالصيانة والرعاية وعدم الإهمال، خاصة حين يكون الوقف أشجاراً ونباتات تحتاج إلى رعاية شاملة. وأما النقود فيكون الحفاظ عليها بوضعها في أوعية استثمارية عالية مضمونة القيمة، بعيداً عن التضخم وتقلبات الأسعار أو إقراضها للمؤتمنين حسب شروط الواقف. وأما الحفاظ على الحلي المخصص للوقف فيتم عن طريق وضعه في مكان أمين وعدم تسليمه إلا إلى المؤتمنين عند الإعارة.

ومن هنا يرى الباحث «د. علي محيي الدين القره داغي» (?) أن على الدولة الإسلامية أن تضع الأنظمة والأجهزة لحماية أوقاف المسلمين والحفاظ عليها، وهو واجب كذلك على ناظر الوقف ومتوليه، بل على المسلمين جميعاً كل حسب إمكانه وصلاحياته.

وقد نص الفقهاء على إعطاء الأولولية من رَيْع الوقف لإصلاحه وتعميره وترميمه وصيانته بما يحافظ على قدرته على الانتفاع به، حيث يوجه الريْع الناتج من الوقف إلى إصلاحه أولاً ثم إلى المستحقين، حتى إن الفقهاء قد نصوا على أنه إذا شرط الواقف ان يصرف الريع إلى المستحقين دون النظر إلى التعمير؛ فإن هذا الشرط باطل، وقال المرغيناني: «والواجب أن يبتَدَأ من ارتياع الوقف بعمارته شَرَط ذلك الواقف، أو لم يشترط؛ لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبداً، ولا تبقى دائمة إلا بالعمارة، فثبت شرط العمارة اقتضاءً» 0

وقال ابن الهمام: «ولهذا ذكر محمد ـ رحمه الله ـ في الأصل في شيء من رسم الصكوك، فاشترط أن يرفع الوالي من غلته كل عام، ما يحتاج إليه لأداء العُشر والخراج، والبذر، وأرزاق الولاة عليها، والعمالة، وأجور الحراس والحصادين والدارسين؛ لأن حصول منفعتها في كل وقت لا يتحقق إلا بدفع هذه المؤن من رأس الغلة» . وقال شمس الأئمة: «وذلك وإن كان يستحق بلا شرط عندنا، لكنه لا يُؤْمَن جهل بعض القضاة فيذهب في رأيه إلى قسمة الغلة؛ فإذا شرط في صكه يقع الأمن بالشرط» . ثم قال: «ولا تؤخر العمارة إذا احتيج إليها» (?) . فالواجب هو بقاء الوقف على حالته السليمة التي تستطيع أن تؤدي دورها المنشود، وغرضه الذي أوقفه الواقف لأجله؛ وذلك بصيانته وعمارته والحفاظ عليه بكل الوسائل المتاحة، بل ينبغي لإدارة الوقف (أو الناظر) أن تحتفظ دائماً بجزء من الريع للصيانة الدائمة والحفاظ على أموال الوقف.

أما استثمار الوقف؛ فإن الوقف نفسه استثمار؛ لأن الاستثمار يراد به إضافة أرباح إلى رأس المال لتكون المصاريف من الربح فقط، فيبقى رأس المال محفوظاً بل مضافاً إليه من الربح الباقي ليؤدي إلى كفاية الإنسان وغناه. وكذلك الوقف حيث هو خاص بالأمول التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء أصلها؛ ولذلك فالأشياء التي لا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاكها مثل الطعام، لا يجوز وقفها (?) .

ولا شك أن استثمار أموال الوقف يؤدي إلى الحفاظ عليها حتى لا تأكلها النفقات والمصاريف، ويساهم في تحقيق أهداف الوقف الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، والتنموية، إضافة إلى أن الوقف الذي يراد له الاستمرار، ومن مقاصده التابيد لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال الاستثمارات الناجحة، وإلا فالمصاريف والنفقات والصيانة قد تقضي على أصله إن لم تعالج عن طريق الاستثمار المجزي النافع.

ومواكبةً لسُنَّة التطور لا بد من إنشاء أوقاف جديدة وبأشكال قانونية متعددة، ودخولها مجالات حيوية عصرية تحتاجها الأمة الإسلامية، وبأنماط متطورة قد تجاري المؤسسات الخيرية الحديثة المقتبسة من الأنظمة الغربية، وإن كان لا بد أن تخضع لضوابط أساسية مستخلصة من الأحكام الشرعية، ومن تراثنا الفقهي، تساعدنا في تطوير المؤسسات الوقفية، وتحديث أساليب العمل بها، وولوجها مجالات أخرى متقدمة، لتؤدي رسالتها الإنسانية المجيدة.

ولذلك يؤكد الدكتور أحمد شوقي الفنجري أن الإسلام أهدى للبشرية مؤسسة مالية هي مؤسسة الوقف؛ لكن تم تعطيلها في العالم الإسلامي، في حين نهضت في العالم الغربي تحت مسميات أخرى، حيث لا توجد أسرة أوروبية أو أمريكية إلا وتخصص تلقائياً نسبة 2% من دخلها للمنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية، كما ان رجال المال والأعمال في بلاد الغرب يوقفون من أملاكهم وأموالهم على أوجه البر، مثل الجمعيات والمستشفيات. ومن هنا ضرورة تفعيل دور هذا النوع من الأعمال الخيرية المتمثلة في الوقف والتي يمكن أن تخفف العبء عن ميزانية الدولة التي ارتفع العجز لديها إلى أرقام كبيرة، كما يمكن أن يمتد نشاط الوقف إلى مجالات هامة جداً في العصر الحديث مثل تمويل أبحاث علمية هامة صناعية أو طبية أو تنموية، إضافة إلى تفعيل مشاريع ثقافية هامة، مثل الإنفاق على التعليم، ومحو الأمية لملايين من المسلمين الذين يرزحون تحت وطأة الجهل والفقر والمرض.

ü الضوابط الشرعية للاستثمار:

وقد حدد بعض العلماء الضوابط الشرعية لاستثمار أموال الوقف بعدة ضوابط هامة (?) :

1 ـ المشروعية: ويقصد به أن تكون عمليات استثمار أموال الوقف مطابقة لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية؛ حيث يتم تجنب استثمار الأموال الوقفية في المجالات المحرمة شرعاً كالإيداع في البنوك بفوائد، أو شراء أسهم شركات تعمل في مجال الحرام.

2 ـ الطيبات: ويقصد به توجه أموال الوقف نحو المشروعات التي تعمل في مجال الطيبات؛ لأن الوقف عبادة، ويجب ان تكون طيبة؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.

3 ـ الأولويات الإسلامية: أي ترتيب المشروعات المراد تمويلها وفقاً لسلم الأولويات الإسلامية: الضروريات فالحاجيات فالتحسينات؛ وذلك حسب احتياجات المجتمع الإسلامي والمنافع التي سوف تعود على الموقوف عليهم.

4 ـ التنمية الإقليمية: فتوجه الأموال للمشروعات الإقليمية للبيئة المحيطة بالمؤسسة الوقفية ثم الأقرب فالأقرب، ولا يجوز توجيهها إلى الدول الأجنبية ما دام الوطن الإسلامي في حاجة إليها.

5 ـ تحقيق النفع الأكبر للجهات الموقوف عليهم: ولا سيما الطبقات الفقيرة، وإيجاد فرص عمل لأبنائها.

6 ـ تحقيق العائد الاقتصادي المرضي الذي يمكن الإنفاق منه على الجهات الموقوف عليها: فالتوازن بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية ضرورة شرعية في المؤسسات الوقفية.

7 ـ المحافظة على الأموال وتنميتها: أي عدم تعريض الأموال لدرجة عالية من المخاطر والحصول على الضمانات اللازمة المشروعة للتقليل من تلك المخاطر، وإجراء التوازن بين العوائد والأمان.

8 ـ التوازن: أي تحقيق التوازن من حيث الآجال والأنشطة والمجالات لتقليل المخاطر وزيادة العوائد، والاهتمام بالاستثمارات القصيرة والمتوسطة والطويلة الأجل.

9 ـ تجنب الاستثمار في دول معادية ومحاربة للإسلام والمسلمين: وأن تكون الأولوية للاستثمار في الدول الإسلامية.

10 ـ توثيق العقود: أي أن يعرف كل طرف من أطراف العملية الاستثمارية مقدار ما سوف يحصل عليه من عوائد أو مكاسب، أو ما يتحمل من خسائر، وأن يكتب في عقود موثقة حتى لا يُحِدث جهالة أو غرراً، فيؤدي إلى شك وريبة ونزاع.

11 ـ المتابعة والمراقبة وتقويم الأداء: للأطمئنان على أن الاستثمارات تسير وفقاً للخطط والبرامج المحددة مسبقاً.

أما في المجالات والمشاريع التي يمكن الاستثمار فيها في العصر الحديث، فهي كثيرة مثل: الاستثمار العقاري، أو الاستثمار في إنشاء المشروعات الإنتاجية، أو الاستثمار في المشروعات الخدمية: التعليمية والطبية والاجتماعية، ومكاتب تحفيظ القرآن، والمستوصفات والمراكز الصحية، ودور الضيافة ودور اليتامى والمسنين والمرضى، ونحو ذلك.

ü المحاسبة والمراجعة:

ولإنجاح مؤسسة الوقف لا بد من الاهتمام بالمحاسبة والمراقبة باعتبارها صِمَام الأمان للاستثمارات الوقفية. والتدقيق في هذه المحاسبة يردع أيادي النُّظَّار المطلقة، حتى يدركوا أن هناك رقابة مرصدة عليهم، فيجنبهم الخوف من نتائجها السير في طريق الاستغلال غير المشروع لخيرات الوقف.

ومسألة المحاسبة هذه ليست أمراً غريباً عن الشرع؛ فقد ثبت أن النبي # كان يستوفي الحساب على عماله فيحاسبهم على المستخرَج والمصروف، بدليل ما جاء في الصحيح ان النبي الكريم استعمل (ابن اللتبية) على صدقات (بني سليم) فلما جاء رسولَ الله # وحاسبه، قال: هذا الذي لكم، وهذه هدية أُهديت لي، فقال رسول الله #: «فهلاَّ جلستَ في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً!» . ثم قام رسول الله # فخطب الناس وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد: إني أستعمل رجالاً منكم على أمور مما ولاَّني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذه هدية أهديت لي! فهلاَّ جلس في بيت أبيه وبيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً» (?) .

وقد علق ابن حجر العسقلاني على هذا الحديث بقوله: «وفي الحديث من الفوائد أن ... ومحاسبة المؤتمن» وفي موضع آخر قال ـ نقلاً عن غيره ـ: «حديث الباب أصل في محاسبة المؤتمن» . والملاحظ ان الفقهاء قد درجوا في محاسبة نُظَّار الأوقاف على فرض حسن الظن بهم، وترجيح جانب الثقة على الشك، والعدالة على التهمة، وغلَّبوا رجاء الخير فيهم على توقُّع الشر منهم؛ ولذلك ـ كما يقول الدكتور محمد المهدي (?) : «نجدهم لم يوجبوا المحاسبة في أدوار زمنية محددة، خوفاً من التظنن بهم إلى الزهد في قبول إدارة الأوقاف، فتفوت بذلك المصالح المبنية على هذا الأمر» .

ولهذه الاعتبارات جاءت اجتهاداتهم بخصوص أسلوب المحاسبة مختلفة من مذهب لآخر، وأفضل هذه الأساليب ما قرره الإمام ابن تيمية (?) من أنه يمكن لولي الأمر أن ينصب ديواناً لمحاسبة النُّظَّار ويقتطع من أموال الوقف لذلك الديوان ما يستحقه من نفقات مالية للعاملين فيه، ليؤدي عمله على الوجه المطلوب ... فقد سئل ـ رحمه الله ـ عن أوقاف مختلفة على مدارس ومساجد ورُبُط وغيرها: هل لولي الأمر أن يقيم ديواناً لمحاسبة النظار والنظر في تصرفاتهم، ويحقق عليهم ما يجب تحقيقه من الأموال المصروفة والمتبقية؟ فأجاب: نعم! لولي الأمر أن ينصب ديواناً عليهم لحساب الأموال الموقوفة عند المصلحة، وله أن يفرض على عمله ما يستحقه مثله من كل مال يعمل فيه، بقدر ذلك المال واستيفاء الحساب، وضبط مقبوض المال ومصروفه من العمل الذي له أصل» (?) .

فهذا النص ـ وكما يقول الباحث محمد المهدي ـ يفيد بوضوح تام أن لولي الأمر إنشاء ديوان لمحاسبة النظار، وأن البيان الذي يقدمه الناظر لا بد أن يكون مفصلاً مستوفياً للحساب، لا إجمال فيه؛ ليعرف منه موارد الوقف ومداخيله، ووجوه الإنفاق. ويرى الباحث أن هذا الجواب الذي جاء به ابن تيمية أَوْجَهُ ما قيل في محاسبة النظار؛ لأن فيه احتياطاً يمكن أن يسهم إلى حد كبير في إنجاح مؤسسة الوقف في التطبيق المعاصر، ولا سيما وهو يلتفت إلى صفة الناظر من كونه أميناً أو متهماً.

والديوان بطبيعة الحال لا يحكم بصدق أو تكذيب ما جاء في ذلك الكشف إلا بعد التأكد بالحجج والمستندات، وهذا ما جنح إليه الشيخ (أبو زهرة) حيث رأى ألا يُقبَل من النظار شيء من الصرف للموقوف عليهم أو غيرهم ممن له ولاية على مرافق الوقف ومصالحه، إلا إذا كان معه ما يثبته من أدلة لا شك فيها، ولا مجال للظن في مدى حجيتها، ولا مطعن لطاعن في قبولها، سواء كان الناظر معروفاً بالأمانة أم لا (?) . فمحاسبة النظار يجب ألا تقام على فرض حسن الثقة، بل يجب أن تقام على أساس الاحتراز من الخيانة، وتوقيها قبل حدوثها.

ü الوقف ضروة اجتماعية:

إن الوقف بكونه نوعاً من التمويل الذي جاء به النظام الإسلامي، يمكن الاستفادة منه في تحريك المال وتداوله؛ وذلك لأن الأموال المدخرة عند الأغنياء إذا أوقفوها بحيث تستغل استغلالاً تجارياً يدر ربحاً على الموقوف عليهم، فإننا بذلك الاستغلال التجاري وجهنا جزءاً من المال إلى السوق التجارية، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة في الطلب، وعندما تحدث الزيادة في الطلب يترتب على ذلك زيادة في الإنتاج لتلبية رغبات الطالبين، وينشأ عن زيادة الإنتاج قلة في التكاليف بالإضافة إلى المنافسة التي تتوجه اتجاهين ـ على ما يذكر الباحث (أيمن محمد عمر) (?) : تنافس على النوعية، وتنافس على الكمية. هذا التنافس ينتج عنه إقامة هذه المنشآت التجارية مما يترتب على ذلك تشغيل أيدٍ عاملة كانت في السابق تعاني البطالة وقلة العمل، وهذه الأيدي العاملة يتحرك في يدها المال ويصبح لديها احتياجات، فتزيد الطلب على السلع في الأسواق بسبب توفر السيولة النقدية، وهكذا نلاحظ ان العملية أصبحت متوالية ونشطة.

يقول الدكتور شوقي دنيا: «شيوع ظاهرة الوقف في المجتمع الإسلامي والتنوع الكبير في الأموال الموقوفة والجهات الموقوف عليها، ولّد حركة استثمارية شاملة من خلال إنشاء الصناعات العديدة التي تخدم أغراض الوقف، ومن ذلك على سبيل المثال: صناعة السجاد، وصناعة العطور والبخور.. هذه الصناعات خادمة ومكملة، ومن عمل فيها من عمال وفنيين، وما تولد عنها من دخول ومرتبات وأثمان، كل ذلك يعد إضافات مستمرة إلى الطاقة الإنتاجية القائمة، أو بعبارة أخرى: يعد مزيداً من الاستثمارات الإنتاجية، التي تعتبر دعامة لأي تقدم اقتصادي (?) .

وبذلك يكون النظام الاقتصادي الإسلامي في تشريعه للوقف قد حقق عنصر التوازن من خلال التوزيع العادل للثروة بإيجاد مصارف متعددة لتقليب وتدوير المال في الأيدي، وعمل على إعادة دوران لحركة المال، لا سيما إذا أخذنا باعتبارنا أن الفقراء أكثر عدداً من الأغنياء، ومن ثَمَّ سيكون بذلهم للأموال الداخلة عليهم متوافقاً مع عددهم ومتطلباتهم الكثيرة، مما يؤدي إلى تداول المال بين أكبر عدد من المنتفعين (?) .

ولكن يجب توجيه أموال الوقف توجيهاً سليماً نحو المشاريع ذات النفع العام وما يحقق مصلحة المجتمع بأسره؛ فإذا كانت حاجة الأمة إلى نوع محدد من المشاريع، كالمشاريع الزراعية أو الصناعية أو التجارية، كان من الواجب أن توجه هذه الأموال إلى الاستثمار في هذه المجالات ولا سيما أن الوقف يهدف فيما يهدف له توليد دخل نقدي مرتفع، بحيث يضمن فرصاً أفضل لخدمة المجتمع وتلبية احتياجاته على الوجه الأكمل.

ومن المفيد أن ننبه إلى خصوصية مؤسسة الوقف النامي التي تتمثل أساساً في نقدنة Monetisation الأصول الوقفية بغية استثمارها في مشاريع مربحة وتحقيق عوائد إضافية تساعد على تعزيز التراكم في المصب صلى الله عليه وسلمccumulation enaval بعد التراكم في المنبع صلى الله عليه وسلمccumulation en amont الذي يحدث عند تعبئة الموارد الوقفية ايتداء.

ولا ننسى دور الوقف في تنمية رأس المال البشري، والذي يقصد به: كل ما يمتلكه الإنسان في نفسه من مقومات تسهم في النشاط الاقتصادي وتنميته، مثل: الخبرة والمهارة والمعرفة والقدرة البدنية (?) . هذه المقومات التي يقوم عليها رأس المال البشري لا تقل أهمية في التنمية الاقتصادية عن المقومات المالية ولا سيما إذا علمنا أن الفكر الاقتصادي المعاصر عد الإنفاق على التعليم والصحة إنفاقاً استثمارياً. وكما علمنا أن الأوقاف شملت جوانب متعددة بما فيها التعليم والصحة من خلال وقف المدارس ودور التعليم المختلفة، والمصحات والمستشفيات، أو الإيقاف عليها.

ففي مجال الصحة مثلاً كان في المجتمع الإسلامي وقوف عديدة على المستشفيات والمصحات العامة، كفلت لنزلائها العلاج والغذاء وكل ما يُحتاج إليه للمحافظة على صحتهم ووقايتهم من الإصابة بالأمراض، وتجاوز الوقف ذلك إلى وقف المستشفيات التعليمية التي تهدف إلى تطوير الخبرات العملية لطلبة العلوم الطبية، بل بلغ الأمر في بعض المراحل إلى وقف مدن بأكملها على الطب وأهله، خدمة لهم ولمن ينتفع من ورائهم من مرضى ومحتاجين (?) .

ولا شك أن الخدمات التعليمية والصحية وملحقاتها تستهلك نسبة كبيرة من الإنفاق العام، فكان للوقف على الشؤون التعليمية والصحية أثر واضح في تخفيف العبء عن الميزانية العامة للدولة، ولا سيما أن الفئة الكادحة في المجتمع تمثل النسبة العالية من أفراده، وهؤلاء في الغالب يعتمدون على ما توفره لهم الدولة من خدمات تعليمية وصحية، ومن هنا كان الوقف كفيلاً بتحمل جزء لا يستهان به من الخدمات التعليمية والصحية لأفراد المجتمع والتي تعد من أهم مقومات التنمية البشرية التي يسعى المجتمع الإسلامي إلى الارتفاع بها، خاصة مع عدم توفر العلاج الجيد أمام الجماهير الفقيرة من الأفراد. فالمستشفيات والمراكز الطبية الحكومية آخذة في الانكماش من جهة، كما أن خدماتها الطبية متدنية من جهة أخرى، لقلة الإمكانات وسوء الإدارة، كما أن المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة (الاستثمارية) باهظة العبء والتكلفة، وهو ما يحول بين الفقراء ودخولها والاستفادة منها. ومن ثم يشيع المرض ويتوطن بين الفقراء، فيضعف من قدرتهم الإنتاجية، ومن ثَمَّ يزيدهم فقراً، فلا مناص من كسر هذه الحلقة المفرغة من اللجوء إلى المؤسسات المدنية والجمعيات الوقفية الخيرية للإسهام الجاد في العلاج وتقديم الخدمات الطبية، ويعتبر الوقف مرشحاً للقيام بهذا الدور الذي طالما قام به في تاريخ الأمة البعيد، والآن يمكن أن تنشأ مشاريع وقفية حديثة ذات طابع خاص.

ومن الأهمية أن نعلم ـ وفي ظل الأوضاع الدولية الراهنة ـ أن العالم الإسلامي المعاصر يعيش تخلفاً خطيراً في التعليم والبحث العلمي، وما يرصد لذلك في موازنات الدول الإسلامية من الضآلة بمكان، وهو الأمر الذي يعمق من التخلف العلمي في هذا العالم، مما يزيد من تخلفه الاقتصادي ويرمي بعقبات كؤود أمام تقدمه وتنميته. واختلال اقتصاد العلم والمعرفة وما يطلق عليه الاقتصاد الجديد للمكانة الأولى في مقومات تقدم الأمم المعاصرة أمر معروف مشهود؛ فكيف تُموَّل هذه المرافق والمراكز البحثية في ظل شح الإيرادات العامة؟ فلا مناص للوقف من القيام بهذه المهمة، وخاصة أن الواقع المعيش للمجتمعات الإسلامية يؤكد أن أكثر فئات المجتمع فاعلية هي تلك التي نالت نصيباً من العلم والمعرفة؛ فالتجار والكتبة والمحاسبون والصيارفة، وغير ذلك من المهن التي عرفتها المجتمعات المتحضرة، هم في غالبيتهم من الطبقة المتعلمة، ولعل نجاحها في قيادة التقدم يرجع إلى أنهم سخروا قدراتهم العلمية لتطوير اعمالهم وصناعاتهم ومهنهم، بما يعود نفعه عليهم بالخصوص إذا صادف موهبة بشرية، ارتقى بها في سلم الإبداع والتطوير.

وهكذا نجد أن الوقف بفاعلية نظامه (?) قد أوجد إطاراً تكاملياً تضامنياً مشتركاً بين المجتمع والدولة؛ حيث لا يعمل هذا النظام لحساب مصلحة طرف دون طرف آخر؛ فلم يعمل على تقوية المجتمع في سبيل إضعاف الدولة، أو بسط نفوذ الدولة على حساب الحقوق الاجتماعية، وإنما عمل على إيجاد التوازن، بل وتقويته بين المجتمع والدولة، مما كان له الأثر الأكبر في استقرار وقوة الكيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015