د. يوسف بن صالح الصغير
لا تزال أحداث فلسطين المتلاحقة تطغى إعلامياً على أحداث مهمة في المنطقة مثل تسلُّم إيران الملف العراقي، وعقد مؤتمر دول الجوار في طهران الذي من أهم أهدافه المعلنة تسهيل الانسحاب الأمريكي والمساهمة الجماعية في سد الفراغ؛ بالإضافة إلى تصاعد وتيرة العمليات في أفغانستان وبداية تحوله إلى مستنقع قاتل للإنجليز الذين أجبرهم الأمريكان على دفع ثمن تحالفهم؛ بحيث تركز أمريكا على العراق، وتتولى بريطانيا مسؤولية قيادة قوات التحالف في أفغانستان التي يتوقع سريعاً أن تنسحب منها قوات حلف الأطلسي الأوروبية وتبقى فقط قوات الأنجلوساكسون. إنها مواضيع مهمة جداً ولكنها تحتمل التأجيل على عكس الملف الفلسطيني الذي يشهد تفاعلات متلاحقة يزيد من أهميتها كونها مؤثرة بشكل مباشر على تفاعل الأحداث في العالم الإسلامي؛ حيث تمثل سياسة الغرب حول فلسطين والقائمة على تبنِّيها لإسرائيل نقطة ضعف مميتة تزيد من التهاب الأحداث المضادة للغرب في العالم الإسلامي؛ ولم يعد سراً إحساس الغرب أن إسرائيل بدأت تمثل عبئاً ثقيلاً عليه، وأنقل هنا تصريحاً لأحد مسؤولي المخابرات المركزية الأمريكية السابقين (مايك شوار) الذي رأس الوحدة الخاصة بالسعي للقبض على (بن لادن) في أواخر التسعينيات من القرن الماضي؛ فقد قال في مقابلة خاصة لبرنامج (إنترفيو) التابع للبي بي سي «الخدمة الدولية» : «إنه يتعين على السياسة الخارجية الأمريكية أن تتغير، إننا ندعم إسرائيل دون تحفُّظ، وهو وضع كارثي بالنسبة لأمريكا، كما ندعم بلداناً معروفة تماماً بقمعها للمسلمين في أنحاء العالم» . وأضاف: «هذه السياسة يمقتها المجتمع الإسلامي بكل مستوياته، وطالما ظل هذا هو الوضع فسنظل في هذه الحرب» . وأخيراً فإنه يحدد شروط دعم إسرائيل بتقييد حريتها في التعامل مع الفلسطينيين، ومنعها من اتباع سياسات تدفع أمريكا ثمنها غالياً في أماكن أخرى؛ وذلك بقوله: «أعتقد أننا لو أردنا أن نكون حلفاء لإسرائيل، فإننا ينبغي أن نكون من نعطي الأمر ونأخذ القرار، وليس من يتم جره من أنفه» . نعم! إنها محاولة متأخرة للثور الأمريكي للتخلص من حلقة الأنف، ولكنها تساعدنا في فهم ثقل القيود الحالية المفروضة على القيادة الإسرائيلية في التعامل مع الملف الفلسطيني.
ذكرت في مقالة سابقة أن انتخاب حماس وتشكيلها الحكومة قد ألغى عملياً الاعتراف الفلسطيني بشرعية وجود إسرائيل؛ ولذا نلاحظ أن السياسة الإسرائيلية تركز على الاستفادة القصوى من بقايا السلطة المتمثلة في الرئاسة الفلسطينية؛ وذلك عن طريق دفع الجميع إلى تجاهل الحكومة المنتخبة والتعامل فقط مع الرئاسة، بل وصل الأمر إلى محاولة تضخيم الحرس الرئاسي وتزويده بالأسلحة الحديثة تمهيداً لتنفيذ مخطط إشعال الصراع الداخلي عسكرياً والذي بدأت ملامحه بما يسمى (وثيقة الأسرى) التي تعترف بإسرائيل، وما تبعها من جعلها أساساً للحوار الوطني، وقرار الرئيس محمود عباس عرضها في استفتاء شعبي على أنها خطة محكمة تخيِّر الشعب بين الموت جوعاً أو الاعتراف بإسرائيل، وتضع أيضاً حماس ومن يتبنى المقاومة بين خيارين اثنين هما الاعتراف بالكيان الصهيوني أو مواجهة الحرب مع قوات الرئاسة بدعوى تنفيذ خيار الشعب والحفاظ على مصالحه العليا، ولكن هذا الوهم تبدد بعملية نوعية قادتها حماس وشاركت فيها فصائل أخرى، إنها عملية محسوبة همَّشت الرئاسة من جديد، ولم يعد أمام إسرائيل سوى إعادة احتلال القطاع مما يعني قيام حرب عصابات وهو أمر لا تستطيع إسرائيل تحمل نتائجه أو القبول بالوضع الجديد؛ أي القبول بهدنة مع سلطة لا تعترف بشرعية وجودها.