ثغرة الأدب بين دعاة الإسلام وخصومه
يحيى محمد رسام
لا شك أن الصحوة الإسلامية وقفت في وجه خصومها، وتصدت لكل
الجبهات، فأعادت للإسلام صفاءه وبهاءه، كما أعادت للمسلمين اعتزازهم بدينهم،
ولكنها ولأسباب كثيرة نسيت أو تجاهلت ثغرة لم تقدرها حق قدرها وظنت أنها
سهلة هينة، مع أنها عسيرة وخطيرة تلك هي ثغرة الأدب من شعر وقصة ورواية.. ونقد ...
خطورة هذه الثغرة:
يمكن إدراك خطورة هذه الثغرة إذا ألقينا نظرة على ما يقوم به الأعداء من
ناحيتها حيث استغلوها أيما استغلال، وتسللوا من خلالها إلى عقول كثير من أبناء
الإسلام وأذواقهم، ويكفي أن تجول ببصرك في وسائل الإعلام التي تزخر بالأسماء
(اللامعة) لمن يسمونهم الأدباء والمبدعين والنقاد، بل يكفي لإدراك هذا أن تتأمل
وبقليل من العمق الواقع الثقافي والإعلامي في البلاد الإسلامية، فما من بلد إسلامي
إلا وتصدر فيه عدد من المجلات والصحف، من الفصلية إلى اليومية التي
تخصص كثيراً من صفحاتها لنشر إنتاج أولئك (المبدعين! !) على أنه الغذاء
للعقول والأفكار، ومن الإشادة بهؤلاء تصنع الطاقات وتشهر مع الأيام ويخدعون
بها الناس.
وبعملية استقرائية بسيطة لعدد من تلك الصحف والمجلات في بلد عربي
صغير المساحة قليل السكان متوسط المستوى الثقافي، ندرك مدى العناية التي
يوليها أولئك لهذه الثغرة.
الأدب وسيلة فاعلة ومؤثرة:
إن الفئات الرافضة للإسلام يتوسلون لنشر أفكارهم المسمومة وإقناع الجماهير
بمعتقداتهم بهذا الجانب من النشاط الفكري الإنساني وبما تعلموه من تجاربهم،
وبتوجيه من أسيادهم اهتدوا إلى هذا الأسلوب، وهو أن يتدثروا برداء الأدب،
وعن طريقه وتحت مظلته يستطيعون وبكل سهولة ودون معارضة أن يطرحوا
أفكارهم وآراءهم، ولا شك أن الأدب وسيلة نافذة وسريعة، وقوية التأثير في
النفوس، وهم لذلك لا يألون جهداً في تجنيد كل طاقاتهم في هذا السبيل،
ويستخدمون الشعر والقصة والمسرحية وإن كان الذين يطلعون على هذا الإنتاج في
هذه المرحلة فئة محددة، ولكن في المرحلة الثانية يأتي دور الناقد كشارح وموضح
أو مروج لهذه النصوص الأدبية.
وقراء هذه المرحلة يزدادون نسبياً نتيجة الإغراء الذي يقوم به الناقد والذي
يخترع - في الغالب - للعمل الأدبي من الخصائص والميزات ما لم يخطر في بال
صاحبه أصلاً. وهناك مرحلة ثالثة حيث يقوم الناقد بالإشارة أو ترشيح النص
الأدبي لأداء دور أخطر وأعمق أثراً، فإن كان النص قصيدة شعرية رشحها لتكون
في منهج الأدب والبلاغة، وإن كان النص مسرحية رشحها للتمثيل على خشبة
المسرح، وإن كان رواية رشحها لتكون فيلماً سينمائياً لأنها في نظره تعالج أمراضاً
اجتماعية وفيها أبعاد سياسية! ! ويفعلون ذلك لعلمهم أن غالبية الجماهير لا زالت
خارجة عن نطاق التأثر في المرحلتين السابقتين.
الإشارة بالرموز:
ثم انظر إلى الإصرار على إشارتهم برموزهم في كل حين، وبمناسبة ودون
مناسبة في الوقت الذي يتجاهلون فيه عن عمد كثيراً من الرواد الأصلاء، ونضرب
مثالاً واحداً لهذه الظاهرة بما يلقاه أمثال طه حسين من احتفاء وتكريم وإشادة به
ويهمل أمثال أحمد حسن الزيات والرافعي والمازني وسيد قطب ومحمود محمد شاكر
وغيرهم [1] .
أخطر ميادين الصراع:
وقبل أن ننتقل إلى الحديث عن موقف الإسلاميين من الأدب، نحب أن نؤكد
على أن هذا الميدان من ميادين الثقافة أحد أخطر ميادين الصراع بين الإسلام
خصومه [2] وأن معركتنا مع أدباء الحداثة وبقية المستغربين هي معركة سياسية
عقائدية، وهم من خلال الأدب والثقافة يوجهون أخطر طعناتهم لأعز ما تملك الأمة: عقيدتها وشريعتها.. فالعصر الأموي عندهم لا يزيد عن كونه عصر الأخطل
وجرير والفرزدق وصراع القيسيين واليمانيين، وأما العصور العباسية فهي عصور
ليالي الرشيد وأبي نواس والعباس بن الأحنف، والجواري والمغنيات، وهم في
نفس الوقت لا ينسون الإشادة بالحركات الباطنية وحركة الزنج والقرامطة وكل
الشخصيات المنحرفة كميمون القداح وعلي بن الفضل ومنصور اليمن.. ويتفاخر
بعضهم بالانتساب إليهم فهذا يكتب (بسيف علي بن الفضل) والآخر يفخر بتوقيع
مقدمات كتبه (حفيد بن الفضل) ، ويخرج أحد الشعراء في بلد صغير وفقير ثمانية
دواوين شعرية متتالية، كلها تحريض للمرأة على الخروج على أوامر الإسلام،
وسخرية بالعلماء الذين يهاجمونه، بل ينتقص من أحكام الأسرة في الإسلام، ثم
يقدم أديب مشهور أحد دواوينه [3] ويدعو الشباب لقراءة دواوينه، فالشاعر في
نظره عالج بشجاعة أخطر القضايا الاجتماعية.
دعاة الإسلام والإهمال المخل:
إذا كان شأن الأدب كما ذكرنا فما هي المساحة التي يحتلها في برامج وخطط
أنصار الفكر الإسلامي من الشباب، إن الجواب على ذلك ميسور ولا يحتاج لكبير
عناء، فما علينا إلا أن نتصفح أدبيات الصحف والمجلات الإسلامية لندرك مدى
الفقر الذي تعانيه في هذا الجانب، فليس هناك مجلة واحدة على طول العالم
الإسلامي وعرضه مخصصة لهذا الجانب، وتكتفي المجلات الإسلامية بتخصيص
صفحات محدودة لباب الأدب، وإذا كان ذلك أمراً مؤلماً للنفس، ويدعو للأسى،
فإن الأكثر إيلاماً هو عدم اهتمام المشرفين على أبواب الأدب بالمشاركات الأدبية
التي يرسلها القراء وعدم تشجيعهم الناشئة. فأنى بعد ذلك للأدباء الإسلاميين أن
يبدعوا وأنى للمواهب الشابة أن تنمو وتتطور؟ وهل ننتظر أن تنشر لهم مجلات
العلمانيين الذين يخصصون المجلات الكبيرة لنشر المقالات الطويلة والبحوث
المعمقة والقصائد الحديثة، وهكذا يظهر جليًّا مدى الخلل الذي أصاب هذا الجانب
ومدى الإغفال الذي لقيه عند المسلمين.
من أين جاء الخلل؟ :
هل جاء الخلل من جهة سوء الفهم لدى البعض لموقف الإسلام من الشعر
أساساً؟ والجواب أن هذا احتمال وارد؛ بل وقوي وله ما يفسره، فرغم ما كتب
عن صلة الأدب بالإسلام إلا أن غيوماً من دعايات وشبهات أعداء الإسلام حول هذه
القضية تركت آثارها في النفوس، ويمكن ملاحظة أعراض ذلك القصور، من
خلال ملاحظة أن كثيراً من النابهين من أصحاب التخصصات العلمية في الأصل،
لم يتجهوا إلى الدراسات الأدبية عندما أرادوا خدمة الإسلام بالدراسات غير العلمية،
وكثيراً من الدعاة الذين كان لهم مساهمات أدبية جيدة في بداية حياتهم انصرفوا عن
الأدب والشعر، وكأن ذلك يزري بهم، فإذا كان ذلك هو حال من يفترض فيهم أنهم
الموجهون لسير الدعوة فكيف غيرهم؟ وهنا لا بد أن نسأل ما مدى صحة وسلامة
هذا الموقف؟ لنرى أولاً ما هو موقف الكتاب والسنة في الشعر والأدب بشكل عام.
موقف القرآن والسنة من الشعر والأدب:
قال تعالى عن الشعراء:
[والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ، وأَنَّهُمْ يَقُولُونَ
مَا لا يَفْعَلُونَ، إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وانتَصَرُوا مِنْ
بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وسَيَعْلَمُ الَذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ]
وإذاً فهذا هو القرآن الكريم، قد هاجم بعنف الشعراء المناوئين للدعوة
الإسلامية وشنع عليهم، وفي الوقت نفسه أشاد بالشعراء المؤمنين، وأشار إلى
أوصافهم وأنهم يعملون الصالحات ويذكرون الله كثيراً وينتصرون بعد ما ظلموا،
وأنهم لا بد أن يقوموا بواجب الجهاد بالكلمة.
وأما موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد كان يحرض ويشجع من يرى
فيهم ملكة الشعر لمواجهة الشعراء المحاربين للدعوة الإسلامية والأحاديث كثيرة في
حض وتشجيع حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم، الذين
كانت ألسنتهم سيوفاً حادة في وجوه الكافرين ويدعو الرسول -صلى الله عليه وسلم-
لبعضهم بأن يؤيده روح القدس إذا هو هجا الكفار.
وإذا كان ذلك هو موقف القرآن والسنة وموقف الصحابة من الشعر والشعراء، فقد يقال: فماذا عن بقية عناصر الأدب كالقصص والأمثال؟ واتباع الأساليب
البلاغية والبيانية؟ فنقول: أما استخدام القرآن للقصة كأسلوب مؤثر وفعال في
تبليغ الدعوة وغرس المفاهيم وتحليل مواقف أعداء الدعوة الظاهرة وصلتها بدخائلهم
فذلك واضح لا يحتاج لبيان، بل إن أسلوب بعض القصص القرآني فيه كل عناصر
القصة من عناصر التشويق وتصوير الشخوص واستخدام الحوار وحل العقدة في
النهاية وانتصار الخير دائماً مثل قصة (يوسف) عليه السلام. وكذلك استخدام
القرآن للأمثال وهو من ألوان الأدب.
وقد أُمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن يعظ الكافرين ويقول لهم في
أنفسهم قولاً بليغاً. والدعاة في كل عصر مأمورون بما أمر به الرسول الكريم عليه
الصلاة والسلام، ولا شك أن تأثير من له صلة بالأدب لأعمق وأبلغ في نفوس
الجماهير ممن لا حظ له في ذلك، بل إننا نرى أن الجفاف في أسلوب بعض الدعاة
من أسباب إعراض بعض الناس عنهم، يقول الأستاذ محمد قطب:
(إن الأدب لا بد أن يكون في خدمة الدعوة، فإن أعداءنا يستخدمونه ضد
الإسلام وأخلاقياته، وإن الآداب من أقوى الوسائل التي إن استخدمناها نكون قد
أدينا واجباً مهما) .
يعتبر الأستاذ أبو الحسن الندوي أن الأدب من أقوى العوامل في (الإفساد) أو
(الإصلاح) ولذلك لا يجوز أن نفصل بين الأدب والأخلاق.