مجله البيان (صفحة 5687)

الغريب

محمد بن صالح الشمراني

احتوى كفي بين راحتيه، وشدّها بتحنان ولطف..

ـ إني أحتاجك يا محمد!

أرجو ألا تتخلى عني، وتُظهر لي سوءَة الجحود والنكران، وتقذف بكل توسلاتي في غَيابةِ نسيانك.

عاينتُ دمعةً تكشَّفتْ بحياءٍ وتمنُّع، كانت تخشى الشماتة والملامة، وتأنف الأسْر والحبس!

ـ أرجوك يا محمد!

أشاح عني بناظريه، ونصبهما في زاوية الحجرة العتيقة.

أراد أن يُغافلني.. ليُميطَ هذه الدمعةَ الجائرة، ويسحقها في غورٍ ُلِّجيّ.

لم يزل يُعنِّفني بقبضته، ويُرسل أشواقه الحرّى، ويبثُّ طرفاً من مخبوءِ ذاته.

ـ إني أعيشُ يا محمد غربة مُوجعةً، قاسية، تتقاذفني فيها سهام النكوص، وذكريات الماضي البائس، أُحسّ بأن قوةً شيطانيةً تتغلغلُ في كياني، وتجذبني من ناصيتي بجفاءٍ وقسوة، لتسوقني ذليلاً إلى درب الغواية القديم.

كل من حولي يؤزني نحو الخطيئة أزاً، ويُراود نفسي بجرأةٍ وقحة.

أرى كلَّ المغريات، وذكريات الأمس، وطيش الصبا.. تتلقفني في طريقي، وتعترضُ مسيري.

وإني يا محمد! ما زلتُ أُصارعُ وأُصارع، أُجاهدُ نفسي وأُغالبها، أُحاولُ إشغالها بالطاعات والمباحات، ولكني يا صديقي.. أخشى وأخاف.

وربِّي.. إني أخاف من ذلك اليوم المشؤوم؛ حين تتناقلون فيه خبري، وتقولون إني قد غيَّرتُ وبدَّلت، وصرتُ (شيئاً) آخر!

أُقسم لك يا صديقي إنني أُحب الصالحين، ولا أرى نفسي إلا في حماهم، ولا تطمئن روحي إلا بالقرب منهم، وكم نافحتُ وخاصمتُ كلَّ من يلمزهم ويمسهم بسوء.

صدِّقني.. بأني لا أفكر في العصيانِ ابتداءً، ولا أسعى للخطيئة سعياً حثيثاً!

وإني على عهدي معك، وميثاقي الذي عقدته بين يديك؛ لم أَحِد عنه طرفة عين، ولكني يا صديقي حين أخلو بنفسي، وأُنادمها وحدي، دونَ رقيبٍ ولا حسيب.. يطرقُ الشيطانُ الرجيمُ بابَنا، حاملاً في كنانته كلَّ الذكريات والملذّات التي هجرناها، وخلَّفناها في الدار الخربة.

يَلجُ علينا بكلِّ ما أوتيه من مكرٍ وتزييف.. فيصيرُ ثالثنا.

فما ظنك يا محمد! باثنين مُتلازمين على فراش الفتنة.. والشيطانُ ثالثهما؟!

ولعمرُ الله ـ ياصديقي ـ لقد وقفتُ طويلاً في ظلام الليل، وفي يدي قرآني، سجدتُ، وأذللتُ نفسي لبارئها، مرّرتُ جبيني، ودثَّرته بأديم الأرض.

بكيتُ والله! سححتُ الدمع مدراراً، استجديتُ ربي الثبات على دينه، لزمت الخضوعَ لياليَ وأياماً طِوالاً.

وإني دون ذلك.. لأرقبُ خيالَ الشهوةِ، وأُبصرها ترفع عقيرتها من وراءِ تلك الأكمة القريبة!

في كلِّ أصيلٍ ـ يا صديقي ـ أذكرُ حديثك عن غُربة آخرِ الزمان، وتناثر الفتن بين يدي الناس أجمعين.

والذي نفسي بيده! إني لأحس بحرِّ الجمرةِ الموعودة في قبضتي.

لا أستطيعُ لها فِكاكاً، ولا منها هرباً ولا تخفِّياً.

وكيف أُطيق ذلك؛ وأنَّى اتجهتُ رأيتُ داعي الأرضية يتلقفني.. في دربي، وغرفتي، وجامعتي، وفي الدكان القريب مني؟

حتى حينما أكون بين أهلي وقرابتي؛ فإني أكاد أُنكر نفسي، وأُطاوع شهوتي، ورفقاء دربي.

محمد!

أتُبصرُ تلك الشجرة العملاقة؟!

أرأيتَ أصلها الثابت، المتجذِّر في عمق الأرض، وفرعها الذي يُعانق السماء؟!

أتبصرها يا محمد؟!

كنتُ ـ ولعمرُ الله ـ مثلها، طينتي من الأرض، وروحي متصلة بالسماء، كنتُ مخلوقاً آخر، لو رآني الليلةَ لأنكرني، وأظهر البراءة مني!

كانت يُمنايَ تحملُ المصحف، وقلبي يحويه ويحفظه، كانت الروضة تألفُ هامتي، وتنظر قدومي، كان محرابي يبكي معي في السحر، ويُنصتُ لي إذا رتّلتُ، ويضطربُ فرَقاً إذا هجرت.

كنتُ يا صديقي مؤذناً؛ أرفع نشيد العزة في الحي، وأُنادي المسلمين لموعد الرب، كنتُ أغشى دور العلم، ومحاضن التربية.

يا صديقي محمد! والذي نفسي بيده.. إني لا أستطيبُ النوم، ولا أتلذذ بالفراش؛ كلما ذكرتُ اسوداد حاضري أمام حُسن الماضي وبهائه!

محمد! إني لا أطلب منك شيئاً.

لا مالاً، ولا جاهاً، ولا سلطاناً.

أريدك أن تُلحّ على الله بالدعاء، وترجوه أن يثبتني على الحق حتى الممات، وإن سبق في علمه أنني لن أقوى أمام الفتنة، وبأني سأتهاوى صريعاً بين يديها؛ فأرجوك أن تلح على الله أن يقبضني إليه، ويُمسك روحي عن عناء هذا كله.

وإني لأعلمُ أن سُؤلي عليك عسير، ولكني وازنتُ الأمرين، وقايستُ الضدين، فطاشتْ كِفّةُ لُقياه في عمر الزهور طائعاً.. على أن آتيه مُكبلاً ذليلاً بين الزبانية الغلاظ الشداد!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015