سلطان بن محمد الدويش
يزخر تاريخ الأمة الإسلامية بمواقف وقصص، المتأمل فيها يجدها نبراساً في طريقه للإصلاح، ولعلِّي أقدم من خلال هذه السطور نموذجاً من تلك القصص؛ فقد أورد الذهبي في السِّيَر: (عن محمد بن كعب، قال: جمع القرآنَ خمسةٌ: معاذ، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأُبَيٌّ، وأبو أيوب. ِ
فلما كان زمن عمر، كتب إليه يزيد بن أبي سفيان (الأول) : إن أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يُعلِّمهم القرآن ويفقههم، فأعنّي برجال يُعلمونهم.
فدعا عمر الخمسة، فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا.
فقالوا: ما كنا لنتساهم؛ هذا شيخ كبير ـ لأبي أيوب ـ وأما هذا فسقيم ـ لأُبيّ ـ فخرج معاذ وعُبادة وأبو الدرداء.
فقال عمر: ابدؤوا بحمص؛ فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يَلْقن؛ فإذا رأيتم ذلك، فوجِّهوا إليه طائفة من الناس؛ فإذا رضيتم منهم، فليقم بها واحد، ولْيَخْرُجْ واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين.
قال: فقدموا حمص فكانوا بها، حتى إذا رضوا من الناس، أقام بها عبادة بن الصامت، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين) (?) .
«وعن مسلم بن مِشكم: قال لي أبو الدرداء: اعدُدْ من في مجلسنا. قال: فجاؤوا ألفاً وستمائة ونيِّفاً. فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة؛ فإذا صلى الصبح، انفتل وقرأ جزءاً، فيُحْدِقون به يسمعون ألفاظه» (?) .
«وقيل: الذين في حلقة إقراء أبي الدرداء كانوا أزيد من ألف رجل، ولكل عشرة منهم ملقِّن، وكان أبو الدرداء يطوفُ عليهم قائماً، فإذا أحكمَ الرجلُ منهم، تحول إلى أبي الدرداء ـ يعني يعرض عليه ـ» (?) .
بعد إيراد هذه القصة لعلك أخي القارئ تتساءل: ما أبرز الفوائد المستنبطة منها؟ فأقول مستعيناً بالله: إن هذه القصة تضيء للإخوة الدعاة والقادة طريقهم نحو الإصلاح؛ ففيها أسلوب التعامل مع الأتباع، وفن توجيه الناس للهدف المراد، وأسس صناعة الصف الثاني في العمل، وغيرها الكثير، وأدعك أخي القارئ العزيز تتأمل بعض ما تم استنباطه (?) من هذه القصة:
1 ـ علاقة القائد مع أتباعه هنا هي علاقة ود واحترام وتقدير؛ حيث نجد ذلك واضحاً في أسلوب طلب يزيد بن أبي سفيان عندما كتب: (إن أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يُعلِّمهم القرآن ويفقههم، فأعنِّي برجال يُعلمونهم) حيث أبرز حيثيات الطلب، مع طلب العون في المساهمة لحل هذه القضية. كما نجد وضوح هذه العلاقة في عرض عمر ـ رضي الله عنه ـ على الخمسة، مع علمه بأن هذه المهمة تحتاج إلى مواصفات تنطبق على بعضهم؛ وذلك ليبادر القادرون على أدائها، ولا يُلزِمهم بها؛ كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال ليأخذوه ـ منهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب ـ حتى قام إليه أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني» . قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله! فأعطاه إياه. وتتضح هذه العلاقة أيضاً في قوله: (فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا) فالقائد هنا يطلب العون من الأتباع، مع دعائه لهم بالرحمة.
2 ـ تهيئة الأتباع لتقبُّل أصعب المهام في الأزمات؛ فالناظر في هذه المهمة التي تتطلب فراق الأهل والأصحاب، يرى أنه بمجرد عرض الموضوع عليهم، بادر ثلاثة بالموافقة على أداء المهمة؛ وهذا يؤكد لنا أنه لا بد من تربية الأتباع لاستقبال المهام الشاقة في الرخاء، حتى إذا أتت المهمة الشاقة في الأزمات، يبادرون لأدائها، ولا يتقاعسون؛ كما في إرسال النبي -صلى الله عليه وسلم- حذيفة بن اليمان يوم الأحزاب؛ فإنه شاهد على ذلك.
3 ـ رجوع القائد للمصدر الرئيس في القضايا، فنجد عمر ـ رضي الله عنه ـ يرجع في حال إلى القرآن الكريم، وفي حالٍ آخر إلى السنة، وفي أخرى يرجع للمتخصصين ـ كما فعل هنا ـ مع وجود من هو أفضل منهم كعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، إلا أنه رجع لهؤلاء الخمسة؛ لأنهم المرجع في هذه المسألة؛ وعليه فإنني أؤكد للقادة أن تكون الاستشارة بناء على الموضوع، وألا يخصصوا مستشاراً واحداً لكل المسائل، بل لكل موضوع أهله.
4 ـ رسم القائد رؤية واضحة، بعد دراسته للواقع وتبيينها لأصحاب المهمة؛ ففي قوله: (ابدؤوا بحمص؛ فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة ... ) إلى قوله: (والآخر إلى فلسطين) ، فكان فقه عمر ـ رضي الله عنه ـ للواقع واضحاً وجلياً، ولذا بدأ بحمص لوجود مشكلة في المنطقة يجب التغلب عليها قبل انتشارها؛ وهنا فسر سبب اختياره هذه المنطقة. إن رسم الخطط الاستراتيجية في العمل، وإطلاع العاملين علبها؛ يساهم في اختصار الجهود والأوقات، وزيادة الحماس للعمل.
5 ـ توجيه القائد لأتباعه بالبدء لصناعة صف ثانٍ في العمل، وهذه النظرة الثاقبة لعمر ـ رضي الله عنه ـ تؤكد لقادة العمل الخيري أهمية هذا الأمر؛ ولذا رسم لهم سياسة سير العمل، بانتقاء المميزين من الطلاب، كما في قوله: (منهم من يَلْقن (?) ؛ فإذا رأيتم ذلك، فوجِّهوا إليه طائفة من الناس) . ويأتي التطوير بعد الانتقاء، ثم التقييم، كما في قوله: (فإذا رضيتم منهم) ، وهنا نجد اللفتة العمرية المهمة، بأن يكون التقييم جماعياً وليس فردياً. بالإضافة إلى ذلك نجد وضوح أسس التقييم بين القائد والعاملين، وبعدها يتم تفويضهم لإدارة العمل مع بقاء أحد القادة للمتابعة (فليقم بها واحد) .
6 ـ القائد يرسم السياسات ويترك التفاصيل للعاملين؛ فعندما رسم خطة صناعة الصف الثاني، كما ذكرنا سابقاً، لم يحدد من يبقى ومن يذهب كما في قوله: (فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين) . وفي هذا يقول أحدهم: (القائد ينقش الأهداف على الصخر، والوسائل على الرمل) . إن إعطاء الصلاحيات للأتباع بتحديد الوسائل والبرامج، يساهم في زيادة الولاء للمنظمة.
7 ـ تقرير مبدأ الأولويات في العمل؛ فقد وجههم بالمسير إلى حمص ثم دمشق وفلسطين، كما في قوله: (ابدؤوا بحمص) .
8 ـ إبقاء عدد من المتخصصين في العمل الأصلي، ولم يستهلك جميع الطاقات؛ لأن المدينة المنورة مركز القيادة والعلم؛ ولذا أبقى اثنين منهم.
9 ـ مراعاة القائد للعامل النفسي للأتباع، وذلك عندما أرسل ثلاثة؛ فهذا سيعطي لهم تسلية وقوة في العمل وأقدر على النجاح؛ حتى يتهيأ لكل واحد أتباع، ثم يفترقوا.
10 ـ السعي للاكتفاء بالموارد الداخلية في المنطقة؛ فإن التأكيد على الانتقال إلى دمشق وفلسطين يدل على أهمية الاكتفاء بأهل المنطقة من الموارد البشرية، وأؤكد على أهمية الموارد المالية؛ فمن المهم أيضاً السعي للاكتفاء بالموارد المالية من المنطقة.
11 ـ ارتباط تعليم القرآن بالفقه بالدين، كما في قوله: (واحتاجوا إلى من يُعلِّمهم القرآن ويفقههم) ، قال الضحاك: (حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً) وتلا قوله ـ تعالى ـ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79] .
12 ـ استمرار بناء الإنسان لذاته، وألا يكون شمعة يحرق نفسه ليضيء للآخرين، كما ذكر مسلم بن مِشكم في قوله: (فإذا صلى الصبح، انفتل وقرأ جزءاً) ، يجب على الدعاة والعاملين في الحقل الخيري أن يستمروا في التعلم؛ ومهما وصل الإنسان إليه من العلم؛ فمطلوب منه الاستمرار؛ فهذا أبو حنيفة قال: (قدمت البصرةَ فظننتُ أني لا أُسأل عن شيء إلا أجبتُ فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ألا أفارق حماداً حتى يموت، فصحبته ثماني عشرة سنة) (?) . وفي دراسة على تسعين قائداً، تحدث هؤلاء القادة بأن أهم صفة للقائد هو التعلم المستمر، والله ـ عز وجل ـ يقول: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37] . فكل كائن يكفُّ عن النمو يبدأ في الموت.
13 ـ تقدير حجم العمل وتقسيمه بناء على الموارد المتاحة؛ وذلك عندما قال: (اعدُدْ مَنْ في مجلسنا) ، وفي قوله: (ولكل عشرة منهم ملقِّن) .
14 ـ المتابعة من أهم أسس نجاح العمل، كما جاء عن عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: (أرأيتم إن استعملت خيركم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليَّ؟ قالوا: نعم! قال: لا؛ حتى أنظر: أعمل بما أمرت، أم لا؟) .
15 ـ التدرج في التعلم، كما في قوله: (فإذا أحكمَ الرجلُ منهم، تحوَّل إلى أبي الدرداء ـ يعني يعرض عليه) ، حيث لم ينشغل أبو الدرداء بالجميع، بل ينتقل إليه من أحكم الحفظ.
أخيراً: فإن السيرة مليئة بالقصص والأحداث؛ فلنستفد منها، ونستخرج الكنوز من أعماقها. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.