محمد بن شاكر الشريف
هناك من الأمور ما يُنظر إليها من عدة أوجه بعضها أظهر من بعض، ويلمس كثير من الناس المعنى الأكثر ظهوراً بحكم الاستعمال أو القرب، في حين أن المعنى الأقل ظهوراً قد يكون هو المعنى الأشد لصوقاً وتأثيراً وقوة؛ فعندما يتأمله الناس حق التأمل أو حينما يشرحه شارح أو يفسره مفسر يتعجبون كيف خفي عليهم ذلك، ولم يدركوه مع أن النصوص قد تناولته وبينته.
ينطبق هذا الأمر بشدة على لفظ (الجهاد) في سبيل الله تعالى؛ فكثير من الناس، بل أكثرهم في عصرنا الحاضر ما إن يطْرُق سمعهم هذا اللفظ حتى يستدعي في ذهنه وخياله، صورة نمطية ترسخت في وجدانه؛ حيث يطِنُّ في أذنيه هدير المدافع وأزيز الطائرات وفرقعات القنابل، ويرتسم أمام ناظريه ميدان المعركة بلونه الأحمر القاني؛ حيث تتطاير الرؤوس وتتقطع الأعضاء وتسيل الدماء، وتُدَكُّ الحصون وتُخرَّب الدور العامرة، فيقتَل الرجال وتترمل النساء ويتيتم الأطفال، وتفسد الزروع والثمار.
وإذا كان هذا حظ المفسدين المضلِّلين من أعداء الإسلام، ومن تبعهم من الضالين من أبناء جلدتنا، الذين لا يرون في (الجهاد) إلا هذه الصورة دون غيرها مع قطعها عن كل ما يلامسها؛ فإن المؤمنين الصادقين يعلمون أن (الجهاد في سبيل الله) فريضة دينية لتكون كلمة الله هي العليا في واقع الحياة ودنيا الناس، كما هي العليا في حقيقتها وإن كفر بها الناس.
والقتال باستخدام آلاته المعروفة، وإن كان أعلى مراتب الجهاد، إلا أن الجهاد لا ينحصر في القتال، بل هو أعم من ذلك وأوسع بكثير؛ فالقتال ما هو إلا صورة متقدمة من صور الجهاد، والجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ في معناه الأعم الأشمل هو المبالغة في استفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل في سبيل الله تعالى. قال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: (حَقِيقَتُهُ الاجْتِهَادُ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِن الإيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَمِنْ دَفْعِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ) (?) ، وقال الكاساني: (الجهاد في اللغة: (عبارة عن بذل الجُهد ـ بالضم ـ وهو الوسع والطاقة، أو عن المبالغة في العمل من الجَهد ـ بالفتح ـ وفي عُرف الشرع يستعمل في بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله ـ عزـ وجل ـ بالنفس والمال واللسان، أو غير ذلك، أو المبالغة في ذلك) (?) فالجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ أنواع، وله وسائل متعددةٌ القتالُ أحدها، وليس الوسيلة الوحيدة.
فالجهاد منه: جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، وجهاد باللسان، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم» (?) ، والأدلة على تنوع كيفيات الجهاد ووسائله كثيرة جداً. وقد فرض الله ـ تعالى ـ الجهاد على المسلمين وجعله فرضاً دائماً عليهم إلى قيام الساعة، وأكده بأنواع متعددة من التأكيدات، حتى غدا الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ من أكثر الفرائض الدينية والتكليفات الشرعية التي استفاضت في ذكرها نصوص الشريعة من الكتاب والسنة، وبينت فرضها وفضلها؛ فالجهاد مطلوب على جميع مستوياته، ومطلوب من المسلمين المكلفين جميعهم، لا يُعفى من ذلك أحد، ومن لم يقدر على نوع فإنه يقدر على نوع آخر، ولا يُعْذر أحد في ترك الجهاد بالكلية. قال الله ـ تعالى ـ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 91] ، فمن كان ضعيفاً أو مريضاً لا يقدر على الجهاد بنفسه، أو كان لا يجد نفقة يخرج بها للجهاد؛ فإن هؤلاء لا حرج عليهم في عدم الخروج، ولكنَّ نفي الحرج مقيد بشرط وهو قوله ـ تعالى ـ: {إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} ، والنصح: إخلاص العمل من الغش.
وتكون النصيحة بأمور منها: تعلُّق قلوبهم بالجهاد، والدعوة للمجاهدين بالنصر والتأييد، ومنها خلافة المجاهدين في أهليهم بخير، ومنها عدم الإرجاف بالناس أو التثبيط لهم، وقد تضافرت أقوال أهل العلم على ذلك، فقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: « {إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} : إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه، وأبغضوا أعداءه» (?) ، وقال الآلوسي: « {إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} : بأن أرشدوا الخلق إلى الحق» (?) ، وقال أبو حيان: «وشرط في انتفاء الحَرَج النصح لله ورسوله، وهو أن تكون نياتهم وأقوالهم سراً وجهراً خالصة لله من الغش، ساعية في إيصال الخير للمؤمنين، داعية لهم بالنصر والتمكين» (?) ، وقال الشوكاني: «ويدخل تحت النصح لله دخولاً أولياً: محبة المجاهدين في سبيله، وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد، وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه» (?) ، وقال الرازي: «إنه ـ تعالى ـ شرط في جواز هذا التأخير شرطاً معيناً، وهو قوله: {إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} ، ومعناه أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف، وعن إثارة الفتن، وسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا، إما بأن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم، وإما بأن يسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم؛ فإن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد» (?) . فمع قيام الأعذار المانعة للخروج إلى الجهاد، فإن الله ـ تعالى ـ لم يضع عنهم الحَرَج إلا بقيد النصح لله ورسوله.
وقد بلغ من فضل الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً له: «دلني على عمل يعدل الجهاد!» فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لا أجده» فكأن الصحابي من كثرة ما سمع عن منزلة الجهاد وفضله، وربما لم تكن لديه القدرة على الجهاد فأراد ـ حباً في الخير ـ أن يعوِّض عن هذا النقص بعمل مكافئ للجهاد، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، بيَّن له أنه لا يجد عملاً يكافئ الجهاد، ثم قال له وكأنه يبين له ما يمكن أن يكافئ الجهاد: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تَفْتُر، وتصوم ولا تُفطِر؟» فقال الرجل: «ومن يستطيع ذلك؟» (?) . وفي رواية قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: لا تستطيعونه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول: لا تستطيعونه، وقال في الثالثة: مَثَل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى» (?) قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وفي هذا الحديث عظيم فضل الجهاد؛ لأن الصلاة والصيام والقيام بآيات الله أفضل الأعمال، وقد جعل المجاهد مثل من لا يفتر عن ذلك في لحظة من اللحظات؛ ومعلوم أن هذا لا يتأتى لأحد، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: لا تستطيعونه. والله أعلم» (?) .
وقد يعجب الإنسان من هذا الفضل العميم والثواب العظيم، فيحدوه ذلك إلى البحث عن السبب الذي لأجله وقع الجهاد من الدين هذا الموقع العظيم، وقد أجاب عن هذا التساؤل ابن دقيق العيد باختصار فقال: «الْقِيَاس يَقْتَضِي أَنْ يَكُون الجِهَاد أَفْضَل الأعْمَال الَّتِي هِيَ وَسَائِل، لِأَنَّ الجِهاد وَسِيلَة إِلَى إعْلان الدِّين وَنَشْره، وَإِخْمَاد الْكُفْر وَدَحْضه، وَفَضِيلَته بِحَسْب فَضِيلَة ذَلِكَ، وَاَللَّه أَعْلَم» (?) ، ومعرفة سبب تفضيل الجهاد، أو الحكمة من تفضيله أمر ذو فائدة كبيرة، حيث تجعل المسلم في جهاده عاملاً على تحقيق ذلك، ولا يكون مجرد عمل آلي.
وسوف نحاول بإذن الله ـ تعالى ـ أن نفصل ما اختصره ابن دقيق ـ رحمه الله تعالى ـ في الكلمات التالية:
1 ـ الجهاد دعوة للحياة وليس للموت: فهو دعوة للحياة الحقيقية التي يعبد الإنسان فيها ربه خالقه ورازقه، لا يشرك به شيئاً، حياة حقيقية يشعر فيها بالكرامة التي أكرمه الله بها، والمنزلة التي رفعه إليها، فيقوم بنشر الفضائل وإقامة العدل وعمارة الأرض، لا الحياة الحيوانية الشهوانية التي لا يكون للإنسان فيها من همٍّ سوى إشباع متطلبات بطنه وفرجه، ثم لا يلوي على شيء بعد ذلك. قال الله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12] . وقد بين القرآن الكريم أن الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ هي دعوة إلى الحياة الحقيقية ذات القمة السامقة التي لا تدانيها حياة، فقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] ؛ فهذا نداء من الله العلي الكبير للمؤمنين أن يستجيبوا لدعوة الله ورسوله لهم لما يحييهم. قال عروة بن الزبير: «أي للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقوّاكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم» (?) ، وقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «إلى ما يحييكم، أي يحيي دينكم ويعلمكم، وقيل: أي إلى ما يحيي به قلوبكم فتوحدونه، وهذا إحياء مستعار؛ لأنه من موت الكفر والجهل. وقال مجاهد والجمهور: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهٍ؛ ففيه الحياة الأبدية، والنعمة السرمدية، وقيل: المراد بقوله: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} الجهاد؛ فإنه سبب الحياة في الظاهر؛ لأن العدو إذا لم يُغْزَ غزا، وفي غزوه الموت، والموتُ في الجهادِ الحياةُ الأبدية. قال الله ـ عز وجل ـ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] والصحيح العموم كما قال الجمهور» (?) .
وعلى كِلا القولين؛ فالآية دالة على أن الدعوة للجهاد دعوة للحياة؛ فإن كان الصواب قول من قال: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} الجهاد، كان هو المطلوب، وإن كان الصواب القول بالعموم، فإن الجهاد هو أحد أفراد العموم، ولذلك قال ابن جرير ـ رحمه الله تعالى ـ: «استجيبوا لله وللرسول بالطاعة، إذا دعاكم الرسول لما يحييكم من الحق؛ وذلك أن ذلك إذا كان معناه، كان داخلاً فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدو والجهاد، والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن، وفي الإجابة إلى كل ذلك حياة المجيب، أما في الدنيا؛ فبقاء الذكر الجميل، وذلك له فيه حياة، وأما في الآخرة، فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها» (?) .
والجهاد دعوة للحياة؛ إذ يخرج به كثير من الناس من دائرة الأموات إلى دائرة الأحياء؛ فالكافر ميت وإن لم يكن في جوف الأرض مع أنه يدب عليها ويأكل من خيراتها. قال الله ـ تعالى ـ: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] ؛ فبالجهاد يهتدي كثير من الناس ويدخلون في دين الله تعالى. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «عَجِبَ الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل» (?) ؛ فهؤلاء قوم من الكفار وقعوا في الأسر بين أيدي المسلمين فهداهم الله ـ تعالى ـ للإسلام.
والجهاد دعوة لحياة طائفتين: المجاهِدين، والمجاهَدين. فأما المجاهَد فإنه إذا قَبِلَ دعوة الله واستجاب لها نفعه الله ـ تعالى ـ بها، وكان ذلك حياة له وإحياء لنفسه.
وأما المجاهِد فإن جهاده حياة له في كِلا الحالين: النصر على الأعداء، أو الشهادة في سبيل الله. وحياته بالجهاد في الدنيا بعد النصر أعظم من حياته قبل الجهاد وأكمل، وأما إن قُتِلَ المجاهد في سبيل الله ـ تعالى ـ فهو حي أيضاً، حتى وإن كان تحت التراب أو في بطون السباع. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، وقد أكد القرآن حياتهم بقوله: يرزقون؛ لأن الرزق للأحياء دون الأموات، لكن لما كانت حياة الشهداء في سبيل الله غير مدرَكة بالحواس؛ فقد يظن بعض الناس أنهم موتى كغيرهم، وقد جاء النهي من الله ـ تعالى ـ بقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154] فهم أحياء لكننا لا نشعر بحواسنا بحياتهم، وإنما نعلم ذلك بإخبار الله لنا.
والجهاد ليس دعوة لحياة الأفراد فحسب، بل دعوة لحياة المجتمعات والأمم؛ لأنه باهتدائها تمتنع أسباب انهيارها وهلاكها وزوالها؛ فعن زينب بنت جحش ـ رضي الله تعالى عنها ـ زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فَزِعاً يقول: «لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شر قد اقترب! فُتِحَ اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه. وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها. قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم! إذا كثر الخَبَث» (?) ، فكثرة الخبث مُؤْذِنة بهلاك المجتمعات ودمارها حتى وإن كان فيها صالحون، وإنما يقلُّ الخبث في المجتمعات وينقص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو أحد صور الجهاد.
والجهاد دعوة للحياة في كِلا نوعي الجهاد: جهاد الطلب، وجهاد الدَّفْع. فجهاد الطلب يُنقِذ الكفار من كفرهم، ويهديهم ـ بإذن ربهم ـ إلى الحياة الحقيقية، وجهاد الدفع ينقذ المسلمين من كفر الكافرين؛ فالكفار إذا غزوا المسلمين في ديارهم فإما أن يقتلوهم وإما أن يردُّوهم عن دينهم، وكِلا الأمرين موت، وقد تناهى إلى أسماعنا ما حدث من مقتل أكثر من مائة ألف من العراقيين عندما غزت أمريكا وبريطانيا ديارهم. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] فالدعوة إلى جهادهم في كِلا الحالين: الطلب والدفع، دعوة للحياة.
وفي الجهاد دعوة للحياة وإطالة عمر الدنيا؛ فبدوام الجهاد تظل الطائفة المنصورة باقية، ووجود المؤمنين أمان من هلاك الدنيا ودمارها؛ فإذا تغلب الكفار على العالم وطبَّق الكفر الأرض كلها؛ فقد حان قيام القيامة ودنت الساعة؛ فبقاء الدنيا رهين بوجود من يعبد الله، حتى إذا لم يوجد من يعبد الله ـ تعالى ـ ويقول: «الله الله» قامت القيامة. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» (?) ، وكون الجهاد مع ما يوجد فيه من القتال دعوة للحياة؛ فهذا من عظيم تقدير الله وحكمته الذي جعل في الموت طريقاً وسبيلاً للحياة.
2 ـ ومن أسباب تفضيل الجهاد كونه طريقاً لبقاء الدين محفوظاً من التغيير والتبديل: فلولا الجهاد في سبيل الله لتصدع بنيان الدين وتهدمت أركانه، وهذا الأصل تبينه سُنَّة الله ـ تعالى ـ في المدافعة. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] ، وقال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] ، وقد بين القرآن أن الجهاد يتحقق به جعل الدين كله لله، قال الله ـ تعالى ـ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإنِ انتَهَوْا فَإنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] ؛ ولهذا يقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: «لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتِلُ عليه عصابةٌ من المسلمين حتى تقوم الساعة» (?) .
3 ـ نصرة المستضعفين وإخراجهم من إذلال الظالمين: الجهاد في الإسلام فريضة دينية، وهو في الوقت نفسه عمل أخلاقي أصيل؛ فهو ليس عملاً للمغنم أو السيطرة بالباطل أو العلو في الأرض بغير الحق، وليس رغبة في احتلال أراضي الناس وسرقة خيرات بلادهم، وإنما هو جهاد في سبيل نصرة المستضعفين وحمايتهم وإنقاذهم من ظلم الظالمين وبطش المعتدين، فإن كان هؤلاء المستضعفون من المسلمين فقد جاءهم بهذه النصرة العز والتمكين والتأييد، وإن كان المستضعفون من الكافرين؛ فقد أزيل عنهم بطش الظالمين وسلطان المتجبرين الذين يصدونهم عن معرفة الحق والاهتداء به، ثم لا يجبرهم المسلمون بعد ذلك على الإسلام فإنه: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] وإنما يبينون لهم الحق ويدعونهم إلى اتباعه؛ فمن شاء منهم الإيمان آمن، ومن رفض تُرك ودينَه وأَمِن على ماله ونفسه وعرضه.
وهذه شهادات التاريخ ومدوَّناته قائمة موجودة ليس فيها حالة إكراه على دخول الدين، ثم الواقع أيضاً شاهد على ذلك؛ فلو كان الناس يُكْرَهون على الدخول في دين الإسلام بعد فتح البلدان لتحولت شعوب البلدان المفتوحة إلى الإسلام، ولم نجد في بلاد المسلمين يهودياً أو نصرانياً، ولا شك أن وجود أهل الكتاب من اليهود والنصارى في بلاد المسلمين منذ بدأ الإسلام إلى يومنا هذا لهو الدليل الواقعي الذي لا يمكن جحده على أنه لم يكن هناك إكراه في الدين. لقد كان الجهاد لمنع إكراه الكفار على البقاء على الكفر من قِبَل أنظمتهم الظالمة، وليس على إكراههم على الدخول في دين الإسلام.
وإذا كان هذا هو العمل الأخلاقي في قيام المسلم بفرض الجهاد؛ فإنه لمن العجب ما يقوله أناس من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا يقولون: إن الجهاد في الإسلام هو جهاد الدفع فقط، أي جهادٌ من أجل الدفاع فقط عن أنفسنا وأوطاننا؛ فأي أنانية هذه التي يريد هؤلاء أن يلصقوها بديننا وأخلاقنا! وهل من النبل والشهامة والرجولة والخُلُق الحسن أن يرى المسلمون الأرض وهي تعج بالكفر والظلم والقهر والاستعباد لخلق الله، ثم لا يحرك المسلمون ساكناً لا لشيء إلا لأنه لم يصبهم من ذلك شيء، وأن هذا الطغيان لم ينلهم؟ فأي خسة ودناءة ولؤم طبع هذه التي يلصقها بنا هؤلاء!
إن الأمة الإسلامية أمة ذات رسالة تحمل الأمانة، وعلى عاتقها تقع مسؤولية نشر التوحيد والعدل في الأرض، ومنع الظلم والطغيان. قال الله ـ تعالى ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] ، فقد استمدت الأمة خيريتها من كونها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس قاصراً أو محدوداً بالمجتمع الإسلامي، ولكنه عامٌّ يشمل كل أرض يمكن أن يصل إليها المسلمون؛ فهو يشمل الأمر بالتوحيد في مجال الإيمان، والعدل في مجال الحياة، في مقابل النهي عن الشرك والظلم. قال أبو هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام» (?) ؛ فهم خير الناس للناس وليس لأنفسهم فقط.
وإنه لمن الشيء الغريب من بعض هؤلاء أنك تجدهم يقبلون مثل هذا التصرف من دولة مثل أمريكا بزعمهم الدفاع عن حقوق الإنسان والعمل على نشر الديمقراطية، فيقبلون منها تدخلها في شؤون الدول بهذه الحجة، ويرفضون قيام المسلمين بواجبهم الديني والأخلاقي تجاه المظلومين والمقهورين في العالم بزعم أن هذا تدخل في حرية واختيار الآخرين! وأمريكا اليوم تنقل عشرات الآلاف من جنودها وآلياتها تقطع بهم آلاف الكيلو مترات، وينتقلون بين القارات ويقطعون الفيافي والقفار، وتجوب سفنهم البحار والمحيطات يحملون معهم كل أسلحة الدمار، يغزون البلاد ويحتلون الأرضين، ويزهقون الأنفس المعصومة من الرجال والنساء والولدان، ويزيلون الأنظمة، وينشرون الفساد؛ كل ذلك بزعم الدفاع عن حقوق الإنسان، وقد أثبتت الوقائع والأحداث أنه لا يحركها لذلك غير المطامع، والاستيلاء على ثروات البلاد، واستغلال خيراتها وفرض إرادتها وثقافتها على الشعوب، والعلو في الأرض بغير الحق. كيف لا تستحي أمريكا ولا من يؤيدونها من القتال تحت مبادئ هم اخترعوها بغير حجة صحيحة، ولا برهان مستقيم، بينما يستحي أناس من بني جلدتنا من الجهاد التزاماً بحكم شرعي شرعه رب العباد للعباد؟
إن خروج المسلمين من ديارهم تاركين أهليهم وأموالهم ومصالحهم قاصدين ديار الكفار لهدايتهم ودعوتهم إلى دين الله، وإزالة الأنظمة التي تحول بينهم وبين الاستجابة لدعوة الحق، وإدخالهم إلى السعادة الأبدية التي لا تنتهي بنهاية الحياة الدنيا، مع ما يتعرض له المسلمون من جراء ذلك من البلاء والشدة بل والقتل، لهو عمل يكشف بكل وضوح عن الخُلُق الإسلامي النبيل، وعن الوجه الحضاري المتميز لفريضة الجهاد في سبيل الله تعالى، كما يكشف عما رباه الإسلام في نفوس أتباعه في أنهم لا يعيشون لأنفسهم وكفى.
4 ـ وفي الجهاد منافع وفضائل أخرى: قال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «والأمر بالجهاد وذكر فضائله في الكتاب والسنة أكثر من أن يُحصَر، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة ومن الصلاة التطوع والصوم التطوع كما دل عليه الكتاب والسنة ... وهذا باب واسع لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه، وهو ظاهر عند الاعتبار؛ فإنَّ نَفْعَ الجهاد عامٌّ لفاعله ولغيره في الدين والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة؛ فإنه مشتمل من محبة الله ـ تعالى ـ والإخلاص له والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر الله سائر أنواع الأعمال، على ما لا يشتمل عليه عمل آخر.
والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائماً: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة؛ فإن الخَلْق لا بد لهم من محيا وممات؛ ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما؛ فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قله منفعتها؛ فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد، وقد يرغب في ترفيه نفسه حتى يصادفه الموت، فموت الشهيد أيسر من كل ميتة، وهي أفضل الميتات.
وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزَّمِن ونحوهم فلا يُقتَل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالاً للمسلمين، والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله» (?) .
5 ـ عون الله ومدده للمجاهدين في سبيله: وقد وعد الله ـ تعالى ـ المجاهدين في سبيله بالإعانة والمدد، فقال ـ سبحانه ـ: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] ، وقال ـ تعالى ـ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] ، وجعل في ذلك المدد البُشرى والطمأنينة للمجاهدين؛ فقال ـ تعالى ـ: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10] .
والقتال يكون جهاداً مشروعاً يحبه الله ويرضى عن القائمين به إذا كان في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا. والجهاد عمل منظم لا يكون فوضى، وإنما لا بد فيه من الأمير وإذن ولي الأمر إذا كان جهاد طلب، أما إذا كان الجهادُ جهادَ دَفْعٍ لدفع العدو الذي غزا بلاد المسلمين ونزل بساحتهم فلا يُشترَط شيء من ذلك، ويُدفَع كيفما أمكن الدفع، حتى تخرج المرأة بغير إذن زوجها والولد بغير إذن والديه. قال في الهداية: «فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع: تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى؛ لأنه صار فرض عين» (?) .
إن من أكبر الخيانة وإضاعة الأمانة الحيلولة بين الأمة وبين إعداد العدة للجهاد الحق الذي جعل الله ـ تعالى ـ فيه حياة الأمة وعزها، وما لم تستعد الأمة لمثل هذا الأمر؛ فكأنما سلمت عنقها لعدوها باختيارها.