عبد الله علوان البدري
موقف ـ الاغتيالات الجارية في البصرة «نزيف مستمر» ـ الشيخ الدكتور مثنّى بن حارث الضاري يتحدث عن عمليات القتل والتهجير واستهداف رموز السُّنّة في البصرة قائلاً:
الأوضاع في البصرة ليست جديدة، وما حصل في البصرة هو تصعيد استطاع الإعلام هذه المرة أن يبرزه، وذلك بسبب تصاعد الخلافات السياسية بين القوى الموجودة في البصرة، وغالبها قوى داخلة في العملية السياسية، وأيضاً الصراع بين ميليشيات مختلفة، وهذه الميليشيات لها صلة قريبة أو بعيدة من القوى السياسية الداخلة في العملية السياسية، أو لها صلة بجهات دولية وإقليمية وخاصة دول الجوار ذات العلاقة.
الوضع في البصرة سيِّئ جداً، فمنذ بداية الاحتلال وعمليات القتل على الهوية قائمة فيها، وإن أولى عمليات التهجير في العراق سُجّلت في هذه المدينة، وهناك شواهد كثيرة على ذلك؛ تتضح بالرجوع إلى الصحافة العراقية التي ظهرت بعد الاحتلال حيث نجد مؤشرات كثيرة على ذلك.
وبالاتصال بالكثير من العوائل في المحافظات العراقية ـ ولا سيما محافظات الوسط والشمال والجهة الغربية وحتى خارج العراق ـ نجد أن عشرات العوائل البَصْرية قد هُجّرت منذ الأشهر الثلاثة الأولى للاحتلال، وبقي الوضع في البصرة محتقناً إلى فترة، ثم سادَ نوع من الهدوء بعد انشغال الجميع بما يحدث في المركز في بغداد، ولكن هذا أعطى فرصة ـ خاصة في السَّنَة الأخيرة ـ لتصاعد أعمال القتل والتهجير ـ التي لا يُعلن عنها ـ من خلال ميليشيات جديدة إضافة إلى الميليشيات القديمة وميليشيات صغيرة، حتى بلغ عدد الميليشيات في محافظة البصرة ما يقارب (13) إلى (14) ميليشيا، بل ربما يكون العدد أكثر من ذلك، ومجموع الميليشيات في العراق تجاوز الثلاثين ميليشيا أغلبها في البصرة؛ بحكم انفتاح البصرة على من جاورها وعلى إيران وبُعْدها عن المركز.
وفي مناسبات سابقة صرَّح عدد من محافظي البصرة ومديري الشرطة فيها بخطورة الوضع، وآخرها كان تصريح مدير الشرطة قبل أشهر بأن الميليشيات التي تعمل بدون غطاء شرعي هي سبب مشكلة البصرة ومعاناتها.
كل هذا غضَّت الحكومات المتوالية في بغداد الطرفَ عنه إلى أن تفاقمت المشكلة عندما حصلت المشكلة بين القوى السياسية والميليشيات نفسها في المدينة، وآخرها المشكلة التي حصلت بين إحدى عشائر البصرة والشرطة بعد قتل شيخ هذه العشيرة ومداهمة أبناء العشيرة مراكز الشرطة واستفحال الأمر.
إن المشاورات حول تشكيل الحكومة والمحاصصات الطائفية والعِرْقية ألقت بظلالها أيضاً على البصرة، وخاصة فيما يتعلق في موضوع النفط، وكما أُعلن أن الوزارة السابقة قامت بتوزيع المناصب الوزارية على أساس اتفاقات قامت في الجزء الأساسي على المحاصصة الطائفية والعِرْقية؛ ولكن قامت في جزء آخر بعد احتواء هذه المحاصصة على توزيع وزارات معينة لقوى سياسية محددة، ومنها وزارة النفط التي كانت تابعة لإحدى القوى السياسية في البصرة التي منها محافظ البصرة، وسيطرة هذا الحزب على القطاع النفطي ولّد مشكلات وخلافات في البصرة، إضافة إلى انتشار عمليات تهريب النفط إلى خارج العراق من خلال عمليات كثيرة غير مشروعة.
أحدثَ ذلك نوعاً من القلاقل في المدينة، وصاحبه اضطراب الوضع الأمني، وازدياد عمليات الاغتيال وما إلى ذلك، فبدأت الاتهامات تُلقى من هذا الطرف على ذلك الطرف على خلفية تصفية الخلافات التي عادة ما تكون خلافات مالية أساساً ذات واجهة سياسية.
أجَّجت الاضطرابات تلك الأوضاع في البصرة، واستطاعت أن تحول البصرة إلى مدينة ساخنة جداً مع بداية فصل الصيف، وطالت هذه الأحداث كل سكان البصرة، ومنهم ـ طبعاً ـ بشكل خاص أهل السنة، وكلنا يعلم أن عدد أهل السنة في البصرة عدد كبير جداً يقارب المليون شخص، رغم عمليات التهجير الكثيرة والنزوح الاضطراري لكثير منهم.
تتمثَّل هذه المضايقات الأخيرة في استهداف رؤوس الأموال هناك، خاصة الحادثة المشهورة في استهداف شركة الفيحاء التي هي أساس لإعالة عدد كبير من العوائل البَصْرية بغضِّ النظر عن انتمائها الطائفي، ولكن يبدو أن هذه الشركة صُنّفت على أنها شركة سنّية، لذلك استهدفت وقُتل عشرة من مهندسيها في ساحة عامة في مدينة البصرة، الأمر الذي أجّجَ الأوضاع فيها، ولكن تمّ إخفاء هذا الخبر تماماً ولم يظهر إلى الإعلام إلا في وسائل قليلة جداً، بعد ذلك تمّت مداهمة هذه الشركة وإبعاد وفصل موظفيها؛ من خلال الضغط عليهم واضطرارهم إلى النزوح خارج المدينة، وبدأت أحداث (الزبير) المأساوية والتي تطورت بشكل سريع واستهدفت أولاً بعض الأئمة والخطباء وبعض ممثّلي القوى السنّية حتى الداخلة في العملية السياسية، كما حصل للشيخ خالد السعدون ورفاقه، وقبل ذلك بعض الأئمة والخطباء، وأخيراً عضو هيئة علماء المسلمين الشيخ وفيق الحمداني.
تطوّرت الأمور مما جعل أهالي هذه المنطقة يفكرون في الرحيل عن المدينة، وقد ساهم في هذا التفكير بروز صيغة جديدة للضغط على المواطنين ألا وهي اقتحام البيوت وقتل من فيها، وقد سجلت هذه الحوادث في هذا الصدد وأشرنا إليها في بيان للهيئة في مؤتمر صحفي الأسبوع الماضي.
عموماً الأوضاع في البصرة لا زالت متوترة، والدليل على ذلك: أن الحكومة في بغداد حاولت التعتيم على هذا الموضوع والقول: بأن الأحداث طبيعية، وأرسلت عادل عبد المهدي، ثم بعد ذلك اضطرت أخيراً إلى أن يتوجه رئيس وزراء الحكومة الجديدة ونائب رئيس الجمهورية إلى البصرة لمعاجلة الأمور، ولأول مرة تُفرض رسمياً حالة الطوارئ في البصرة، مع العلم أن العراق كله أشبه ما يكون بحالة طوارئ، مما يدل على أن هناك مشكلة كبيرة.
عموماً نحن نستقي الأخبار من خلال متابعتنا للواقع ولكن مع ذلك لدينا مصادر خاصة ومنها مصادر الهيئة في البصرة، ولعب فرع البصرة في الفترة الماضية دوراً كبيراً في التقريب بين وجهات النظر، ولعلَّ من الأمور التي لا يعلمها الجميع أن كثيراً من النشاطات الدينية والسياسية التي تقتضي جمع كل المكونات السياسية والقوى السياسية والدينية في البصرة غالباً ما تكون في مقرِّ هيئة علماء المسلمين هناك، وذلك لأن الهيئة في البصرة تمثل عاملاً مشتركاً بين الجميع بصفتهم العراقية، وقد حلّت حالات كثيرة جداً كان الفيصل فيها هو الاجتماع في مقر الهيئة في الجامع الكبير في مدينة البصرة.
يحاول ويسعى فرع الهيئة في البصرة ـ طبعاً ـ دائماً إلى إطلاع المقرّ العام في بغداد على ما يجري، ويحاول أن يهدِّئ الأمور، وأن يوصل تقارير متوازنة تصف الحالة كما هي دون رتوش، وفي الفترة الأخيرة توجّه رئيس الفرع في البصرة إلى بغداد، وزار المقرّ العام، ثم التقى ببعض الأعضاء الآخرين حيث شرح الحالة وقال: الوضع في البصرة وضع مؤلم، والأمور يجب أن يوضع لها حدّ، وأن تدخّلات الحكومة قد لا تنهي الأمور؛ لأن هناك أطرافاً أخرى سلطتها أقوى من سلطة الحكومة المركزية تسرحُ وتمرحُ في البصرة، وهذه الأطراف ـ طبعاً ـ معروفة، ولا داعي للخوض في تفاصيلها؛ لأن أهالي البصرة هم أكثر من غيرهم معرفة بها.
ما نريده من الإعلام العربي والإعلام الإسلامي أن يحاول الوصول إلى أصل المشكلة ومعرفة الدوافع الحقيقية لتوتير الأوضاع.
وقد يتساءل بعض المراقبين: لِمَ لا يوضع مرصد لأحوال أهل السنَّة في البصرة؟ وهل هناك شيء من هذا القبيل؟ فأقول: هذا الدور موجود فعلاً؛ لأنه يوجد عندنا في الهيئة قسمان مختصان بذلك، قسم الإعلام الذي يرصد كل هذه الحالات بالتواصل مع الفروع وخاصة فرع البصرة، وقسم حقوق الإنسان الذي يسجل كل التجاوزات التي تقع للعراقيين عموماً ومنهم أهل السُّنة، ولدينا تسجيل لتجاوزات كثيرة، ولعلَّ من أوائل تلك التجاوزات التي أشرنا إليها ونبّهنا عليها في بداية الاحتلال ما تعرَّض له أبناء البصرة من أهل السُّنة، وأذكر أنه في صحيفة (البصائر) وهي الجريدة الناطقة باسم الهيئة في فترة متقدمة جداً وفي عددها العاشر في أواخر 2003 كانت هناك تغطية واسعة حول هذه القضايا، ولذلك لدينا رصد كامل، وفرع الهيئة في المنطقة الجنوبية ـ أيضاً ـ لديه توثيق لتلك الأحداث، مع أننا ـ دائماً ـ نتكلم عن هذا الموضوع باعتباره انتهاكاً لحق الإنسان في الحياة، بغضِّ النظر عن انتماء الشخص سنِّياً كان أو شيعياً، عربياً كان أو كردياً أو تركمانياً حتى لو كان مسلماً أو نصرانياً؛ لأن لدينا ـ أيضاً ـ تسجيلات واختراقات على حق الإنسان غير المسلم في البصرة، وقد لجأتْ إلينا بعضُ الجهات والكنائس ـ على سبيل المثال ـ وشكت مراراً وتكراراً من ذلك.
وزارتنا وفود كنسيّة للهيئة لبثِّ الشكوى، ومن الوفود كذلك وفد الصابئة، والآن هناك موعد سيحدد قريباً لزيارتهم لمقرِّ الهيئة لإبلاغنا ببعض التجاوزات عليهم، إذاً؛ الهيئة تسعى إلى هذا الموضوع ولديها توثيق وتعلن هذا من خلال مؤتمراتها الصحفية وبياناتها الإعلامية واتصالاتها بالجهات الخارجية.
وحول سؤالنا للشيخ: ماذا يمثّل لكم اغتيال علماء أهل السُّنة؟ أجاب فضيلته قائلاً:
الوضع في العراق الآن وضع منفلت، والاغتيالات التي تقوم على أساس الهوية كثيرة جداً، والحالات التي بدأت باغتيال بعض الأئمة والخطباء والعلماء بدأت في البصرة ثم في بغداد، ونحن رصدنا ذلك منذ زمن، فأول من استشهد من أعضاء الهيئة كان في شهر 2 عام 2004، في فترة مبكرة جداً قبل أن يستحر موضوع القتل في العلماء عموماً والخطباء وعلماء الشرع تحديداً.
والقتل الآن يطالُ الكفاءات العراقية عموماً مهندسين وأطباء وعسكريين وأساتذة جامعات. ورابطة الأساتذة الجامعيين تُصدر بين فترة وأخرى بيانات مهمة حول هذا الموضوع، ونحن في الهيئة رصدنا كل هذه الحالات.
والذي حصل في الفترة الأخيرة أن ازدياد عمليات قتل الأئمة والخطباء قد كثر وخاصة أعضاء الهيئة وفي البصرة تحديداً، وهذا مرجعه يعود إلى أن هناك دوراً نشطاً لأئمة وخطباء المساجد في وَأْد الفتنة في العراق عموماً وفي البصرة تحديداً، والهيئة تبثّ روح التقريب بين وجهات النظر والجهات المختلفة سياسياً، ويبدو أن هذا السلوك من الأئمة وخطباء المساجد وعلماء الهيئة في البصرة لم يرضِ بعض الأطراف التي أرادت أن تبقي الأمور على حالها، وهذا لا يتم إلا من خلال استهداف أهل العلم والرأي وأئمة وخطباء المساجد؛ لأن استهدافهم سيُخْلي هذه الواجهات العلمية والدينية والسياسية ممن يتحدث بالحق وممن يحاول أن يصلح بين الناس. وأنا أضرب مثالاً واحداً على ذلك فبعد أحداث سامراء وما حصل فيها من مشكلة هدم المرقدين وغيرها كانت إحدى القوى الدينية العراقية خارج العراق وتحديداً في إيران، وعادت إلى العراق عن طريق البصرة، حيث اختارت أن تتوجّه إلى مقرّ هيئة علماء المسلمين من أجل بيان وجهة نظرها حول ما حصل في سامراء والتداعيات بعدها، وفعلاً توجّه إلى مقر الهيئة ولكن سماع الناس بتوجّه هذه الشخصية الدينية إلى مقرّ الهيئة جعلهم يحتشدون أمام مقرّ الهيئة انتظاراً لوصوله، الأمر الذي أحدث نوعاً من الخلل الأمني مما اضطره إلى تعديل مساره، والقصد من هذا أن الهيئة في تلك الأحداث المأساوية التي مرَّ بها العراق كانت قبلة للشخصيات الدينية غير السنّية من أجل بيان وجهة نظرها، فمن الطبيعي أن الهيئة لها دور في البصرة، ولذلك تحاول بعض الجهات تقزيم هذا الدور واستهدافها.
وحول سؤالنا للدكتور مثنَّى عن ماهيَّة الحلول الممكنة قريباً أو لاحقاً للوضع العراقي وخاصة ما يتعرض له أهل السُّنة؟ أجاب فضيلته:
الوضع العراقي ـ عموماً ـ لا يمكن أن يصلح إلا من خلال مشروع وطني، وأقصد به مشروعاً عراقياً؛ لأنَّ هذا المشروع طُرح مراراً وتكراراً، وكل الأطراف الموجودة في الساحة تعلم أن المشروع قد تبنّته القوى الرافضة للاحتلال، وفي مقدمة هذه القوى الرافضة للاحتلال هيئة علماء المسلمين، وطُرِحَ المشروع على الأخضر الإبراهيمي عندما زار العراق أوائل عام 2004، ثم طُرح على الجامعة العربية في السنة نفسها، ثم طُرح في مؤتمر الوفاق في القاهرة، ولا زلنا بين فترة وأخرى نؤكد عليه.
يقوم هذا المشروع على أساس خروج الاحتلال وفق جدولة زمنية معقولة ومقبولة دولياً، وفي أثناء ذلك تُختار حكومة من المستقلين البعيدين عن كل القوى السياسية؛ لأن أساس البلاء هو الصراع بين هذه القوى السياسية، وتتولَّى هذه الحكومة الإعداد لانتخابات عامة يشارك فيها جميع العراقيين؛ لأنها ستكون بإشراف دولي وبعد خروج قوات الاحتلال، وهذا هو الحل الشامل الذي نطرحه دائماً ونؤكد عليه، ويبدو أن كثيراً من هذه القوى السياسية لا تريد لهذا الحل أن يتمّ، وعلى رأس هذه القوى ـ طبعاً ـ الاحتلال؛ لأنه يرى بأن هذا المشروع هو إقرار منه بالهزيمة وفشل لمشروعه في العراق، ولذلك تراه يحاول أن يفشل هذا المشروع كلما طُرح، إضافة إلى جعل القوى السياسية الموجودة في الساحة في غالبها مستفيدة من بقاء قوات الاحتلال وإن أعلنت خلاف ذلك، والدليل: هو أعمالها ثم إعلانها قبل فترة أن القوات الأمنية العراقية لن تستلم زمام الأمور إلا في نهاية عام 2007، فإذاً؛ عندنا سنة ونصف بقاء للقوات المحتلّة، أو تطلب من قوات الاحتلال البقاء بصورة غير مباشرة، فلذلك لا أظن أن الحلول الجزئية التي تقوم بها الحكومة الحالية وتحت ضغط قوى سياسية معينة ـ إقرارها في البصرة وفي غير مناطق في العراق ـ ستوصلنا إلى أي نتيجة، فالنتيجة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال حل عراقي شامل، ولا أظن أن الأطراف السياسية الموجودة الآن تقتنع بأن الحلول الجزئية حلول قائمة على أساس مصالح للأسف، ولا نتّهم أحداً، وإنما واقع الحال أثبت ذلك، والدليل: المشكلة الأخيرة بين حزب الفضيلة في البصرة والحكومة في بغداد وموضوع النفط فإنها تبين بأن القضية قضية مصالح حزبية وذاتية وليست قضايا وطنية.
ختاماً: أسأل الله ـ تعالى ـ أن يلطف بالعراق وأهله، وأن يكفيهم المحن، ما ظهر منها وما بطن، إنه سميع مجيب.