إبراهيم بن سليمان الحيدري
لولا أن عينيه رمشتا من خلف تلك النظارة المقعرة لقلت إن الذي أمامي ما هو إلا عجوز تجاوز الثمانين عاماً؛ فتجاعيد وجهه وانكماش شفتيه واحديداب ظهره جعلتني أشك في مدى حياة ذلك الرجل..! كما أنه عندما تكلم كان هذا دليلاً آخر على أنه ما زال على قيد الحياة، وانتهى شكي بحياته عندما ابتسم، فأيقنت أني أمام كائن حي متفاعل مع البيئة التي حوله.
ذلك الرجل الطاعن في السن كان بائعاً في (بوفيه) صغير تعود ملكيته إلى جمعية خيرية داخل إحدى المستشفيات البريطانية. كل ما سبق استرعى تعجبي، إلا أن ما استدعى إعجابي تلك القطعة الصغيرة التي علقها الرجل على صدره، وقد كتب عليها بخط واضح: (متطوع) . ثم كتب تحتها (يرجى الكلام بوضوح عند مخاطبته) .
نعم! لقد كان هذا الشخص متطوعاً في جمعية خيرية ينفق من وقته ثلاثة أيام في الأسبوع بلا مقابل مادي سوى أنه متطوع.
عرفت بعد حديثي معه أنه يتطوع لصالح تلك الجمعية الخيرية إيماناً منه بأهمية الدور الذي تقوم به، وأيضاً ليخالط الناس ويخاطبهم حفظاً على ما تبقى من حاسة السمع لديه.
كان هذا هو المشهد، وإليكم التحليل:
إن توظيف طاقات الناس واستثمارها في الأعمال التطوعية ليست فقط كلمات تُشحَذ بها الهمم وعبارات تُهَيَّجُ بها العواطف، إنه نظام إداري متكامل يراعي قدرات المتطوع وإمكانياته ليسد بها حاجات محددة مسبقاً لدى المنظمة أو المجتمع. هذا النظام الذي يمزج بين قدرات المتطوعين وحاجات المنظمات الخيرية قائم على الإجابة عن أسئلة منطقية مثل: مَنْ، وكم، ومتى، وأين نريد المتطوعين؟
إن كثيراً من حالات فشل بعض المنظمات الخيرية في استثمار طاقات المتطوعين والمحافظة عليها ناتج من عدم وجود رؤية واضحة في التعامل مع المتطوعين، والمؤمَّل أن تتحول القناعات الذهنية المحمودة التي يحتفظ بها رواد العمل الخيري الإسلامي بأهمية المتطوعين إلى برامج وأنظمة إدارية تمارَس على أرض الواقع.
إنه إبداع ولا شك عندما تُستَثمَر طاقات متطوع ناهز الثمانين عاماً في وقت تفشل فيه كثير من منظماتنا الخيرية في جذب طاقات شباب يحملون بين جنباتهم رغبة وقدرة ومتسعاً من الوقت.